نحو فقه سياسي مقاصدي راشد 2/7


هذا فيما يخص خطورة السياسة الشرعية والعوامل التي تفضي إلى ذلك، أما من حيث أهميتها وضرورتها، فلتوضيح ذلك، لابد من الإشارة إلى أن الفقهاء وعلماء الشريعة والقانون يؤكدون جميعا على وجوب القيام بولاية أمر الناس في ظل نظام سياسي لايقوم الإسلام باعتباره منهاج حياة شامل إلابه، وأورد هنا بعض آرائهم وأقوالهم المختارة، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : >يجب أن يُعْرَفَ أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لاقيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لاتتمُّ مصلحتهم إلا باجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولابد لهم عند الإجتماع من رأس، حتى قال النبي عليه السلام : “إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم<#رواه ابن ماجة والطبراني وغيرهما، الجامع الصغير : 1/38، وكشف الخفاء : 1/103] فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الإجتماع القليل العارض في السفر، تنبيها بذلك على سائر أنواع الإجتماع<(السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية : 138-139)، ويعلل رحمه الله هذا الأمر بتعليلات في غاية الأهمية حيث قال : "ولايتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ماأوجبه من الجهاد والعدل..، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لاتتم إلا بالقوة والإمارة...، فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات"(السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية : 138-139). إن مايمكن استخلاصه من هذا التنظير السياسي لابن تيمية هو أن واجب الأمة أفرادا وجماعات يستلزم العمل من أجل إقامة نظام سياسي إسلامي يقوم على دعامتي الشورى والعدل، الشورى في اختيار من يتولى أمر الشعب، والعدل بإقامة القسط بين الناس. ويعتبر القيام بهذا الواجب الشرعي في واقعنا اليوم في غياب مؤسسة العلماء ومؤسسة الشورى أمانة خطيرة وعظيمة ومسؤولية جسيمة على الحركات الإسلامية التي أخذت على عاتقها أداء رسالة الدعوة إلى الله من أجل إقامة هذا الدين، وبهذا فالعمل لإقامة نظام سياسي راشد والتمكين منه ضرورة واقعية وواجب شرعي، يؤكد هذا ماقرره ابن تيمية سَلَفاً من أن تطبيق أحكام الشرع وقواعده وجلب الصلاح ودرء الفساد عن جماهير المسلمين، وإقامة الدين قياما شاملا وسليما، كل ذلك متوقف على سياسة عادلة وولاية صالحة. وأورد ابن القيم كلاما هاما -يعضد ماذكره شيخه- بين فيه أهمية السياسة وواجب ولاة الأمر حيث قال : "إن الأحكام الشرعية لها طرق شرعية لو توقفت على ذلك فسدت مصالح الأمة واختل النظام، يحكم فيها متولي ذلك بالأمارات والعلاقات الظاهرة والقرائن البينة، ولما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لايتم إلا بالعقوبات الشرعية، فإن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن فإقامة الحدود واجبة على ولاة الأمور"(الطرق الحكمية : 311). وقد أورد ابن حزم اتفاق المسلمين على وجوب إمامة عادلة تسوس الأمة بسياسة الدين حيث قال : >اتفق جميع أهل السنة على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيها أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة<(الفصل بين