الصالح عبد الرزاق
تمر السنة تلو السنة، وما يزيد مرورها إلا في تأكيد حقيقة مُرَّة أصبح يعتبرها البعض واقعا لامناص منه ولا مخرج. إنها حقيقة التخلف العميق الذي جثُم على أمتنا، والانشداد الوثيق إلى الأرض الذي كبل حركتنا، فجعل أبصارنا لا تتجاوز أنوفنا ان هي أبصرت. وعقولنا لا تتخطى ظلنا إن هي فكرت. واستغرقتنا الدهشة من ذلك الذي كنا ننعته بالامس، العدو، كيف انطلق بعد أن انطلقنا ولكنه سبق، وتحرك بعد أن تحركنا ولكنه أدرك ولم ندرك، فكانت النتيجة أن انقسمنا على انفسنا بين من يبرر هذا الواقع المخزي ومن اتخذ موقفا هروبيا يلتمس من خلاله الانسلاخ عن هويته ونسيان ذاكرته، وتذويب شخصيته، عبر استدعاء هوية وذاكرة وشخصية “الآخر” ومن يحاول ايجاد الحل من الذات ولكنه -وهو في بداية الطريق- يواجه بشدة، وينعث بأقبح النعوث بل ويخوف منه وكأنهسيلقى بالجميع في الجحيم!!
تمر السنة تلو السنة، وكلما جاء يوم الثاني عشر من ربيع الأول تذكر المسلمون ذلك النبي العظيم الذي حول به الله مجرى التاريخ فجعل من قبائل متشتتة معزولة عن العالم وتعيش خارج أسوار الحضارة، خير قادة البشرية، ومن أناس بلداء لم يستطع عقلهم التمييز بين حجر صماء لا تضر ولا تنفع وبين الاله الخالق الذي بيده كل شيء وهو على كل شيء قدير، إلى أناس قمة في العدل قمة في التضحية، قمة في الفكر والاخلاق.. ومن أرض ميتة إلى أرض خصبة اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.. نعم، يتذكرون ذلك ولكن -ويا للأسف- لا للذكرى والعبرة وانما لاعجاب، والحنين الى الماضي الذي لا يحرك فيهم ساكنا. واليوم تأتي هذه الذكرى، وأمتنا الممزقة شر ممزق تغوص في أوحال تخلفها الذي استغله الأعداء بذكاء فائق فحاموا حولنا ينهشوننا من كل جانب لعلهم ييأسون من أن تقوم لنا قائمة بعد، وصدق فينا الحديث الشريف >يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها قالوا : أو من قلة نحن يومئذ يارسول الله. قال بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. وقيل : وما الوهن؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت< أليس هذا هو واقعنا اليوم؟ أمة المليار نسمة وما يزيد يذلها ملايين معدودة من اليهود-أجبن خلق الله- أمة قال فيها ربها >كنتم خير أمة أخرجت للناس< تتردى إلى أرذل أمة سياسيا واقتصاديا وعسكريا وثقافيا بل -وهذا هو الأدهى- أخلاقيا.
فحري بنا، والحال هذه أن تكون ذكرى ميلاد النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم محطة نحاسب فيها أنفسنا حسابا دقيقا ونراجع فيها أوراقنا مراجعة حقيقية عسانا نصحح المسير وندرك أسباب الداء فيسهل علينا الدواء، ذلك أن التاريخ إن نسي كل شيء فإنه لن ينسى لنا أنا خنا أمانة محمد صلى الله عليه وسلم الذي >مارس عمليات الربط الحضاري على المستوى النفسي والاجتماعي وحقق أعلى مستويات الاتقان المنهجي والثقافي، وترك لنا نموذجا لبناء حضاري عالمي شامخ، بمقدوره أن يقدم لنا >الهداية الحضارية< كلما استدعيناه بوعي، وفهمناه بعمق “ولكنا خناه وأصبحنا أمة محجوبة عن الكون ونواميسه وأسراره وقواه، وقد كان من الممكن أن يكون هول المصيبة أخف لو أننا حين تكاسلنا واستنمنا، نعيش على ظهر الارض وحدنا.. ولكننا في سباق مع أمم أخرى لا تنام!” أمم لا رسالة لها، أو لها رسالة مادية محددوة قوامها الباطل والهوى..
ومع ذلك تسابق الريح نشاطا وعزيمة ونحن ممثلي الحق المأمورين بالشهادة على الناس “لا نعي من رسالتنا شيئا ذا بال” فبالاحرى تبليغها للناس.
ان هذا المقال، ليس غرضه الوقوف على كل عيوبنا والتي لا يمكن أن يحصرها عد، ولا غرضه توزيع الشتائم على أمتنا.. وإنما هو رؤية مغايرة لماهو سائد في كيفية الاحتفال بذكرى ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، رؤية قوامها استغلال مثل هذه الفرص -في زمن عزت فيه الفرص- من أجل الدعوة الى الله وإلى تحكيم شرعه -سبحانه- في عاداتنا وسلوكاتنا. ذلك أنه -وكما جاء في العدد 34 من جريدة المحجة الصفحة الأخيرة- “الكثير من العادات والسلوكات التي يمارسها المجتمع في حفلاته ومناسباته الدينية والدنيوية لها أصول اسلامية ولكنها انحرفت مع الزمن فكيف نهتدي لاعادتها لهذه الأصول”؟ إن هذا المقال تذكير بالأصل في هذه الأمة والذي يلخصه قوله تعالى >هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس< فليسأل كل منا نفسه ماذا قدم حتى تعود أمة الاسلام أمة تشهد على الناس بما شهد عليها محمد صلى الله عليه وسلم.