ذ. عبد الله حسيني
يتعرض المفكر الفرنسي روجي كارودي في هذه الأيام لهجوم عنيف سواء من طرف بعض المسلمين أو من طرف الصهيونية العالمية. فاذا كان هذا الهجوم بالنسبة لهؤلاء المسلمين لا يتجاوز طابع التشهير الاعلامي، والكلامي، فانه بالنسبة للصهاينة وصل إلى حد المتابعة القضائية والتهديد، هذا فضلا عن الدعاية المغرضة التي طالت وسائل الاعلام الغربية.
هذه الحملة الصهيونية ضد كارودي لها ما يفسرها لأن هذا المفكر اصدر كتابا تحت عنوان “الاوهام المؤسسة للسياسة الاسرائيلية”(1) دحض فيه المزاعم الصهيونية التي تبرر بها اغتصاب الارض الفلسطينية. لكن الذي يدعو إلى الاستغراب هو حملة بعض المسلمين ضد گارودي. هذه الحملة تدفعنا إلى طرح تساؤلات عديدة سواء على مستوى طبيعتها أو على مستوى اختبار وقتها.
فعلى المستوى الاول، كلنا يعلم ان گارودي كفيلسوف واديب ترعرع في احضان الحضارة الغربية قد تعرض مند ان اشهر اسلامه لبعض الانتقادات والملاحظات على بعض مواقفه خاصة ما يرتبط منها بالجوانب الفقهية. لكن هذه الانتقادات كانت لا تتجاوز في اغلب الاحيان طَابَعَ الحوار البناء واسداء النصيحة بالتي هي احسن. هذا الحوار أمْرٌ طبيعي ان يثار حول آراء هذا المفكر لأن الرجل له شهرة ولانه ايضا يميل الى آراء اهل التصوف شأنه شأن غالبية المفكرين الغربيين الذين يعتنقون الاسلام بدْءاً من روني گينون (René Guenon) الذي له كتابات تعتبر من اجود ما ألف في انتقاد الحضارة الغربية.
لكن في الآونة الاخيرة طلعت علينا بعض وسائل الاعلام العربية بأسلوب جديد غير الذي ألفناه من قبل، وكانت البداية ان قامت بعض وسائل الاعلام الخليجية بنشر كلام نسب الى گارودي وعلى اثره انهالت الاقلام للنيل من الرجل، فمن مكفر ومن مفسق ومن مزندق… حتى بلغ الامر ببعضهم الى الحديث نيابة عن المسلمين والمسيحيين واليهود، فقام بإخراج كارودي من الديانات الثلاث (انظر المحجة عدد 50). وكان من الأولى احتراما لقواعد المنهج العلمي ولنزاهة البحث أن تقوم الأقلام التي حكمت على كارودي بالتأكد من صحة ما نسب إلى الرجل {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}-سورة الحجرات- فكثير من وسائل إعلامنا العربية لا تخلو من الكذب وتزييف الآراء بحيث تختار من الموضوع نصوصا تخرج الكلام عن اطاره العام وتُقَوِّلُ الانسان عكس ما يقصده. فان ثبت ذلك فمن الأولى احتراساً وتَوَرُّعاً وقَبْلَ إِصْدَارِ الأحكام أنْ يُسْأَلَ الرجُلُ هل ما فهمناه من قوله هو فعلا ما يقصده حتى نتجنب أن نُقَوِّلَهُ مَا لَمْ يَقُلْ.
ولْنَفْتَرِض جدلاً بأن ما قاله كارودي صحيح في ظاهره وأنَّهُ قدْ أكده في مَعْنَاه فهل من الحكمة أن تُثار حَوْلَهُ كُلُّ هذه الزوبعة؟ هل قَلَّتْ حولنا الجبهات حتى نفتح جبهة أخرى؟ هل قَلَّ حولنا الأعداء حتى نُنَاصِبَ العداء لأشخاص يدعون الإسلام، بل ويناوِئون من يُحَارِبُهُ، وهذا هو حال كارودي الذي دخل في صراع مع الصهاينة والذي له وقع كبير على ابناء جلدته عندما يتحدث عن التصور العام للاسلام، كَمَا أنَّهُ افحم في مناسبات عدة المناوئين للاسلام خاصة عندما يُستدعى من وسائل الإعلام مناظراً أو محاضراً.