الملل والنحل : 4/87) إن قراءة فاحصة لهذه النصوص وأمثالها من النصوص المتنورة بنور مقاصد الشرع الموجودة في كتب تراثنا الفقهي، الخاصة بالسياسة الشرعية، لتدل على الأهمية القصوى، لهذا المجال، وأن الاسلام يوجب قيام نظام سياسي عادل، تدين به الأمة، ويكون فيه الولاء المطلق لسياسة الشرع وقيمه وشريعته وأحكامه. وخلاصة الأمر في هذا الباب أن السياسة والتسيس من صميم الدين، ومن تكاليف رب العالمين لأمة خير الأنبياء والمرسلين، بل إنها من المعلوم من الدين بالضرورة، عملا بالقاعدة الفقهية المشهورة : >ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب<، ومن هنا فالواجب على كل مسلم أن يعرف هذه الحقيقة التي كثيرا ما أصابها الانحراف في أذهان الناس وتصوراتهم بسبب جهل أحكام الدين ومقاصده، وكذلك بسبب الغزو العلماني والتضليل الإعلامي. بعد هذا العرض الوجيز لمفهوم السياسة ومقاصدها وأهميتها وحكم إعمالها والعمل بمقتضاها وآراء الفقهاء في ذلك كله، فإن فقهها فقها مقاصديا عميقا، وترتيب أولوياتها والإهتداء بنورها لا يتأتى على أكمل وجه وأحسنه، إلا من خلال تأصيلها والتقعيد لكل قضاياها القديمة والمستجدة، وفي هذا الشأن أورد جملة من أهم القواعد في الفقه السياسي التي تستمد شرعيتها وتأصيلها من أصول ديننا ومقاصده، وهي كما يأتي : القاعدة الأولى : >الأصل في قبول الولايات العدالة<. وهذه القاعدة تستوعب جميع الولايات الدينية والدنيوية وفي مقدمتها الولاية العامة وغيرها من الولايات التي دونها في الرتبة وتقوم عليها سياسة الدين والدنيا -والمقصود بالعدالة ههنا- كما حددها الفقهاء والمحدثون- : أنها هيئة راسخة في النفس تحمل صاحبها على الصدق في القول في الرضا والغضب، ويعرف ذلك باجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر، وملازمة المروءة والإعتدال عند انبعاث الأغراض حتى يملك نفسه، والعدالة نوعان ظاهرة وباطنة، فالظاهرة تثبت بصلاح الدين والعقل، فكل من أصابهما فهو عدل ظاهرا، لأنهما يحملانه على الاستقامة ويدعوانه إلى ذلك، والباطنة لا تعرف إلا بالنظر في معاملات المرء، ولا يمكن الوقوف على نهاية ذلك للتفاوت بين الناس فيهما، ولكن كل من كان ممتنعا من ارتكاب ما يعتقد حرمته فهو على طريق الاستقامة في حدود الدين(انظر في ذلك، السبكي الأبشباه : 1/451، أصول السرخسي : 2/350، القوانين الفقهية : 203، الفروع لابن مفلح : 6/562، منتهى الوصول والأمل : 77 وغيرها). وقد حدد العز بن عبد السلام القصد من اشتراط العدالة في جميع الولايات حيث قال : >وإنما شرطت لتكون وازعة عن الخيانة والتقصير في الولاية<(قواعد الأحكام : 1/77)، وقال أيضا : >العدالة شرط في كل ولاية لتكون العدالة وازعة عن التقصير في جلب المصالح ودرء المفاسد<(قواعد الأحكام : 2/89). إن الوازع عن التقصير في أية ولاية إنما هو خوف صاحبها من الجرأة على ربه بارتكابه كبيرة، أو بالإصرار على صغيرة، فإذا حصلت جرأته على ذلك سقطت ثقته والنصح في ولايته. واشتراط العدالة في التصرفات مصلحة لحصول الضبط بها، وهي إما في محل الضرورات كالشهادات، وكذلك الولايات مثل الإمامة والقضاء وأمانة الحكم وغيرها من الولايات، إذ لو فوضت لمن لا يوثق به لحكم بالجور وانتشر الظلم وضاعت المصالح وكثرت المفاسد كما هو واقع المسلمين