ذ. عبد العزيز انميرات
إن المتتبع لمجمل ما تم بحثه ودراسته في إطار الفكر الإسلامي المعاصر، سيلاحظ غزارة العطاءات الفكرية إن على المستوى الكمي أو على المستوى الكيفي، الشيء الذي يوضح مدى تفهم مفكري الأمة للقضايا والاشكاليات التي تطرح عليهم من حين لآخر في ظل المستجدات والتحولات العامة؛ خاصة وقد تنامى الشعور بضرورة المواكبة الحضارية العالمية، بامتلاك الشوكة الفكرية والخلفية الابداعية المتجددة التي تجعل من الأمة الإسلامية أمة قادرة على إعادة بناء نفسها من الداخل، بعدما تبين أن عمليات البناء النهضوي من خارج الذات، وباعتماد النموذج الذي يطرحه الغرب؛ لم ينتج عنها الا المزيد من التبعية وشقاء الوعي وانفصام الشخصية العربية المسلمة بل واغتراب العقل العربي واغتياله.
لقد استطاع الفكر الاسلامي المعاصر أن يخرج من الدائرة الضيقة التي تصنفه في مجرد اتجاه فكري في الامة ليصل الى درجة تجعل منه مشروعاً حضاريا متكاملا مطروحاً على السَّاحتَيْن : المحلية والعالمية لاعادة القيادة الحضارية الى الامة باعتبارها خير امة أخرجتْ للناس، ذلك أن الفكر الاسلامي؛ وإن أثرت على مسيرته بعض حالات انحطاط المجتمع وتخلفه، فإن له أرضية ثابتة وعميقة داخل هذا المجتمع من جهة، وله حضوره الملموس والقوي داخل منظومة الفكر الحضاري العالمي من جهة ثانية، لكونه يطرح نفسه مشروعا حضاريا وخطابا عمليا يتعدى حدود الجغرافية الاسلامية التي قام عليها، وبالتالي مشروعا عقديا وسياسيا وثقافيا واقتصاديا، يحدوه هدف الاصلاح والتغيير المؤسس على قاعدتي النقد والبناء. ووصول الفكر الإسلامي إلى هذه الدرجة من عالمية الخطاب الحضاري انما مرده في اعتقادي إلى قاعدتين أساسيتين :
1- الاستناد إلى النص الاسلامي (القرآن والسنة النبوية) مع محاولة الاستئناس ببعض الفهوم الإسلامية السابقة التي تأسست بدورها على النص الإسلامي أو على مقاصده.
2- التعامل مع الواقع من حيث كونه الهدف المتوخى اصلاحه بالواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والتربوي والعقيدي والثقافي، من خلال التطرق إلى الاشكاليات الساخنة التي تؤسس السؤال النهضوي – الحضاري، وبالتالي تلك القضايا التي تدفع بالامة الى الخروج من واقع منحط الى واقع جديد يسترد من خلاله المسلم شخصيته الحقيقية حتى يتسنى له اداء امانة الاستخلاف بمفهومها الشامل. يقول الاستاذ عبد المجيد النجار “وبدافع من الواجب الديني المتمثل في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر انطلق المسلمون يضعون تاريخهم مما يقيمون في مجتمعهم من جدلية دائمة بين الحق الذي يريدون أن يسود والمتمثل في التعاليم الاسلامية، وبين الواقع الذي يستعصي على الاستجابة في كثير من الاحيان، واسفر ذلك التاريخ عن حلقات متعاقبة من الحركات الاصلاحية التي قامت في المجتمع الاسلامي مبثوثة على مدى المكان والزمان، وهادفة الى تحقيق التنزيل الصحيح للحقيقة الإسلامية في واقع الناس، عامدة إلى إزالة مظاهر الفساد الطارئة على ذلك الواقع”(1).
لقد تراوحت اتجاهات الفكر الإسلامي في معاملة النص بين التركيز على المرونة في حركية النص والاجتهاد والتوسيع في التسيير والتسهيل والترخيص، وبين التركيز على ضرورة ادخال تجديد في الفتاوى ومنهجية الاستنباط، لمواجهة عدد من المشكلات المعاصرة، وبين التركيز على اقتراح ضرورة التجديد في اصول الفقه، والتركيز على النقل من النص ضمن نظرية متماسكة تعتمد الجوهر والمقاصد العامة، ولكن ضمن التقيد بأصول الاجتهاد، ومراعاة متغيرات العصر. ولم يكن هذا الغنى والخصب والتوسع محصوراً في نطاق البحث الفكري والحوار الثقافي العام، وانما حملت اكثر اتجاهات هذا الفكر مقولاتها الى أرض الواقع، وطرحتها على محك الممارسة والتطبيق، فبعضها اندلع ثورات لاهبة، وبعضها جماعات وحركات كبيرة، وبعضها الآخر استطاع أن يصل إلى ممارسة القيادة السياسية، في حين يتهيأ البعض الآخر للدخول في معترك الصراع من خلال طرح تغييري أو برنامج عمل جديد.