بالإضافة إلى ما سبق فاللَّهُ تعالى يدعونا الى التعامل بالبر والقسط حتى مع الكفار الذين التزموا الحياد ولم يناصبونا العداء والحرب، يقول الله تعالى{لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ في الدِّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِن دِيَارِكُمْ أنْ تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إليْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِين}(الممتحنة) ومن آثار البر والقسط اقامة قنوات للحوار البناء، والحوار لا يمكن ان يكون الا اذا تم الانطلاق من نقاط الالتقاء وليس من نقاط الخلاف، وهذا أجْدَرُ ان يُقَرِّبَ المواقف.
اما على مستوى اختيار التوقيت فمن واجب كل مسلم ان يتساءل لماذا تزامنت حملة هؤلاء المسلمين وحملة اليهود ضد كارودي؟ هل وقع ذلك بمحض الصدفة ام إِنَّ هذه الاحداث تمت برمجتها وتخطيطها من قبل؟ لَقَدْ أشْهَرَ كارودي اسلامه منذ بداية الثمانينات ومواقفه لم تتغير بين عشية وضحاها فلماذا ننتظر اكثر من عشر سنوات لإثارة هذه الحملة؟ ولماذا هذا الوقت بالذات؟ وهل هذا الوقت مناسب؟؟ خاصة ونحن نعلم بان المحافل الصهيونية تَتَرَبَّصُ به الدوائر؟ وما يَخْشَاهُ كُلُّ مسلم هو ان يخلص المرء الى استبعاد الصدفة في تزامن هذه الاحداث لأن ذلك سوف يدفعنا الى القول بأن الأيادي الخفية للصهيونية قد تحركت لاثارة الزوبعة ضد الرجل في العالم الاسلامي أولا وعندما يقضى عليه وتَنْفُضَ الامة الاسلامية التي يدعي الانتماء اليها -يَدَهَا منه- إذْذَاكَ يأتي دور الصهيونية للقضاء عليه. وكأن لسان الحال يقول بأن الرجل طُعِنَ من الخلف قبل أن يُطْعَنَ من الامام.
اما فيما يخص الحملة الصهيونية التي يتعرض لها كارودي فكان سببها الرئيسي هو صدور كتابه السالف الذكر وليس هذه المرة الأولى التي يصطدم فيها هذا المفكر مع اللوبي الصهيوني في الغرب، فلقد اصطدم معه لما نشر مقالا في جريدة لومند يستنكر فيه اجتياح اسرائيل للأراضي اللبنانية، وبعد ذلك تُوبع قضائيا لمَّا قام بإصدار كتاب قضية اسرائيل : الصهيونية السياسية. وبعد هذا الكتاب الذي ترجم الى العربية قام بإصدار مؤلف آخر عنونه “فلسطين”، وفي أواخر سنة 1995 يقوم كارودي ليعيد الكرة بكتاب جديد سماه “الاوهام المؤسسة للسياسة الاسرائيلية” هذا المؤلَّف كان بمثابة الصاعقة التي نزلت على الصهاينة خاصة في هذه المرحلة التي بدأت تتكاثر الاصوات المناوئة في الغرب تحت مظلات متعددة. لماذا كان لهذا الكتاب كل هذا الوقع؟ وكيف تم تكييف الحملة ضد كارودي من طرف اللوبي الصهيوني؟ للاجابة على السؤال الاول لابد من كلمة حول الكتاب الذي سوف تكون لنا معه وقفات أخرى في المستقبل ان شاء الله كما اشرنا الى ذلك في المقدمة، فان الكتاب جاء ليفنَّدَ المزاعم التي تستند إلَيْهَا إسرائيل لتَبْرِيرِ سياستها في فلسطين هذه المزاعم التي سماها الكتاب أساطير أو أَوْهاماً نابعة إما من التوراة، وإما من التظلم بجرائم النازية.
