إن الخطوة الأولى في التغيير يجب أن تنطلق من نفس الإنسان وإلى نفسه، حتى لا يكون المرء كالشمعة تضيئ غيرها وهي تحرق نفسها، قال أحد السلف : «أقوى القوة أن تمتلك نفسك ومن عجز عن أدب نفسه كان عن أدب غيره أعجز» إنها إذن معركة نفسية، لأن النفس الإنسانية هي بيت الداء، ولا تبديل لقوله تعالى : «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»(الرعد 11) والمؤكد عند علماء التربية، أن الدعوة بالفعل أبلغ من الدعوة بالقول، وفي الأثر عن عمر رضي الله عنه أنه قال "دعوة الحال خير من دعوة المقال". وعى السلف رضي الله عنهم هذا المعني وجدُّوا في إصلاح نفوسهم وتهذيب أخلاقهم قبل أن ينطلقوا إلى غيرهم. ونجد الحكيم الترمذي يفيض في الحديث عن هذه القضية الأخلاقية المهمة فيحذر من خطورة الاصغاء إلى النفس ويعتبر من يقع في هذا مغرورا، أما الكيس فجدير به ألا يكون ذلك ويحذر من النفس فهي في خداعها جد ماكرة وجهادها ليس سهلا، فيقول : «فمن شأن النفس إذا جاءت بباطلها وجورها، وكذبها في الأمور أن تعمى على صاحبها وتزين له ذلك حتى تغرّه وتموه عليه حتى يدوم ذلك الغرور فقد اشترك في هذه المحنة الصديقون، والزاهدون، والعابدون والمتقون وعلماء الظاهر وقلّ من سلم من هذا الاغترار. فإذا كان هؤلاء الذين هم أعلام الدين في الظاهر لا يسلمون من غرور النفس فما ظنك بهؤلاء العامة». ولهذا فإن الحكيم يرى أن النفس التي تخدع وتغر صاحبها بهذه الصورة، لابد أن تؤدب وتقمع شهواتها فيمنعها من بعض الحلال -تأديبا وتهذيباً- فضلا عن الحرام مع ملاحظة أن هذا الحرمان ليس تحريماً لما أحله الله للناس، ولكنه مقتضى ضرورة التأديب. وتأمل بعين البصيرة كيف يسأل عمر رضي الله عنه حذيفة فيقول «أنت صاحب رسول الله فهل ترى علي شيئا من آثار المنافقين؟» وكان رضي الله عنه يقول «رحم الله امرءا أهدى إلي عيوبي» لأنه كان يخشى من الانزلاق في مهاوي الحظوظ النفسية، فيغلب عليه الهوى وتزل قدمهم عن الجادة -وحاشاه- رضي الله عنه. ولنعش مع الشعر -وإن منه لحكمة- يقول أبو الأسود الدؤلي رحمه الله في هذا السياق : لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يسمع ما تقول ويهتدى بالقول منك وينفع التعليم ابيات مشهورة ولكنها غائبة عند التطبيق الفعلي، ولذلك فهي كسراب بقيعة فلابد من تشديد الرقابة على النفس ومحاسبتها لأن النفس خادعة ماكرة، ولأن وساوسها وعداءها يفسدان العمل، فأصحاب الاتجاه الروي يوجهون دعوة صريحة وجادة إلى ضرورة محاسبة النفس ويعنون بهذه المحاسبة أن يقف وقفة عند ظهور المهمة وابتداء الحركة ثم يميز الخاطر، فإن كان لله وبالله أمضاه وسارع في تنفيذه، وإن كان لعاجل دنياه أو عارض هواه أو لهو وغفلة نفاه وسارع إلى نفيه، ولم يمكن الخاطر من لبه، بالاصغاء إليه والمحادثة له. وجدير بالذكر أن المحاسبي يلفت النظر إلى أن مخالفة النفس -بعد معرفتها- أمر ديني له صلة كبيرة في العلاقة بالله «لاتصدق الله حتى تصدق نفسك، ولا تصدق نفسك حتى تعرفها، ولا تعرفها حتى تفتشها وتعرضها على الله فتعرض أحوالها، ولا تعرض أحوالها حتى تتهمها فيما تظنها محسنة فيه... فإذا عرفتها حذرتها، وإذا حذرتها تفقدتها، وإذا تفقدتها أبصرت زوغانها من طاعة ربها عز وجل وتزينها بما لا يحب خالقها، لأنها مصدر كل سوء، فاعرف نفسك فإنك لم ترد خيرا قط مهما قل إلا وهي تنازعك إلى خلافه ولا عرض لك شر إلا كانت هي الداعية إليه». كل ذلك ليتحقق قول الله تعالى : «قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها»(الشمس 9). فشرط الإصلاح البدء بالنفس وإصلاحها، وإلا كان كلامنا لغوا وعملنا هباء، ولن يكون له أدنى تأثير. ورحم الله وليدا الأعظم الذي قال : والقلب ما لم يكن بالله مرتبطا فإنما هو بالأهواء جواب وأسباب الشقاق والنزاع الذي يقع انما هو نتيجة لعدم مراقبة النفس واذعانها للحق يقول سيد قطب رحمه الله : «ليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر انما هو وضع الذات في كفة والحق في كفة، وترجيح الذات على الحق ابتداء». فالسرعة إلى إصلاح النفس من أوجب الواجبات وأولها يقول أبو تمام : سبحان ربك ما تزال وفيك عن إصلاح نفس فترة ونكوب. فما دامت نفس الإنسان مستنكفة عن الحق مستكبرة عنه، فإن أي محاولة منه لإصلاح غيره تعتبر عبثا لا طائل تحته، وقد كان الجنيد رحمه الله يقول دائما : «انظر ماذا خالط قلبك» فإذا جاهد المرء نفسه وأصلح ذاته دفعه ذلك تلقائيا نحو غيره، معتقدا وجوب ذلك شرعا. يقول العارف بالله عبد القادر الجيلاني رحمه الله: «إذا اصلح قلب العبد للحق عز وجل وتمكن من قربه اعطي المملكة والسلطنة في اقطار الأرض وسلم إليه نشر الدعوة في الخلق والصبر على أذاهم، ويسلم إليه تغيير الباطل وإظهار الحق». من تأمل فقرة الجيلاني كفته وأغنته عن المطولات فإصلاح القلب وإلزام النفس باتباع الحق قبل إبلاغه شرط لقبول الدعوة والنجاة من الخسران. فإذا عرف الانسان الحق ولم يبلغه بعد أن يتحقق به فهو مقصر، وقد قال تعالى : «كنتم خير أمة أخرجت للناس»(آل عمران 119) ولنتأمل الآية جيدا، فنحن اخرجنا للناس لا لأنفسنا ولكن هذا لا يتم إلا بإصلاح انفسنا أولا لأن المدار عليها أولا وأخيراً. يقول العلامة ابن القيم رحمه الله : «حقيقة المرء قلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بتوحيد ربه وعبادته وخوفه ورجائه، وفي ذلك أعظم لذة المرء وسعادته وتعليمه إذ ليس في الكائنات شيء غير الله عز وجل يسكن القلب إليه فنفس الإيمان به ومحبته وعبادته وإجلاله وذكره، هو غذاء الانسان وقوته وصلاحه وقوامه كما دلت عليه السنة والقرآن وشهدت به الفطرة» المراجع : - كتاب : الإنسان بين المسؤولية والتكريم. - مجلة الشروق (الهولندية). أم مجاهد