“استعْجالُ السَّالِكْ وُرُودٌ لِلْمَهَالِكْ”


(ذ. نور الدين مشاط) النهاوندي

الاستعجال سمة تطبع قليلي الفقه، ضعيفي التربية، أو الباحثين عن المصلحة الذاتية أكثر من مصلحة الدعوة.. نعم قد يكون الإنسان مستضعفاً نخرته آلة القمع والضغط اليومي لغلاء اللقمة الفاحش فَحَوَّلا كل صفحة من حياته إلى صفحة سوداء ولكن لا يجب أن يدفع به حب التخلص من القهر إلى حرق المراحل واستعجال الدعوة في أتون حركة “ألا تستنصر لنا” فيَخْدُشُ التوحيد في أصله.. وقد تكون، من جهة أخرى، حرقة المؤمن الداعي وهو يرى الأفواج الضالة المرتكسة في الحمأة وهي تسرع الخطى إلى تدمير ما بقي من الحياء، وبالتالي تدمير حصانة الأمة، فيُهْوِلُهُ هذا المصير البائس فينطلق للإنقاذ دون تشخيص للمرض ولا تخطيط لكَيفية العلاج ورسمٍ للأهداف المرحلية والأهداف البعيدة المدى… ينطلق وقد غاب عن فكره بأن دوام الدعوة يتم بتجذير بنيتها وأسسها التربوية بدلاً من التربية السريعة التي لا تُعْطي للمُتَربّي العمقَ اللازم فلا يستمر.. أو يُضِلُّ من حيث يريدُ المشاركة في نَقْلِ الهداية للغير.. أو يَفْتُر فيفشل وقد ينقلب ويتنكر للمبادئ، وقد ينهار أمام الصعاب.. ومنْ تَمَّ فإن أفضل عمل يعمله المرء هو الإتمام والإتقان، فلقد كان صلى الله عليه وسلم يقول : ((رحم الله عبداً عمِلَ عملا فأتقنه))(1) وفي حديث آخر : ((أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قَلَّ))(2) وإنها لنصيحة خليفته أبي بكر لخالد رضوان الله عليهما بعد انتصاراته : “ليهنك أبا سليمان النية والحُظوة، فأتمم : يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل، فإن الله له المَنَّ وهو وليُّ الجزاء”(3). إنه إتمام وإتقان يستبعد الاستعجال وإنه التجرد بالإتمام الصامت الذي بدونه لا تنجح الدعوة.!

إن الدعوة لَتُرَبِّي المؤمن الداعية تربية طَالُوتِيَّةً، تَرْبِيَّةً على النَّفَسِ الطويل بدل الانهيار أمام المغريات والصعوبات.. الانهيار أمام طول الطريق ولذة ماء الحياة ولَفَحِ هَجِير الأحداث : {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنُودِ قال إن اللهَ مُبْتَلِيكِم بنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فإنه ليس مني ومن لم يطعمه فإنه منّي إلا من اغترفَ غرفةً بيده فشرِبُوا منه إلاَّ قليلاً منْهُم فلما جاوزه هو والذين آمنُوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده}(4) ولولا هذه الصعوبات، وتلك المغريات لكان لِكُلِّ مَنْ هَبَّ ودَبَّ شَرَفُ الانتساب وسُرْعَةُ الانسِيَابِ.(*)

إن طبيعة الدعوة هي أنها تقاوم هوى النفس والشيطان.. تقاوم حب الكرسي وبريقه، تقاوم عشق النساء والسلطة وتحب بسط العدل والتوحيد.. والعدل مكروه للنفس المجبولة على تعبيد الآخرين وجعلهم خدماً لها؛ ومن ثَمَّ جَعَلَتْ هذه الطبيعة الدعوة مستهدفةً من هؤلاء العُشَّاقِ المنحرفين الذين يحبون استعباد العباد وعبادة المالِ والجسد. إن الدعوة تقاوم.. تقاوِمُ من لا يؤمن بالفكرة وتقاوم نَوازِع من يؤمن بالفكرة، فجبهاتها متعددة، ومن ثَمَّ وجب عليها التخطيط بدل الاستعجال.. التخطيط وبُعْد النظر والمرحلية والمعرفة بالمتغيرات وفقه سنن التدافع والتغيير.