والذي أقض مضجع الصهاينة هو ان كارودي قال بان هذه الجرائم تم تضخيمها والزيادة فيها بحيث لاتوجد شواهد تاريخية فعلية تؤكد ما ذهب إليه اليهود في مزاعمهم، وفي هذا الصدد يقول المؤلف (بان اسطورة إبادة ستة ملايين يهودي…) اصبحت عقيدة(تضفي صبغة القداسة (كما تشير الى ذلك كلمة اولوكست Holocauste) على كل التجاوزات التي تقوم بها الدولة الاسرائيلية في فلسطين< ويضيف بان الاستناد الى هذه الاسطورة )يجعل اليهود فوق كل قانون دولي< لقد حاولت الصهيونية ان تكتب تاريخ الحرب العالمية الثانية وفق ما تقتضيه مصالحها بحيث جعلت منها اكبر جريمة إِبادة ترتكب في التاريخ وان الشعب اليهودي كان الضحية من دون الشعوب الاخرى (وهذه الاسطورة -يشير كارودي- كانت في مصلحة الجميع، فالحديث عن أكبر جريمة إبادة في التاريخ كانت ذَرِيعَةَ المستعمرين الغربيين لنسيان جرائمهم)(2)
ومن ثم فإنَّ كُلَّ من تعرض لهذه الفترة التاريخية بقراءة أُخرى مختلفة يقف له اللوبي الصهيوني بالمرصاد. والامثلة على ذلك متعددة وأكثرها دلالة هي رسالة الدكتوراه التي نوقشت وبعد ذلك نزعت هذه الدرجة من صاحبها وأُدِّبَ الاساتذة المناقشون لأن صاحب الرسالة -رَغْمَ أنَّها في الآداب- تعرَّضَ لهذه الفترة وقال قولا يخالف الطَّرْحَ اليهودي فكل من يخالف الصهاينة في القراءة التاريخية لهذه الفترة يصنف في الاتجاه الذي يسميه هؤلاء اتجاه المراجعين (Révisionnistes) او الرافضين(Les Négationistes). ومن بين هؤلاء نذكر على سبيل المثال لا الحصر بول راسيني (1967 – 1906 Paul Rassinier) وروبير فوريسون (Faurisson R.) ويعرف هذا الاتجاه نُمُوّاً متزايداً في أوربا وإمريكا خَاصَّة بعد أن أصبح محط اهتمام اساتذة وباحثين. وذريعة الصهاينة الظاهرة في محاربتهم لهذا الاتجاه وكل الأطاريح التي تقترب من وجهة نظرة كأطروحة كارودي هو ان هذه المواقف تغذِّي تنامي النازية الجديدة واللاسامية العنصرية، أما الخَفيَّةُ فتكمن في كون هذا الاتجاه ينسف الايديولوجية الصهيونية التي تقوم بتَبْريرِ كلِّ أَفْعَالِها استناداً إلى معاناة وتضحيات الشعب اليهودي خلال أَحْقَابٍ تاريخية وخصوصاً في المرحلة النازية. هذه المرحلة نسجَ الصهاينة احداثها وفق منظورهم وجعلوها حقائق مطلقة لا يرقى اليها أيُّ ارتياب بل وأبْعَدُ من ذلك اعْتُبرت من العقائد المسكوت عنها. وكل من حاول ان يشكك فيها يحارب حَرْباً شَعْوَاءَ كما فُعِلَ بكارودي من قَبْلُ ويُفْعَل به الآن.
