قال تعالى :
>وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَّشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير<(سورة الحشر الآية : 6)
في رحاب الدَّلاَلات اللغوية والاصطلاحية:
أفاء : لُغَةً : رَدَّ، وأعَادَ، وَأَرْجَعَ، وَمَاأفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ : بِمَعْنَى : ما جَعَلَهُ الله لرسوله من أموال بني النضير، وصَيَّرهُ الَيْهِ من أَمْتِعَتِهِمْ، قال الألوسي "وفيه إشْعَارٌ بأن هَذِه الأمْوالَ كانت حَرِية بأن تكون للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما وقعَتْ فِي أيْدِيهِمْ بِغَيْرِ حقٍّ، فَأرْجَعَهَا الله تعالى إِلَى مُسْتَحِقِّهَا، وكذا شَأْنُ جَمِيعٍ أَمْوَالِ الكَفَرَةِ التي تكُونُ فَيْئاً لِلْمُومِنِينَ، لأن الله عز وجل خَلَقَ الناس لِعِبَادَتِهِ، وخَلَقَ ما خَلَقَ من الأَمْوَالِ لِيَتَوَسَّلُوا بِهِ إِلَى طَاعَتِهِ، فهو جَديرٌ بأن يَكُونَ لِلْمُطِيعِينَ<-روح المعاني 10/44 والْفِيْءُ شرعا واصطلاحا : مَا أُخِذَ من أموال الكفار، سواء كان صُلحاً، أو كان تيسيراً وتسخيراً من الله تعالى بدون حرب ولا قتال، أو كان بعد الحرب والقتال. أما الغَنِيمَةُ فهِيَ مَا أُخِذَ بقتالٍ. وبهذا التعريف يُعْلَمُ أن الفَيْءَ أَعَمُّ من الغَنِيمَةِ
منهم : الضمير يعود الى >الذِينَ كَفَرُوا مِنَ أَهْلِ الْكِتَابِ< الواقع في أول السورة، وهم بنو النضير الذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّه تَعَالَى عِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ من الكفار سواءٌ كَانُوا من أهْلِ الكتابِ، أو مِنْ أمْتَالِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَمُشْرِكِيهَا.
فما أوجفتم عليه من خيل : فما أَرْكَضْتُمْ عليه الخُيولَ، ولا أَغَرْتُمْ عليه بالخُيولِ المُسْرعَةِ في مَيْدَانِ القِتَالِ والهُجُومِ، أي أن هَذَا الفيء تحقَّقَ بدون قِتَالٍ لا بالخيل ولا بالإِبِلِ التي تُرْكَبُ أثناء السَّيْرِ للقاء العدُوِّ، أيْ أن هذا النَصْرَ تحقَّقَ لكم بدون أن تَبْذُلوا فيه جُهداً كبيراً، وبدون أن تُعِدُّوا لَهُ عُدَّةً فَائِقَةً
يُسلِّط رسله : لأَنَّهُمْ أحَقُّ من يستحق التصرف في أموال الله بالقَسْمِ، والتوزيع العَادِلِ على مستحقيها، والتوجيه الرشيد لاستثمارها وتسخيرها فيما وُضِعَتْ له، وأتباعُ الرُّسُلِ يستحقون التمكين كالرسل اذا ساروا على نهجهم. والتسْلِيطُ يكون تارة بالواسطة والحرب والقتال، وتارة يكون بدون واسطة، فالله سبحانه وتعالى قادر على إهلاك أعدائه بالمومنين تارة، وبالإغراق أحيانا، وبالخسف وإرسال الصواعق، وإلقاء الرُّعْب في الصدور، أحيانا أخرى...
