الشرط في الاستخلاف


بأقلام  القراء أحمد عبد الحميد

قال تعالى : {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}(سورة النور الآية 53)

ما من شك أن الأمة الاسلامية، اليوم تخوض تجربة عصيبة داخل مسارها الاصلاحي التغييري، خاصة من بعض الأفراد الذين يفتقرون إلى فقه الدعوة الاسلامية بكل خصوصياته وحيثياته، فتكون العاطفة الجيّاشة.. أو الحماس الدافق.. هو الدافع لهم، فتراهم ينتظرون النتائج العاجلة التي يحبون، ولا يرتاحون لقضاء الله وقدره، بل إن البعض منهم يتطلع إلى أكثر من ذلك… إلى تحقيق وعد الله للأمة بالاستخلاف في الأرض، دون امتلاك القدر الكافي من الزاد للتحقق بهذا الوعد.

فعلى ضوء الآية الكريمة أعلاه، سندرس بتوفيق من الله أسباب وشروط تحقيق وعد الله لهذه الآمة بالاستخلاف في الأرض.

1- ما حقيقة الإيمان والعمل الصالح؟

في كثير من آياته يتحدث القرآن الكريم عن الايمان والعمل الصالح، فيردف أحدهما بالآخر، ليدل على أنه : لا جدوى من الايمان بدون عمل صالح، ولا قيمة للعمل الصالح بدون إيمان وأن اجتماعهما هو السبيل للفوز في الدنيا والآخرة، وأكثر الناس يعوزهم الجمع التام بين هتاين الحقيقتين فمن تحقق فيه الايمان -على أحسن الظن- افتقر الى العمل الصالح، ومن عمل صالحا كان إيمانه ناقصا أو مفقوداً أصلا -إلا من رحم الله- {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين}(1) فالإيمان الحقيقي التام ما استغرق النشاط الانساني كله، وكان مفصّلا شاملا لكل جوانب الحياة مقترنا بعمل صالح، وهذا ما بيّنه العلامة ابن القيم رحمه الله بعدما تحدث عن الإيمان السائد الذي يعتريه النقص والتّجزّؤ والإجمال فأعطى تعريفاجامعا مانعا لحقيقة الايمان فقال : >والإيمان وراء ذلك كله وهو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علما والتصديق به عقدا، والاقرار به نطقاً والانقياد له محبة وخضوعا والعمل به باطنا وظاهراً وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الامكان، وكماله في الحب في الله والبغض في الله، والعطاء لله والمنع لله، وأن يكون الله وحده إلهه ومعبوده والطريق إليه تجريد متابعة رسوله ظاهرا وباطنا وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى سوى الله ورسوله وبالله التوفيق)(2) فالايمان بهذا المعنى حقيقة كبرى تسيطر على كيان الانسان وتطغى على جوانب حياته كلها، فلا يترك الانسان صغيرة ولا كبيرة إلا ويربطها بالله عز وجل وينظر إليها من منظور عقدي، يستحضر من خلاله أوامر الله ونواهيه، ويربط ذلك بقضية العقاب والثواب حتى تكون أعماله وسلوكاته كلها تُؤَدَّى بمقدار، وتخرج إلى الواقع بحساب، فيكون ذلك الايمان بمثابة ضابط وموجه لأعمال الانسان وأفعاله، تبعا للذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن الايمان بمنهج كامل للحياة يستغرق كل جزئياتها وتفاصيلها. من أكل الانسان وشربه، وطريقة نومه… إلى علاقة الراعي برعيته وطريقة حكمه كل هذا مرتبط بالله عز وجل ومنظم بشرعه وقانونه.

2- ما حقيقة الاستخلاف؟

ذكر القرآن الكريم آيات عديدة حول قضية الاستخلاف وهي القضية الأولى بالنسبة للإنسان المؤمن الذي لا يفتر لحظة واحدة عن الله عز وجل ولا يشرد ذهنه عن التفكير والتنظير لحال المسلمين ووضعية الدين بينهم لحظة واحدة كذلك، ذلك أن كل المؤشرات والهواجس تدل على أن المستقبل لدين الله تعالى وأن الأرض يرثها عباده الصالحون المصلحون، لذلك فإن هذه القضية تمثل مركز الثقل داخل الآية الواردة أعلاه.

وكلمة (الاستخلاف) مشتقة من الأصل خَلَفَ يقال خلف فلان فلانا بمعنى قام بالأمر عنه. والخلافة : النيابة عن الغير. والاستخلاف في الأرض هو الحكم والتصرف فيها تصرف المالك في ممتلكاته، ولكن حقيقة الاستخلاف ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم، إنما هي هذا كله حيث قال عز وجل في الآية : {وليبدّلنهم من بعد خوفهم أمنا}(3) لكن على شرط استخدامه في الاصلاح والتعمير والبناء لتحقيق ما أراده الله للبشرية.. وبغير هذا الشرط لا يكون الاستخلاف استخلافا وهذا ما يظهر جليّا في الآية الكريمة حيث يقول تعالى : {يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}(4) فاقترن الاسختلاف في الآىة لا بالحكم المطلق بل بالحكم بالحق، وبذلك ينتفي الاستخلاف تلقائيا إذا ما انتفى الحكم بالحق فَهُما وجهان لعملة واحدة -كما يقال- لا يحق افتراقهما وقد بين تعالى هذا في الآية الكريمة حيث قال : {وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم}(5). فهذا هو الجانب المعتد به في الاستخلاف بل بانعدامه لا يتحقق الاستخلاف وهو الحكم بالحق والتحاكم إلى الدين وتحكيمه في الحياة بكل جوانبها وحذافيرها يقول الشهيد سيد قطب : (وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب، كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها…)(6).

