خص المفكر الإسلامي الفرنسي الكبير روجيه جارودي جريدة الشعب (عدد 30/4/96) برسالة ترد على حملة الافتراءات التي تعرض لها في بعض وسائل الإعلام العربي التي تشكك في موقفه من السنة الشريفة والفقييهين الجليلين أبي حنيفة والشافعي… وربط جارودي بين هذه الحملة والمحاكمة التي يتعرض لها للمرة الثانية في إطار حملة صهيونية تتهمه بالعداء للسامية… وقد علمت “الشعب” أن حكم المحكمة الفرنسية قد صدر بالفعل بسجن جارودي لمدة عام… ولكن مازال أمامه الاستئناف.. وفيما يلي رسالة روجيه جارودي:
الله أكبر.. الله وحده هو الحاكم.
بسم الله الرحمان الرحيم
الحملة التي أتعرض لها وثيقة الصلة بموقفي من حرب الخليج، ورفضي التدخل الأجنبي في شؤون الأمة الاسلامية..
في 19 من مارس، تسلمت من المحكمة شكوى ضدي متضمنة تهمة وتهديدا بالسجن لمدة عام، وذلك إثر صدور كتابي الأخير “الخرافات التأسيسية للسياسة الاسرائيلية” الذي أظهرت فيه أنه لا النصوص التوراتية ولا اضطهادات هتلر يمكن أن تبرر سرقة أراضي الفلسطينيين وطردهم، وتعرضهم للإضطهاد والقمع الدموي المسلط عليهم.
كما لا يمكن أن تبرر خطة تفتيت وتفكيك الدول العربية، وهي جوهر السياسة الاسرائيلية، كما عرضتها المجلة الصهيونية (كيفونيم) وهي الخطة التي سبق أن نشرتها في كتابي وقمت بدحضها.
بعد ذلك بأيام، جلب لي إخوة من فلسطين صحيفتين هما “المجلة” و”عكاظ” وصحفا خليجية أخى تتخللها صور لي. اعتقدت بسذاجة في بادئ الأمر أن المقالات تدافع عني، لكني اكتشفت العكس أنها تعمل على سلبي مصداقيتي بأكثر الحجج كذبا وتزييفا.
إن هذه الحملة التي أتعرض لها وثيقة الصلة بموقفي من حرب الخليج، ورفضي التدخل الأجنبي في شؤون الأمة الإسلامية.
ينتقدون ويؤاخذون بافتراء على أنني أزرع الشك بحق أبي حنيفة والشافعي، في حين أنني أقدمهما بشكل خاص كمثال يحتذى في جميع كتبي ومقالاتي. إن هذين الفقيهين العبقريين اللذين نجحا، انطلاقا من مبادئ خالدة في “الشريعة” تؤكد كما أكد القرآن أن (الله وحده المالك، والله وحده الحاكم، والله وحده العالم) نجحا أيضا في أن يقيما فقها يستجيب لحاجة بلدهما وزمنهما، وأصبحا بالنسبة إلينا نموذجا لهذا التفكير والتأمل الذي يدعونا إليه القرآن بلا انقطاع، أي إقامة فقه للقرن العشرين، انطلاقا من الشريعة الخالدة والثابتة.
في حين أن انتقاداتي تعمل على كشف اسلام البعض الذي يدعي فرض القرن العاشر على القرن العشرين، يتهمونني برفض السنة، وهذه كذبة أخرى، لأنني ألومهم على الاستخدام السياسي للسنة. عندما حطم السادات الوحدة العربية، وذهب إلى الكنيست الصهيوني، ومن ثم إلى أميركا والى كامب ديفيد ليوقع سلاما منفصلا مع إسرائيل، جاءت فتوى من الأزهر تحيي خطوته، وتضفي عليها الشرعية الدينية.
وعندما نظم المستعمرون الغربيون القدماء وزعيمتهم أمريكا، في شرم الشيخ استعراضا كبيرا، أي تجمعا لرؤساء الدول لمحاربة الإرهاب، وذلك بالتضامن مع أعتى وأسوأ الارهابيين، أي الحكام الاسرائيليين وعين الهدف، وهو إيران، بانتظار أن يأتي دور ليبيا، نرى نفس الحكام العرب يسارعون لتلبية نداء سيدهم الأمريكي ويذهبون ليذلوا أنفسهم الواحد بعد الآخر في تل أبيب أمام الحكام الاسرائيليين (عدا ثلاثة من زعماء المسلمين).
هل احتج العلماء الذين يتهمونني ضد قمة شرم الشيخ؟ هل دعوا إلى اجتماع دولي للتضامن مع الفلسطينيين بعد المذبحة الارهابية ضد المسلمين، أثناء تأديتهم الصلاة، على يد الاسرائيليين؟ كلا لقد صمتوا كليا.
هل نددوا بالمنظمة العالمية للتجارة (الغات سابقا) وبصندوق النقد الدولي الذي تفرض تعليماته على العالم الثالث الخضوع والتبعية؟ كلا، لأن سادتهم الأمريكيين لم يسمحوا لهم بذلك.
إن شاغلهم الأساسي هو تشويه أقوال جارودي، وردّي الوحيد عليهم هو الكتاب الذي ألخص فيه تاريخ الإسلام، وهو كتاب “عظمة وانتكاس الإسلام – 1996″ مذكرا بإيماني بالإسلام، ومحاربتي الحكام السياسيين الذين يدنسونه.
إن البلدان العربية التي يحكمها مثل هؤلاء الحكام الذين في خدمة هذه الفئة من رجال الدين هم المزيفون للاسلام الذي لن يعثر على عظمته وإشعاعه العالميّ، إلا عندما تطرد الشعوب هؤلاء الحكام وحماتهم الأمريكان إلى بلدهم، حاملين معهم في حقائبهم الحكام غير المؤهلين وغير الجديرين، والعلماء الذين تعاونوا معهم.
حينذاك سيستعيد الاسلام حيويته وعافيته التي كانت له في القرن الأول الهجري وقواه التجديدية الدائمة المتمثلة في إنعاش وإحياء العلوم الدينية.. علوم الغزالي العظيم وكذلك إعادة بناء الفكر الديني للاسلام لمحمد إقبال وسادتي المبجلين كالأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا وابن باديس ومالك بن نبي، وأخي المخلص حتى الموت محمود أبو سعود الذي أحاول كتلميذ مخلص أن أواصل أثره -في نفس الوقت- في الأندلس، حيث أسست في قرطبة عاصمة الخلافة في الغرب وفي برج كالاهورا، المتحف الوحيد المكرس في اسبانيا للتذكير بالوجه الحقيقي للاسلام الأندلسي ضد أعدائه، والذي يزوره كل عام 100000 شخص، وحيث أناضل في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، وجميع البلدان الغربية ضد اللوبي الصهيوني وأشجب الجرائم وأفضحها.
هكذا أعتقد أنني أؤدي واجبي كمسلم مخلص للقرآن الذي يدعونا بلا توقف لخدمة الله الذي لم ينقطع عن خلق وإعادة خلق العالم.
إن الوفاء للاسلام لا يعني الاحتفاظ بالرماد، بل حمل الشعلة ونقلها من جيل إلى آخر.