قامت جريدة “العالم الإسلامي” التابعة لرابطة العالم الإسلامي، بإجراء مقابلة في عددها الصادر يوم 15/4/96 في صفحة “عالم وعلم،” مع الأستاذ الدكتور عبد السلام الهراس، ونظرا لأهميته أحببنا أن تعمّ فائدته على قرّاء “المحجة”، لذلك اخترنا الفقرات التالية من هذا الحوار.
- ان الحضارة الجديدة التي قربت المسافات الشاسعة وجعلت الكرة الارضية متقاربة الاجزاء متصلة الأفكار والعقول والأذواق والعادات والأخلاق، قضت على كل محاولة للانفصال عن الجيران والأباعد، ومعنى ذلك اننا نعيش في عالم جديد، ولهذا العالم الجديد اتجاهات متباينة، وقوى متضاربة، كل حسب امكانياته، فكيف يرى الدكتور الهراس الأمة الإسلامية وهي جزء من هذا العالم الجديد، وكيف لنا أن نواجه هذه الاتجاهات والقوى؟
* اننا نعيش معركة خطيرة أحببنا أم كرهنا وان العصر الذي كان يمكن للأمم أن تنعزل بنفسها وان تقرر غلق حدودها عليها دون الخارج قد انقضى، فالحضارة الجديدة حقيقة قد قربت المسافات الشاسعة وجعلت الكرة الارضية متقاربة الأجزاء متصلة الافكار، والذي يهمنا أولا وبالذات ان نشعر بأننا نعيش في قلب هذه المعركة، ان التسلل الثقافي والغزو الفكري ترصد له ميزانيات ضخمة وعن طريقهما استطاع الاستعمار ان يحقق اهدافا عظيمة في البلاد الاسلامية، واذن المعركة هي ضدنا ومن اجل السيطرة علينا، فنحن طرف فيها، ومادمنا كذلك، ينبغي أن ندرك حقيقتها ونحدد طبيعتها، لأن الشعور يبعث على الاستعداد المناسب للدفاع والهجوم، فالدنيا صراع وانما تؤخذ الدنيا غلابا، وسلاح أي أمة في هذه المعركة التي نخوضها هو الافكار والرجال.
فما سلاحنا نحن في هذه المعركة وما جندنا لها من رجال وافكار؟
يجب أن نعترف بادئ ذي بدء أننا معتدى علينا فلسنا في دور الهجوم، بل في دور الدفاع، فهل نقوم نحن بهذا الدور؟.. الواقع اننا دافعنا دفاع الأبطال عن كياننا السياسي، فلما كف الله أيدي الأعداء عنا توهمنا ان المعركة انتهت وهي في الواقع لا تزداد الا حدة واشتدادا، ونتيجة لذلك التوهم استسلمنا للدعة والتمتع، وتركنا حصوننا التي كنا نعتمد عليها في المعركة تتساقط في أيدي الأعداء : أي تركنا أجيالا من شبابنا يضيعون في غبار المعركة فيصطادهم العدو واحدا واحدا، ليحولهم الى فيالق ضد أمتهم، وهكذا نجد شبابا بل رجالا يجهلون عن دينهم كل شيء ويعرفون عن غير دينهم كثير من الأشياء، وان كانوا قد لقنوا نظريات ومطاعن عديدة تقدح في دينهم وتشوه نظرتهم اليه وتمسخ حقائقه في أدمغتهم وتبشع صورته في عيونهم فينشأون على معاداته، وينمون على التنصل منه وتتركب في انفسهم عقدة النقص : يخجلون أن يحملوا اسم مسلم حتى اذا وسم احدهم بهذا العار في بلد أجنبي صب جام حقده على الاسلام مع الحاقدين، وفي الحين تراه يعلن استنكاره لتعدد الزوجات في الاسلام واستبشاعه للطلاق واستهزاءه من نظام الزكاة، واستخفافه بالصلاة واستقباحه لقطع اليد في السرقة، وحد شارب الخمر، وهكذا، بالنسبة لتعاليم الاسلام الأخرى، فان اتصل به من يفهم الاسلام وشرح له حقائقه وأطلعه على حكمة قوانينه وفلسفة تشريعاته وعباداته أذهله الأمر، وظن أنك تطرح عليه دينا جديدا ما سمعه قط، وقد يرد عليك بعضهم بابتسامة صفراء يختلط فيها الخبث والجهل بالاستهزاء، والشباب من هذا النوع كثير، تزداد كثرته مع مرور الأيام كما يزداد جهله بالإسلام باطراد نموه. وهكذا تسقط حصون كثيرة في يد أعداء الاسلام لأنها لم تجد من يدافع عنها ويذود عن حياضها أو بعبارة صريحة لم يجد هؤلاء الشباب من يعلمهم الاسلام، فتلقفته يد الكفر وشحنت عقولهم بالسموم، وبذلك تمكن من قلبهم عداء للاسلام، وأصبح هذا العداء يكوّن من ثقافتهم وسلوكهم جانبا مهما… ان الحق يفرض علينا أن نكون أكثر صراحة وجرأة ويجعلنا نصرح بأن أغلب أولئك الشباب بعيدون عن الفكرة الإسلامية السليمة وعن التفكير الاسلامي الحي، وبالتالي عن الرسالة الاسلامية.
