قال تعالى :
#إِنَّ الذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّين(20) كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز(21) لاَتَجِدُ قَوْماً يُومِنُونَ بِاللَّهِ وَ اليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمُ أَوْ ابْنَاءَهُمُ أَوْ إِخْوَانَهُمُ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِىنَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ(22)]-سورة المجادلة-
في رحاب الدلالات اللغوية والاصطلاحية :
يحادون الله ورسوله : يعادون مايأمر به وينهى عنه، فهم يوجدون في حَدِّ الفسوق والعصيان والطغيان، وشرعُ الله تعالى وهديُه في حَدٍّ آخر، فبيْن شرعِ الله تعالى وأهوائهم حدود ومسافات من المخالفة والمشاقة والعناد والكبر. والمقصود بهؤلاء المحادِّين والمخالفين المنافقون المتظاهرون بالموالاة لله والرسول والمسلمين، بينما هم يعملون في السر لمنع الإسلام من الانتشار والتطبيق، ويتآمرون سراً مع الأعداء العلنيين الذين ذكرهم الله تعالى في الآية الرابعة من هذه السورة، وأخبر أنهم مكبوتون ومغلوبون كما كُبتَ كل كافر ومشرك ومتكبر في كل زمان ومكان.
أما هؤلاء فهم المنافقون الذين يطلبون العزة عند أسيادهم من عتاة الكفر والفساد ظانين أنهم سينقذونهم من غضب الله وخزيه في الدنيا والآخرة، في الوقت الذي لايملك الكفار لأنفسهم شيئا، فكيف يستطيعون انقاذ غيرهم.
أولئك في الأذلين : أولئك المنافقون يوجدون في زمرة الأذلين، لتعلقهم بأذيال الأذلاء من الكفار والمشركين وأعداء الله تعالى من أهل الكتاب يهوداً ونصارى، إِذْ من كان عدواً لله العزيز القهار الجبار لايمكن أن يكون إلا ذليلا خاسئا خاسراً خائبا مهما أمَدَّ الله له في حبال القوة المادية، ومن استعان بالذليل كان أشد غرقا في الذل والخسران، وذلك شيء طبيعي، لأن من عادى الله تعالى الذي لاتتناهى عزته، كانت مذلته غير متناهية.
كتب الله : قضى وحكم وقدر أن تكون الغلبة لله والرسول في الوقت الذي يريد الله تعالى ذلك، ويعلم أنه مناسب للتمكين للمومنين المستحقين للاستخلاف.
لأغلبن أنا ورسلي : بالحجة والبرهان، والآيات والمعجزات، دائما وأبدا، وبالسيف والقوة وإنزال النصر في ا لوقت المناسب لإظهار قدرة الله الغالبة، وعزته الباهرة.
لاتجد… : لاينبغي أن يوجد في الصف الإسلامي من يجمع بين الإيمان بالله والرسول ومحبتهما، وبين محبة الكافرين والمنافقين، لأن ذلك ينافي الإيمان وينقضه، وقد كان الكفر مكشوفا في مكة، فلما انتقل المسلمون للمدينة أصبح الكفر مستوراً بالنفاق، فكان التحرز من موادة هؤلاء المتظاهرين بالإسلام أجدر وأحذر.
يُوادُّون : تبادلونهم وُدّاً بوُدٍّ، ومحبة بمحبة، لأن الموادَّة تقتضي التشارك في الوُدِّ، ولهذا كان النهي والتحذير، حتى لاينزلق قلب المسلم في حُبِّ غير الله ورسوله والمومنين، أما حب الكافر للمسلم فليس موضوع النهي، وإنّما النهي عن مقابلة وُدِّ الكافر للمسلم بوُدٍّ مثله، فالنفوس مجبولة على حب من أحسن إليها، وقد يحسن الكافر أو المنافق للمسلم، فلاينبغي أن يكون الجزاء موادَّتَهُ ومحبته، ولكن مقابلةُ الإحْسَانِ بإحسانٍ يُنَاسِبُهُ، وليس بِحُبٍّ يَصْرِفُ عن طاعة الله ورسوله ومحبتهما وحدهما، خصوصا إذا كان المحادون لله ورسوله آباء وأبناء وأزواجا وأقرباء، لأن النفوس بطبيعتها تميل إلى هؤلاء ميلا فطريا.