إن الدعوة تتعامل مع الطبيعة البشرية، وهي طبيعة صعبة مُلْتَوِيَّة، قال فيها سبحانه : {ونَفْسٍ ومَا سَوَّاها}(5) فأعطاها صفة النكرة لتَشكُّلِها! كما بَيَّنَ سبحانه {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا}(6) وعلق في موضِعٍ آخر : {وخُلِقَ الانسان ضعيفاً}(7) وأجمل في آية أخرى {وكان الانسان عجولاً}(8) إنها طبيعة ضعيفة تتأثرُّ بسُرْعَةٍ فإذا لم تكن التربية عميقة فإن بُنيته لن تصمد للهزَّات، وهو عجولٌ يحبُّ إدراك الثمرة حتى ولو لم تنضح فيدمرها من حيث يريد الاستنفاع بها، وهو مُجادِلٌ إذا لم تتعمق المفاهيم لديه فإن تصوراته ستتلخبط وتتشابك ولن يصل الداعية به إلى الهدف المنشود.!

إنها طبيعة النفس البشرية : مغاور عميقة، تحتاج الدعوة لإصلاح وتَلَمُّسِ حناياها إلى فقه إصطفائي ونقلاتٍ بِتأنّ وتُؤَدةٍ ومُرَاقَبَةٍ مِجْهَرِيَّةٍ : “فالدين مَتِينٌ فأوغلوا فيه برفق” كما قال عليه السلام ، وإلا فإن للمستعجل الاستكثار وقلة المعاجلة فالملل والضجر ثم الفتور، أو الحماس فالغضب فالاندفاع فتبديد القوى في المعارك الجانبية ثم الفشل(#).

إن الدعوة ماضية إلى يوم القيامة، شاء من شاء وأبى من أبى. وإن الله ناصر دينه ومحقق وعده ولكن “لكل أجلٍ كتاب”.. ومن ثم فالله لا يعجل لعجلة أحد والسُّنَنُ لا تُحابي أحداً. وإن هذا الأمر ليس بالحماسة الفوارة ولكن بالتجرد ليس بقطع المسافات الجغرافية ولكن بقطع المسافات القلبية (كما يورد الزاهد أبو علي الدقاق حينما أتاه من يشتاق إلى مواعظه فقال : “قد قطعت إليك مسافة”.. فقال له أبو علي : “ليس هذا الأمر بقطع المسافات – فَارِقْ نفسك بخطوة يحصل لك مقصودك”(9) وهكذا فبهذا التجرد يتحقق الوعد وأنذاك يختار الله سبحانه وتعالى شكل النصر : واقع يتغير أو انتصار على البدن!

إنه التجرد إذن يعطينا أهلية الانتقاء وشرف الارتقاء!

لقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنصر للمؤمنين المعذبين بمكة ويأتي نصر الله بطريقة الخوارق. ولكن آنذاك لن تتربَّى الفئة المؤمنة على الجَلَدِ لِتَحْمِل الدعوة إلى الأصقاع.. آنذاك لن تتدرب على الصبر للذغة أصحاب الألسن الطويلة أثناء القيام بِدعوتها وبالتالي لن تتحول هذه الثلة إلى حماة للعقيدة. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه بعين الواثق : “لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من (صنعاء) إلى (حضر موت) لا يخشى إلا الله عز وجل، والذئب على غنمه، ولكنكم قومٌ تَعْجَلُونَ<(10)