الحالي. أو في محل الحاجيات كإمامة الصلاة، وقد اختلف في اشتراط العدالة فيها، فاشترطها المالكية وآخرون ولم يشترطها الشافعي، أو في محل التتمات كولاية الزواج لأن الوازع الطبعي فيها أقوى من الشرعي. وبهذا يتضح أن هذه القاعدة تحدد لنا معيار اختيار كل من تناط به مسؤولية القيام بمصالح المسلمين الكبيرة والصغيرة وهو معيار العدالة، واشتراطها إنما يكون واجبا في الأصل في الولايات التي هي في محل الضروريات أو الحاجيات، ولهذا فقد استثنى الفقهاء اشتراطها في عدة أمور، واعتبروها من باب التتمات والتكملات كما هو الحال في ولاية الزواج وأمثالها(انظر في ذلك : قواعد الأحكام : 1/77 و2/89 والفروق للقرافي : 4/35). ثم إن اشتراط العدالة في الولايات الأساسية إنما كان ضروريا أو حاجيا فيها، لأنها لا تقوم مصالحها على التمام والكمال إلا بها، ودليله الإستقراء في الواقع، ولذلك اتفق المسلمون عليها في الجملة، فاشترطوها في الخلافة والوزارة والعرافة والحكومة على اختلافها، والشهادة وولاية الإفتاء وأشباهها، إلا أنه لابد من أن تنضاف أمور إلى العدالة في كل ولاية لا تقوم إلا بها حتى تستنهض مصالحها كاملة(الونشريسي، المعيار المعرب : 10/205)، فخذ مثلا ولاية رئاسة الدولة، فإلى جانب ضرورة العدالة فيها، فلابد أن يكون الحاكم مجتهداً، يقول الإمام الشاطبي في هذا الأمر : >إن العلماء نقلوا الإتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الإجتهاد والفتوى في علوم الشرع،…، وهذا صحيح على الجملة<(الإعتصام : 2/126). وينضاف إلى شرطي العدالة والإجتهاد ما ذكره الأصفهاني بقوله : >… إن الخلافة تستحق بالسياسة، وذلك بتحري مكارم الشريعة،…، ولا يصلح لسياسة غيره من لا يصلح لسياسة نفسه<، ويقول : >إنكم لا تصلحون للسيادة قبل معرفة الفقه والسياسة العامة<(الذريعة إلى مكارم الشريعة : 26 - 27). وفضلا عن تمكنه من فقه الدين ومقاصده إلى درجة الإجتهاد لابد من فقهه للواقع واستيعابه له بحيث يستطيع أن يدرك حقائق الأمور ومجريات الأحداث ومآلاتها، والقوى المتحكمة في الواقع والفاعلة فيه... إلا أنه إذا لم يوجد في فترة ما، بين الناس مجتهد يصلح لهذه الولاية أو ماقاربها، فحينئذ لابد من تولية الأمثل ممن ليس بمجتهد، لأنا بين أمرين إما أن يترك الناس فوضى وهو عين الفساد، وإما أن يقدموه فيزول الفساد ولا يبقى إلا فوت الإجتهاد، والتقليد كاف بحسبه، كل هذا مع السعي الجاد في إيجاد الحاكم العادل المجتهد الأصلح، يقول الشاطبي : >وإذا ثبت هذا فهو نظر مصلحي يشهد له وضع أصل الإمامة وهو مقطوع به بحيث لا يفتقر في صحته وملاءمته إلى شاهد<(الاعتصام : 2/162)، وهذا لا يقتصر فقط على شرط الإجتهاد بل يشمل أيضا العدالة، يقول الونشريسي : >لابد من اعتبار عدول كل زمان بحسبه، وإلا لم تكن إقامة ولاية يشترط فيها العدالة،…، إذ ليس بجار على قواعد الشرع تعطيل المراتب الدينية لإفضائه إلى مفاسد عامة يتسع خرقها على الراقع وَلَمُّ شَعَتِهَا وهذا الأصل مستمد من قاعدة المصالح المرسلة<(المعيار : 10/204) وكل هذا يدخل في باب الأولويات وفقهها، ولا يقتصر هذا على ولاية رئاسة الأمة، بل يشمل جميع الولايات حفاظا على جلب مصالحها ودرء مفاسدها، والقاعدة الموالية توضح ذلك.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>