إن مشروع التحصين الثقافي وتحقيق الوعي الحضاري والعمل على إعادة بناء الشخصية المسلمة من جديد حتى يوافق سلوكها أصولها العقدية والحضارية، وحتى يوافق حضورها ما تقتضيه متطلبات المرحلة الراهنة؛ يقتضي من (الأمة العَالِمَة) أن تفتح من جديد باب الاجتهاد، لكن ليس بالمفهوم الذي تفهمه (العامة) ولكن بمفهومه التأصيلي الذي يتمثل منهجية الرسول صلى الله عليه وسلم في تنزيل النص على الواقع، ومنهجية الصحابة (رضوان الله عليهم) في تحقيق مصالح الرعية. ذلك أن التعامل مع الواقع بكل حيثياته وارتباطاته وجزئياته مطلب وضرورة يحتمها العمل الاجتهادي، فالقرآن الكريم، وان كان قد ارسى مجموعة من الخطوط العامة والمبادئ الاساسية، فانه ترك مجالا واسعاً لاجتهادات العقل المسلم تبعا لمقتضيات كل ظرف زماني ومكاني. ولعل هذا هو ما يفسر اختلاف الفقهاء؛ وهو اختلاف رحمة بالامة، فما خلفوه لنا من تراث فقهي متنوع وزاخر بالقواعد والفتاوى الفقهية لا يعدو كونه اجتهادات نَزَّلَتِ النص على الواقع بما اقتضته الظروف والاحوال المختلفة، وهو ما يفسر لنا تعدد المذاهب للناس، كما زخرت التأليفات الاصولية بمجموعة من الابداعات التقعيدية التي ضبطت قواعد الاستنباط الفقهي تكون بمثابة الضابط عند محاولة تنزيل النص على الواقع أو الاحكام على النوازل والمستجدات. ويعتبر مجال “مقاصد الشريعة الاسلامية” من أهم المجالات التي رسخت منهاجية (فقه التنزيل) واعطته القابلية على الحضور المستديم بداخل الاجتهادات الفقهية الاسلامية. ولعل الاطلاع على كتابي (الموافقات) للشاطبي و(مقاصد الشريعة الاسلامية) لمحمد الطاهر بن عاشور، رحمهما الله، يمدنا بصورة جلية ومفصلة عن هذا الحضور.
إن الحاجة ماسة اليوم، وأكثر من اي وقت مضى، الى اعادة حياة امتنا إلى منهج التديُّن حتى نظل على اتصال دائم بأصولنا العقيدية التي تشرع لنا في كل زمان ومكان فقه حياتنا، وحتى نعيش هذه الحياة وهذا الواقع الشديد التعقيد والتشابك على هدي الشريعة الالهية التي من اهم مقاصدها الحفاظ على مصلحة الانسان وتحقيق خلافته.
إن الامة حينما تجد نفسها تسير على غير هدي الشريعة تكون في أمس الحاجة إلى اعادة انتاج ادوات استقامتها التي تربطها بهذا الهدي، خاصة حينما تكون معالم الانحطاط الحضاري واضحة بداخلها وما يصحب ذلك من انهزام خطير يقتل في النفس كل قابلية للابداع والعطاء ويزكي فيها قابلية الاتباع والتقليد الاعمى. ولعل من أهم ما تحتاجه الامة دوماً (فقه التنزيل) الذي يعني (فقه تطبيق الشريعة الاسلامية) بإيجاد السبل الكفيلة بجعل الشريعة منزلة وممارسة على أرض الواقع، وهو بالتالي المجال الذي يجدد العلاقة الموجودة بين النص والعقل والواقع. غير أن الاخطر من هذا وذاك، أنه كلما تعقدت الامور وتشابكت العلاقات وابتعد الناس عن الاصول زمنا طويلا، وكلما ترسخت في الامة قيم التقليد واتباع الهوى، كلما كانت مهمة (فقه التنزيل) صعبة التحقيق؛ خاصة حينما تتشابك في انتاج واقع الامة، كواقعنا الحالي، عوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية وتربوية وثقافية ونفسية وتاريخية لتكرس اغتراب العقل المسلم عن واقعه وأصوله وذاتيته. من هنا تكون الحاجة ماسة الى تجديد الفقه المنهجي بما يتلاءم مع الواقع الجديد، وبما يجعل من النص حاضراً في كل عملية اصلاح أو تجديد أو بناء. يقول الاستاذ عمر عبيد حسنة : “واذا سلمنا بأن المجتهد هو ابن عصره وبيئته وأن الاجتهاد لبسط الدين على واقع الناس، وتقويم مسالكهم بنهجه يجب أن يأخذ بعين الاعتبار معطيات العصر ومشكلات الناس الذين هم محل الحكم الشرعي، فلابد لنا من القول بأن هذه المسلمة لحقت بها اصابات بالغة، وقد نقول : قاتلة، من خلال ما نلاحظه من انفصال المجتهدين والمفكرين عن هَمّ أمتهم وقضايا عصرهم ومشكلاته، والدوران في فلك الاجتهاد والافكار البشرية السابقة، التي على الرغم من دقتها وتميزها وابداعها، الا أنها انما جاءت ثمرة لعصر معين، بقضاياه ومشكلاته. واقل ما يقال فيها : أنها لم تكن محصلة لهذا العصر، وأن الالتجاء إليها، والاحتماء بها، قد يحافظ عليها حفاظا تاريخيا، لكن الاقتصار على ذلك دون القدرة على الافادة منها كمعين للفهم والنقل الثقافي والشهود الحضاري، يفقدها قيمتها ويبعدها عن إِغْنَاء حياة المسلمين، فتنقلب معوقا ومانعا حضاريا، بدل أن تكون دافعا ومشروع نهوض”(2).
————————-
1- د. عبد المجيد النجار : في فقه التدين فهما وتنزيلا -كتاب الأمة ع 20- ص :
.
2- ذ. عمر عبيد حسنة : المرجع السابق ص :