ان الذين ناصبوا الاسلام العداء وجاهروا بالقذف في تعاليمه جلهم ممن تربوا في أحضان تلك المعاهد التي شيدها أعداء الاسلام، وخصوصا أولئك المرضى بحب الظهور، الذين يتخذون (المخالفة) وسيلة لذلك، فتراهم يحرفون الكلم عن مواضعه ويتأولون في الدين ليفسدوه، فالذين قالوا ان الاسلام ليس دين حكم وألفوا في ذلك واستدلوا بنصوص حرفوها هم من تلك المعاهد، بل ان مواقف بعض المؤسسات في العالم الاسلامي لم يكن موقفها من الدعوة الاسلامية الحقة مشرفا، فلو ان هذه المعاهد المنبثة في أرجاء العالم الاسلامي كانت سليمة المنهج والعمل لأخرجت قيادات حضارية تمدن العالم بهذا الدين -ولا ننكر ان هذه المؤسسات أخرجت لنا علماء أفاضل نعتز بهم-، ان المؤسسات الدينية في العالم الغربي تخرج كثيرا من الفدائيين الذين يجوبون اقطار افريقيا وآسيا وغيرهما من أجل الدعوة الى دينهم، وبهذا استطاعوا ان يؤسسوا جمهوريات مسيحية بجانب البلاد الاسلامية بافريقيا، وان مما يؤسف له ان لدينا خامات عظيمة وطاقات شديدة ولكن كل ذلك يضيع اذا لم نحاول استغلالها وتوجيهها.
- انتقل مع الدكتور عبد السلام الهراس للحديث عن علاقته بالمفكر الاسلامي مالك بن نبي؟
* ما ان عدت الى المغرب بعد رحلة طلب العلم في المشرق -لبنان ومصر- حتى سارعت الى كتابة أول مقالة لمجلة دعوة الحق في العدد الثاني من السنة الثانية 1958م تحت عنوان (الفيلسوف الانسان) للتعريف بمالك بن نبي وبأفكاره التي كانت مجهولة هي وصاحبها، لأن الرجل كان يعيش في أحوال صعبة بفرنسا والجزائر اذ فرض عليه حصار شديد منعه من تدبير أمور معيشته مما جعله عاطلا رغم نيله شهادة عليا في الهندسة، كما أن أفكاره ظلت هي أيضا محاصرة حصارا شديدا لا يكاد يعرفها أحد حتى أقرب الناس اليه، وكان صحبة حمودة بن الساعي والدكتور عبد العزيز خالدي رحمهم الله جميعا وصالح بن الشاعي أطال الله بقاءه يكونون مدرسة فكرية اسلامية متميزة، ولكنها لم يكن لها أي نفوذ في أوساط الشباب الى أن أتاح الله لمالك رحمه الله ان يهاجر الى مصر سنة 1956م فيتصل بنا فتكون الانطلاقة الأولى لأفكاره وشاء الله أن تكون مجلة دعوة الحق أول مجلة اسلامية في العالم الاسلامي تتولى التعريف بمالك بن نبي وبأفكاره بقصد واستمرار، وقلت أول مجلة لأنه سبق لجريدة الرأي العام التي كان يديرها الأستاذ أحمد بن سودة أن نشرت أول مقال ذي بال عن أفكار مالك بن نبي بعنوان (الاستعمار في نفوسنا) وذلك في سنة 1956م نقلا عن مجلة روزاليوسف بقلم صاحبها احسان عبد القدوس الذي كتب تلك المقالة.