المناسبة :
ذكر الله تعالى في آخر سورة المُجَادَلة سُنَّةَ الله تعالى الماضيةَ، وهي >كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلَبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي< وذكر في أول سورة الحشر مثالاً تَطْبِيقيّاً لِسْنَّةِ اللَّه تعالى التي لاَتَتَخَلَّفُ وهي >فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِن حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ< وفي آخر المجادلة ذَكَرَ مَن حَادَّ اللَّهَ تَعَالَى رَرَسُولَهُ، وفي أول سورة الحَشْر ذَكَرَ أَنَّ مَانَرَلَ بِيَهُودِ بِنِي النَّضِيرِ هُو بِسَبَبِ مُشَاقَّاتِهِمْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، >ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ<
وفي آخر سورة المجادلة ذَكَرَ أن مَنْ يُوَادُّ من يُحَادُّ الله ورسوله مِنَ المنافقين فَهُوَ فِي الأَذَلِّينَ لِتَعَلُّقِهِ بِمِنْ لاَ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعاً وَلاَ ضُرّاً، فَمَا بَالُكَ بِنَفْعِ غَيْرِهِ، وَذَكَرَ هُنَا فِي سورة الحشر مَا حَاقَ بِأَرْبَابِ المُنَافِقِينَ مِنَ الهَلاَكِ والخُسْرَانِ أمَامَ تَابِعِيهِمْ الذِينَ وَعَدُوهُمْ بالنُّصْرَةِ، فَخَابُوا وَخَسِرُوا جَمِيعاً
فكانَ من المُنَاسِب التعرُّضُ لآثار الهَزِيمَةِ المُذِلَّةِ، وَالتي تَتَمَثَّلُ فِي خُرُوجِهِمْ مِنْ دُورِهِمْ خَاسِئِينَ، تَارِكِينَ دُورَهُمْ، وَزُرُوعَهُمْ وَبَسَاتِينَهُمْ، وَأَسْلِحَتَهُمْ، وَحُصُونَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ بِدُونِ حَرْبٍ
في رحاب التفسير :
إن الله تعالى مَكَّنَ لرسوله من يهود بني النضير، الذين نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعملوا على الغدر به، واغتياله، عندما جاءهم صلى الله عليه وسلم يطلب مساهمتهم في دية القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري عند مُنْصَرفِهِ من بًئْر مَعُونَةَ، بدون أن يعرف أَنَ مَعَهُما عهداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الوقت الذي رَحَّبُوا به -ظاهرا- تآمروا عليه -باطنا- وانتدبوا من يُلْقي عليه حجراً من أعلى السور الذي كان مستنداً اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله تعالى عَصَمَ نبيه من غدرهم، وأخبره بتآمرهم، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون أن يصيبه مَكْرُوهٌ.
وقصة ذلك كما ذكر ابن هشام هي :
>أن أبا براء عامر بن مالك، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال : يامحمد لو بَعَثْتَ رجالا من أصحابك الى أهل نجد، فدعَوْهُم لأمرك، رَجَوْتُ أن يَسْتَحِيُوا لك، وأنا لهم جار -حَامٍ لَهُمْ من كل أعدائك-، فبعث رسول الله المنذر بن عمرو في رجال من خيار المسلمين، حتى نزلوا بِبئر معونة، فاستصرِخ عَدُوُّ الله عامِرُ بْنُ الطُّفيل عَلَيّهم قبائل مِنْ بَنِي سُلَيْم فأجابوه لذلك، وأحاطوا بالمسلمين، وقاتلوهم، حتى قتلوا عن آخرهم -وكانوا نحو السبعين مِن القراء في رواية البخاري- إلا كَعْبَ بْنَ زَيْدٍ، وعَمْرو بْنَ أُمَيَّة الضَّمْرِي، الذي كَانَ فِي سَرْحِ المُسْلِمِينَ، فخَرَجَ لِيُخْبِر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما وقع، حَتَّى اذا كان بِالْقُرْقَرَةَ، أَقْبَلَ رَجُلاَنِ من بني عَامِرٍ، ونَزلا مَعَهُ في ظِلِّ شَجَرَةٍ، وكان مع العامِرِيَّيْنِ عَقْدٌ من الرسول لم يَعْلَمْ به عَمْرُو، وعند ما عَرَف أنهما من بني عامِرٍ -قَبِيلةِ الغَادِرِ بأصَحابِهِ القُرَّاءِ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ- قَتََلَهُمَا وَهُمَا نَائِمَانِ، فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل، قَال صلى الله عليه وسلم : لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ، لأَدِيَنَّهُمَا، أي لأُؤَدي دِيَتَهُمَا.
فَخَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الى بني النضير يستعينهم في دِيَةَ ذيْنِكَ القَتيلَيْنِ، فلما أتاهم، قالوا : نَعَمْ يَا أَبَا القَاسم، ثم خَلاَ بَعْضُهُمْ ببعض، وقالوا : إِنَكُم لَنْ تَجِدُوا الرجل على مثْلِ حَالِهِ هَذه، فَمَنْ رَجُلٌ يَعْلُوا على هذا البَيْتِ فَيُلْقِي عليه صَخْرَةً فَيُرِيحنَا مِنْه؟ فقال عَمْروا بْنُ جَحَّاشٍ : أَنَا لذلك.
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ من السماء بِمَا أراد القوْمُ، فرجع الى المَدِينَةِ وَأَمَرَ بِالتَّهُّيؤِ لِحَرْبِهِمْ والسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فتحَصنوا منه في الحُصون، ولَكِنَّ الله قَذَفَ في قلوبِهِمْ الرُّعْبَ، وسَأَلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُجْلِيَهم، وَيَكُفَّ عن دِمَائِهِمْ على أن لهم ما حَمَلَتِ الإِبِلُ إلاَّ الحَلْقَةَ -السلاج- فخرجُوا وخَلَّوْا الأمْوَالَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حَيْثُ يَشَاءُ<-ابن هشام بتصرف 2/184 - 193-
ونظراً للظرف الخَاصِّ الذي مَرَّتْ فيه الغَزْوَة بِتَهْييءِ اللَّهِ لأَسْبَابِهَا وتحقيق النصر الذي لم يكن متوقعا بالسهولة التي تَمَّ بِهَا، لا في ذِهْنِ المسلمين، ولا في ذهن الخصوم الخونة الغادرين >مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَا نِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِنَ اللَّهِ<... فإن الله تعالى رَبَطَ المسلمين بالله تعالى الناصر القادر الفعال لما يريد، وقَطَعَ تَطَلُّعاتِهِمْ للغنائم والأموال، حتى تَتِمَّ تربيةُ المسلمين على الجهاد الخالص لوجه الله تعالى بدون شائبة من المطامع الدنيوية المُفْسِدَة له، ولِلأسَاسِ الذي بُنِيَتْ عليه رسالة الأمة الاسلامية، وهو سَوْقُ الناس ودَعْوَتُهُمْ إلى الفوز برضا الله تعالى في الدنيا والأخرى.
فقال لهم سبحانه وتعالى : >وَمَا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فما أَوْجَفْتُمْ عليه من خَيْل ولا رِكَاب…< أي هذا النصر، وهذا التمكين جاء بدون بذل أي جهد فيه، لا إعداداً وتخطيطاً، ولا جلاداً وقِتَالاً، فَلاً تتطلَّعْ نفوسكم إِلَى عَوَائِدِ هذا الانتصار، ولكن اتْركوا الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سلطه على أعدَائه، ليتصَرَّفَ كيف يشاء بوحي من الله تعالى وإلهام وتسديد وتوفيق، ويكفيكم فخراً واعتزازاً أنكم كنتم من جنود الله الغالبين، ومن عباد الله المنصورين... أتخافون أن يضيعَكم الله تعالى أو يُهْمِلَكُمْ وأنتم جُندُه وعباده؟! وبهذا الحكم أصبحت أموال بني النظير في يد رسول الله
ما يستفاد من الآية وظروف الغزوة :
1- الوضع الطبيعي أن تكون الدنيا محكومة بالصالحين :