رضي الله عنهم : بما أضمروه وأظهروه من حسن الطاعة والامتثال، والصدق في الأقوال والافعال.
ورضوا عنه : بما يسره لهم من الهداية والتثبيت والنصر والثواب الجزيل.
حزب الله : كل المومنين المجندين للعمل بشريعة الإسلام، والدعوة لدين الله، والجهاد في سبيل الله تعالى.
أسباب النزول :
ذكر القرطبي عدة أسباب نذكر منها :
1- قال مقاتل : قال المومنون : لئن فتح الله لنا مكة والطائف وخيبر وماحولهن، رجونا أن يظهرنا الله على فارس والروم، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول : اتظنون الروم وفارس مثل القرى التي غَلبتم عليها؟؟ والله إنهم لأكثر عدداً، وأشد بطشا من أن تظنوا منهم ذلك، فنزلت >لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي< 2- قال السدي : نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أُبَيّ، جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فشرب النبي ماء، فقال له : بالله يارسول الله ماأبقيتَ من شرابك فَضْلَةً أسقيها أبي، لَعَلَّ اللَّهَ يطهر بها قلبه؟؟ فَأَفْضَلَ لَهُ فَأَتَاهُ بِهَا، فقال له عبدُ الله : ماهذا؟ فقال : هي فَضْلَةٌ من شراب النبي صلى الله عليه وسلم جئتك بها تشربُها لَعَلَّ اللَّهَ يطهر قلبك بها، فقال له أبوه : فَهَلاَّ جِئْتَنِي بِبَوْلِ أُمِّكَ، فإنه أطْهَرُ منها، فغضب وجاء إلى النبي وقال : يارسول الله أَمَا أَذِنْتَ لِي في قَتْلِ أبي؟؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم >بل تَرْفُقُ به وتُحْسِنُ إِلَيْهِأَلَمْ تَرَ إِلَى الذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَاهُم مِنْكُمْ وَلاَمِنْهُمْ< فالذين تولوا هم المنافقون، والمغضوب عليهم هم اليهود، وهؤلاء المنافقون ليسوا منكم، وليسوا من اليهود، وهل هناك أَذَلُّ مِمَّنْ يعيش في حياته بين قوسين لا إلى هؤلاء ولاإلى هؤلاء؟! إن العقل يقتضي عدم احترام من أهان نفسه، وارتضى لها أن تعيش صفراً على الشمال لاتساوي مثقال خردلة حتى في الميزان البشري، فمابالك بالميزان الرباني!!! ومن لايستحق الاحترام ليس أهلا للالتفات إليهِ فمابَالك بمحبته ومُوادَّتِهِ!! ولهذا كان الحَسْمُ الإلهي >لاَتَجِدُ قَوْماً يُومِنُونَ باللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمُ….< أي لاينبغي لمن كمل ايمانه، وصدق انتماؤه للإسلام أن يحب من عادى الله ورسوله والمومنين، سواء كان مشركا أو كافراً، أو مبتدعا، أو يهوديا، أو نصرانيا، أو علمانيا، أو ظالما، أو منافقا يسير في ركاب الأعداء ويضرب المسلمين بسوط أسياده، لأن ذلك الود يناقض الإيمان. أخرج الإمام أحمد عن البراء بن عازب مرفوعا >أَوْثَقُ الإِيمَانِ الحُبُّ فِي اللَّهِ والبُغْضُ فِي اللَّهِ<-روح المعاني 10/35-. فليحذر المسلمون الذين يقدمون لهم أعداؤهم السلاح، والدعم الإعلامي، والسياسي… لمحاربة إخوانهم في الدين والعقيدة والتاريخ والمصير، والوطن الإسلامي، ظانين أنهم يحسنون اليهم، وماهم بمحسنين، ولكنهم يضربون المسلمين ببعضهم بعضا، وتلك من أعظم الكوارث النازلة بالأمة الإسلامية، نسأل الله تعالى أن يرفع الغشاوة عن الأبصار والبصائر. أخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم >اللَّهُمَّ لاَتَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيَّ يَداً وَلاَنِعْمَةً فَيَوَدُّهُ قَلْبِي، فَإِنِّي وَجَدتُّ فِيمَا أَوْحَيْتَ إِلَىَّ “لاَتَجِدُ قَوْماً يُومِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ”<-المرجع السابق-. في الحلقة المقبلة -إن شاء الله- المستفادات