اما بالنسبة للسؤال الثاني المتعلق بالحملة ضد كارودي فيمكن تقسيمها الى مرحلتين :
ابتدأتْ المرحلة الأولى باصدار الكاتب لمؤلَّفه عند الناشر (La vielle Taupe) وهو الناشر الوحيد الذي قبل طبع الكتاب وبعد شهرين من صدوره نَفِذَتْ طبعته الأولى ثم قام اتجاه المُراجعين بإدخاله في شبكة انترنيت (Inteternet) التي يَظضمُّ الملايين من المنخرطين في شتى انحاء العالم خاصة الغرب، هذا الانتشار الواسع أثار حفيظة الصهاينة فبَدَأ التهديد والمضايقات، إذْ مُنع الكاتب من دخول كندا. وانتهى الأمر بالتحقيقات القضائية والمحاكمات هذا فضلا عن التشهير الإعلامي، حيث وصف بنعوت متعددة مساند للخُمَيْني وللقَذَّافي ومتخصص في لاشمي(3)، وفي المقابل قامت وسائل الاعلام بالتذكير ببعض الكتب التي تخدم اطروحات الصهاينة(4) وكان من المنتظر ان تنتهي الحملة عند هذا الحد، ويُسْكَتَ عن الموضوع لأن كثرة التشهير الإعلامي قد يثير الاهتمام وبذلك يأخذ الموضوع ابعاداً لا تسر اللوبي الإسرائيلي.
لكن الامر لم يقف عند هذا الحد، ففي 18 ابريل -وهنا تبدأ المرحلة الثانية- أقام كارودي ندوة صُحُفِيَّة ذكر فيها شَخْصِيات ساندته في معركته، وقَدْ رُوجِعت هذه الشخصيات فتراجعت شخصية واحدة بقيت متمسكة بمواقفها وبمساندتها لكتاب كارودي وهذه الشخصية لسيت مطلق الناس وانما تعتبر من رجال الدين الاكثر شعبية في فرنسا وهو لابي بيير (L’abbé Pierre) الذي اسمس جمعية خيرية لها فروع في جميع انحاء فرنسا. هذا الرجل لم يكتف فقط بمساندة الكتاب وانما ادلى بتصريحات لا ترضي اللوبي الصهيوني (5) ومن بين ما قاله ان ارض الميعاد لم تَعُدْ أرْضاً موعودة طالما انها مغتصبة، وقال ايضا بان مجموعة من الاشخاص جاءوا يهنئونه لأنه أخيراً كانت له الجرأة للحديث عن المسكوت عنه. بعد هذه التصريحات تواترت عناوين الجرائد والصحف لإدانة رجل كانت تكن له الاحترام والتقدير مند سنين وذلك بالتأكيد على فَدَاحة الخطأ الذي ارتكبه(6) والخُطْوَة الشنيعة التي قادته لمساندة رجل غير مرغوب فيه(7)، كيف يقوم هذا الرجل المدافع عن القضايا العادلة والمحبوب من الفرنسيين بمؤازرة كارودي؟ هذا ما لم يهضمه اللوبي الصهيوني في فرنسا.
وقد تكشف الايام عن شخصيات أُخْرَى لها نفس الموقف، لكن ضغط اللوبي الصهيوني يفرض في الدول الغربية إِرْهاباً فكريّاً لا مثيل له. اما عندما يتعلق الامر بكتاب يَسُبُّ عقِيدَة المسلمين فَنَفْسُ هؤلاء هُمْ الذِين يُنَادُونَ بحُرِّية الرأي والديمقراطية.
الهوامش :
1- R. Garaudy : les mythes fondateurs de la politique israelienne, Paris, la vieille Taupe, 1995
2- liberation, lundi 29, Avril, 1996.
3- le monde, samedi 6 mai 1996
4- Emission 7 sur 7, T.V.5, Dimanche 7 mai 1996.
5- liberation, lundi, 29 Avril, 1996.
6- l’expresse 25/4/96.
7- le point 27/4/96.