وكانت الحضارة الجديدة هي التي أثارت ضمير مالك بن نبي وقرعت أعماقه وانسانيته، فهب بكل ما يملك من عبقرية وفكر، يلتمس للانسانية الخلاص من الفناء المحقق الذي يقترب منها كل يوم بخطى واسعة، والمشكلة التي تدفع بالكارثة دفعا الى نقطة الانفجار، تتمثل في وجود انسان غير متحضر، ومتحضر غير انسان، ومهمة (مالك) هي التخطيط الدقيق العملي للارتفاع بالانسان الى مستوى الحضارة، وبالتحضر الى مستوى الانسان، أي ان رسالته هي ايجاد الانسان المتحضر، ففي هذه النقطة يوجد الخلاص للانسانية، ومجرد التوجه الواعي نحوها من الطرفين يجعلنا نتفاءل بمصير الانسانية، وعند الوصول اليها تذوب الكارثة، وتنمحي بزوال اسبابها التي تكمن في الانسان غير المتحضر، من ناحيتها السلبية، أي باعتباره موضوعا للاستغلال والاستعمار، وفي المتحضر غير الانسان من ناحيتها الايجابية، باعتباره متسلطا ومستعمرا، وبمعنى أوضح تزول الكارثة بتطهير الانسانية بشطريها من الاستعمار ومن القابلية للاستعمار، وفلسفة مالك تقوم على النظر في التاريخ الانساني الطويل، والتعمق في أحداثه وأسبابها، واستنباط الحقائق الاجتماعية التي نستطيع أن نستفيد منها في معالجة أزمتنا الحاضرة على ضوء ما أصابنا في الماضي من فشل أو نجاح، ولذلك يرى (مالك) ان الانسانية مرت بأكبر تجربتين حضاريتين في التاريخ، التجربة الرومانية والتجربة الاسلامية، وقد كانت التجربة الأولى متجلية في الروح الامبراطورية التي تقسم الانسان الى مواطن يتمتع بكامل الحقوق، والى غير مواطن مسلوب من كل الحقوق، وعلى هذا الأساس حكمت وقننت وعالجت وفتحت، وهي وان فشلت في معالجة مشكلة الانسان قديما، فقد أتيح لها أن تبدو في صورة جديدة في عصرنا الحاضر، فالحضارة الغربية المعاصرة تخطت الحضارة الاسلامية -التي سبقتها في الزمن وكانت حلقة ضرورية في سلسلة الحضارات الانسانية- تخطتها لتتصل بالحضارة الرومانية، وتأخذ منها روحها الاستعمارية وتتشرب مبادئها، وكثيرا من نظراتها الجوهرية للحياة، والمستعمرون أنفسهم يعترفون بذلك من حيث لا يشعرون، اذ نسمعهم صباح مساء يردون أعمالهم الى عبقرية الرومان، فهذه الحضارة الجديدة اذن، لم تستطع ان تتخلص من اسباب فشل الحضارة الرومانية، بل انها تتغذى من تلك الاسباب، مما جعلها تفرق انسان الغرب، والانسان الافريقي الآسيوي، أي المستعمر والمستعمر في قوانينها وسياستها وأخلاقها، وقد استطاعت بدافع فلسفتها ان تخلق للانسان (غاية) وهي الفناء المحقق، وزودت (المتحضر) بثقافة الرومان وعبقريتهم، للوصول الى تلك الغاية في أسرع وقت ومن أقصر الطرق.
أما التجربة الاسلامية فكانت محاولة من لون جديد، فهي قد رفعت بالفعل الانسان الى مستوى الحضارة دون ان تفقده خصائصه الانسانية، بل ان التاريخ ليشهد بأنها كانت تغذي الانسان بما يقوي تلك الخصائص ويسمو بها ويبرز معالمها، فالحضارة الاسلامية تقوم في صميمها على أساس قوله تعالى :{ولقد كرمنا بني آدم} وقوله صلى الله عليه وسلم “الخلق كلهم عيال الله وأحبهم اليه أنفعهم لعياله” فهذه الرسالة من صميمها ان يعي أصحابها أنفسهم حق الوعي وأعمقه، فيطهرونها من كل رواسب الوحشية والانتقام، ويشحنونها بالمعاني والقيم الانسانية، لينهضوا نهضة تشيع في خط (طنجة – جاكرتا) وبذلك نستطيع ان نخلص حضارة الغرب من الانهيار برفع (الفرد) الغربي من مستوى المتحضر غير الانسان الى مستوى الانسان المتحضر، فالحضارة الغربية اليوم أهم سمة تميزها، هي أنها واقعة فريسة لازمة أخلاقية، في حين انها تملك من الوسائل العلمية والمادية ما يجبرها على السير الى الامام، غير ان هذا السير لا يتزود بضمير، وبذلك ضل الطريق نحو حياة أفضل، ومهما تكن لدى الحضارة الغربية من فضائل، فهي فضائل محلية لا تتجاوز حدود الغرب.
كانت رسالة مالك بن نبي وفلسفته هي ان يسمو بالفضائل كي تصير الانسانية راقية بما فيها الغرب المتحضر.