3- ما العلاقة بين الايمان والعمل الصالح وبين الاستخلاف؟

في الآية وعد من الله لعباده بالاستخلاف في الارض وهذا الوعد مشروط بشرط أساسي هو : الايمان والعمل الصالح، لذلك نكون أمام معادلة واضحة المعالم في متناول كل الناس وتسع كل إنسان، لا حرج فيها ولا ضيق : (الايمان والعمل الصالح —) الاستخلاف)

إن التعاضدية التي يشكلها الايمان والعمل الصالح تجعل الانسان يهب نفسه كلها لله عز وجل، لا يبقى في قلبه موضع ذرة إلا والايمان الحق يغمره، فيصبح الانسان لله وبالله، وهذا قوله في الآىة : {يعبدونني لا يشركون بي شيئا}(7).

والايمان الراسخ في القلب يجعل الانسان يصنع الأعاجيب والخوارق فالشحنة الإيمانية المنطلقة بالنفس لأداء دورها.. أكبر من أن تثبطّها الحواجز والعقبات وأقوى من أن تُقعدها عن أداء دورها ومهمتها التي أراد الله لها، لذلك فالنفس الايمانية القوية تتسم بأكبر قدر من الحركية لأن ذلك الايمان يتخطى حدود القلب ليصبح واقعا ملموسا يقوم بدوره في البناء والتشييد.. وهذه هي الوظيفة الكبرى للايمان. كما أن العضوية والتماسك الذي تقوم به النفوس المؤمنة داخل تجمع بشري معين، تؤتي أكلها في أقرب وقت، نظرا لتظافر الجهود وتكتّلها باتجاه هدف واحد هو تعبيد الانسان لله دون غيره، وتحقيق إنسانية الانسان في ظل دين الله وتحت راية حكمه. وهذا هو الاستخلاف الذي وعد الله به عباده.

إن هذه التربية الايمانية هي التي رسّخها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه طوال العهد المكي، تربية ايمانية شملت كل جوانب الحياة عند هؤلاء الابطال.. تربية اتسمت بالحركية والتعاضدية بين أفراد ذلك التجمع البشري.. تربية تتجاوز  بمفرداتها ومعطياتها الشهادة إلى الغيب والدنيا إلى الآخرة، والفناء إلى الخلود، فتتعلق بما عند الله {وما عند الله خير وأبقى}(8)، تربية صنعت الأبطال متألقين انطلقوا وهمهم إلحاق الرحمة بالعالمين وتخليص الانسانية من شقاوتها. وبذلك تحقق الاستخلاف في الأرض لهذا الجيل الفريد في تربيته وتكوينه.

إن التربية الإيمانية للنفس هي السبيل للتحقق بالبطولة ونشر نور الله في الأرض، ومن ثَم الاستخلاف فيها وفق المنهج الذي أراده الله تعالى. لذلك فهي عملية دائمة لا يجب أن تكفّ أوتني لحظة واحدة باعتبار النفس البشرية النزّاعة إلى الشر والهوى. ومن ثَمَّ فإن التربية الإيمانية للنفس تقتضي جهادها ومحاربتها في الله، ثم بناءها بناء مكينا على تقوى من الله ورضوان.

إن جهاد النفس وبناءَها هو الأصل إلى جهاد العدو والطاغوت لأنها تزيل عن الانسان الجُبن وحبّ الدنيا وزينتها فيهب نفسه لله ويتمنّى أن يموت قبل أخيه ليفوز بنعيم الآخرة.

والإيمان أيضا هو مفتاح دور البشرية في الأرض وشرط استخلافها فيها، متى قامت به على حقيقته تحقق وعد الله لها بالاستخلاف.

فما أحوج الأمة اليوم إلى هذه الحقيقة الكبرى التي بإمكانها أن تصنع كل شيء..بإمكانها أن تزيل كل الطواغيت أينما كانت وكيفهما كانت..

(ألا وإن وعد الله قائم، ألا وإن شرط الله معروف، فمن شاء الوعد فليقم بالشرط، ومن أوفى بعهده من الله؟)(9)

1- سورة يوسف، الآية : 103

2- الفوائد لابن القيم ص : 157 تحقيق : عصام الدين الصبابطي.  //     3- انظر الآية أعلاه من سورة النور.

4- سورة ص الآىة 25.

5- انظر الآية أعلاه من سورة النور.

6- في ظلال القرآن ج6 ص : 119.

7- انظر الآىة أعلاه من سورة النور.

8- سورة القصص الآية 60.

9- في ظلال القرآن ج6 ص : 121.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>