لقد ضرب لنا غلام جالينوس مثلاً كبيراً في التأني فقد تخارس حتى اكتمل فقهه ففاجأ حكيمه، ولو تكلم قبل تمام الفقه لم يبلغ مراده. والدعاة الذين ينطلقون إلى الساحة قبل تمام الفقه يُنَفِّرُون أكثر مما يبشرون ويكفرون فيما لا يُكفَّر فيه، يرتكبون الحماقات باسم الهداية – كذلك الرجل الذي غَلَبته حميته لشيكةٍ شاكها من أخيه أيام الجاهلية فوكزه فقتله فاستحق بذلك إعراض الرسول صلى الله عيه وسلم عنه ولَفْظِ الأرض له(11)… وكعُمرٍ حينما أمسك بزمامٍ أعرابي يتبول في المسجد فأراد خنقه فحبسه عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم طالبا منه إفراغ الماء على البول وعدم مقاطعته أثناء تبوله فاستحق بذلك ثناء : (اللهم ارحمني وارحم محمداً ولا ترحم معنا أحداً)..إنها نظرة بعيدة متفحصة دارسة، وليست النظرة الضيقة التي ترى اللحظة الراهنة فحسب!

والأناة لا تعني بأي حال الجبن والخوف، إذ قلب المؤمن المتقي الذي خالطه حب الله والحياء والوجل منه لا يمكن أن تهزه سطوة وجبروت الطاغي فهو يعيش في كنف الله يرقب الأرض ذرة صغيرة في كونٍ هائلٍ فسيح. فيتفتق وينبجس لديه أحساس بمدى قدرة الله فيدرك حقيقة ضعف الناس وحقيقة ما يملكون للغير، فلا يُنسى اللهُ.. إنه ليس الخوف ولا الجبن وإنما هو التخطيط قصد الإتمام وهو مراعاةٌ لسنن التدافع التي وضعها الله فأسوتنا محمد صلى الله عليه وسلم اتخذ الحيطة ورَكِبَ الأسباب أثناء الهجرة وهو الرسول -أحب الخلق إلى الله وأعمقهم خوفاً منه وأبعدهم خوفاً من غيره وأحقهم بالنُّصرة- وذلك ليتمم الدين الإتمام الكامل وليُعَلِّمَنا أن الكون خاضع لسننٍ ونواميس وأن ليس لسُنَّةِ الله تبديلاً. فمن ركب الاستعجال باسم الشجاعة فقد ركب التهور.

إن الاستعجال مذموم.. فهذا موسى عليه السلام يستعجل لقاء ربه فيناديه سبحانه {وما أعجلك عن قومك ياموسى، قال هُمُ أولاء على أثري، وعجلتُ إليك ربي لترضى} فكانت النتائج انتكاسية، {قال فإنَّا فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري}(12).. وبالمقابل استطاعت أناة هارون أن تُبقِي على وحدة الصف : {قال ابن أمَّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي}(13) فكان بحقٍّ خير وزيرٍ شَدَّ به أزره وصدقت فيه فراسته.

إن الاستعجال قصد الاستكثار من الأنصار يؤدي إلى ضمور التربية فتكون النتائج حُنَيْنِيَّةً، ولكن إذا كانت هناك قاعدة أرقميةً فإن النتائج تُسْتَدْرَكُ أما إذا غابت تلك القاعدة فلن تجد لهذه الكبوة إلا شفا جُرْفٍ هارٍ فينهارُ بِها في ظلمات التخبط والتشرذم والهزيمةِ {والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون}(14)

الهوامش :

-1

-2 رواه البخاري

-3 العوائق، محمد أحمد الراشد ص : .39

-4 البقرة 274

-5 الشمس 7

-6 الكهف.53

-7 النساء 28.

-8 الإسراء .11

-9 العوائق ص : .46

-10 رجال حول الرسول، ص : .231

-11 حياة الصحابة (ج 2/3) : 312-314.

-12 طه (81 – 83).

13- طه : 92.

-14 يوسف 21

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>