الأرض لله تعالى يورثها من يشاء من عباده الصالحين >وَعَدَ الله الذين آمنوا منكم وعَمِلُوا الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الارض كما استخلف الذين من قبلهم<-سورة النور- وأن الوضع الطبيعيَّ أن تكون الدنيا محكومة بمن يَعْلَمُ الله تعالى أنه جدير بحَمْلِ الأمانة، أمانة إقامة العدل بين الناس، وتنظيم مجتمعهم على أساس الاستخلاف، فكلما وُجِدَ الصالحون كان الاستخلاف، وتَمَّ التصْحيحُ للأوضاع الشاذَّة. ولهذا كان تسليط الرسول صلى الله عليه وسلم على بني النضير وغيرهم تصحيحاً للأوضاع، ونزعاً للأمانة من يد الخونة
2- تخلف سنة الله ناتج عن عدم تحقق شروطها :
وما نراه من تمكُّن النُّظُم الكفرية في النُّظُم الدولية العالمية القديمة والجديدة هو ناتج عن سبب وحيد هو أن أن المسلمين جهلوا دينهم علما، وعملا، وحضارة، وأخلاقا، وفقها لأحوال العصر ومستلزماته... حيث تفوق الكفار عليهم في كل المجالات الحيوية وخاصة في الفقه السياسي والاجتماعي، والاقتصادي، والعسكري، فلم يَرَ الناس بديلاً أحسن مما عند الكفار... ومتى تحقَّقَتْ شروط الاستخلاف تحقق وعد الله
3-عدم وضع المطامع الدنيوية في الاعتبار: إن الجهاد الخالص هو الذي لا تتعلق همة صاحبه بأي مطمع من المطامع الدنيوية : غنيمة، وشهرة، وذكراً وجاهاً، ووساماً، إلى غير ذلك من الاعتبارات التي ينبغي أن نراعيها للمجاهد في سبيل الله، ولكنه هو ينبغي أن يكون قلبه فارغاً في كل توجهاته الجهادية من هذا الاعتبارات وإلا أصبح يعمل لإرضاء طموحات نفسه وشهواتها.
4- أخبر الله تعالى الرسول بما دبره الأعداء، وبما أن الوحي انقطع، فالحزم يقتضي تجنيد الطاقات والخبرات اللازمة لاكتشاف تخطيطات الأعداء، مع التسلح بالتقوى والصبر لرد كيد الأعداء في نحورهم.
5- رُجُوعُ الرسول صلى الله عليه وسلم بسرعة بعد الإطِّلاع على الكيد، ثم مقابلة الغدر بما يستحقه الأعداء من الردع دليل على اليقظة التي كان عليها الرسول القائد، والتجنيد التام الذي كان عليه المسلمون، الأمْرُ الذي يُعْطِي نموذجاً لما يَنْبَغِي أن يكون عليه المسلمون قادةً ومقودين من الاستعداد الدائم لدرء الأخطار، وحماية الدين والأوطان.
6- لم يُنكِرْ اليهود ماهَمُّوا به من الغدْر، بل قال لهم سَلام بنُ مَشْكَمْ : >لا تفعلوا والله ليُخْبَرَنَّ بما هَمَمْتُمْ بِهِ، وإنَّهُ لَنَقْضٌ للْعَهْدِ الذي بينَنَا وَبَيْنَهُ< وفي هذا أكبر معجزة تدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصِدْقِ رسالته، بشَهادة الحاسدين والغادرين الذين أعماهم التعصب. فَهَلْ للخائنِ بعهود الله ومواثيقه وفَاءٌ بعُهُودِ الناس؟!
7- بالرغم من غَدْر عامر بن الطفيل بالمسلمين، فقد كات تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم في منتهى الحكمة عندما بَعَثَ القُرَّاءَ للدعوة اعتماداً على حِمَايَةِ أَبي بَرَاءٍ عَامِرٍ بْنِ مالكٍ، لأن غَدْرَ عامرٍ بن الطُّفيلٍ كان خارجاً عن الأعْرَاف التي كان يتعامل بها العرب، والتي تُشْبِهُ القوانين التي تَتَعَامَلُ بها الدُّولُ في عَصْرِنَا، ومَعْنَى هذا أنَّهُ يَجِبُ على المسلمين الاستفادةُ من الظروف المحلية والدولية في نشر الدعوة الإسلامية، والبحث عن الحُمَاة لها في أي مكان، ومن اسْتُشْهِدَ في سَبِيلِهَا فقد فَازَ.