السياسة المالية : أهدافها وأدواتها 1/3


د. لحسن الداودي

مقدمة :
يقول الحق تعالى : “وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون”(الذاريات 56). ان وجود الانسان على البسيطة مرتبط بعبادة خالقه. وانطلاقا من هذه القناعة، فإن الهدف من كل نشاط سواء على المستوى الفردي او الجماعي او بالاحرى الحكومي، يجب ان يستهدف بصفة او بأخرى توفير الحد الاقصى من الشروط الملائمة لعبادة الخالق.
والعبادة هاته، ذات ابعاد كثيرة الا انها قد تنحصر في عبارة “اعلاء كلمة الله”. انها رسالة سماوية تقتضي الحكم بشرع الله. وهذا الحكم بدوره يستلزم عمارة الارض طبقا لقوله تعالى : “كنتم خير امة اخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله” (آل عمران 110) والامة التي عليها واجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، عليها كذلك ان تكون قدوة بالنسبة لباقي الامم على كل المستويات سواء تعلق الامر بالعدالة الاجتماعية، او الاستقرار، او الرخاء، او العيش الطيب، او القوة… ولدور الدولة اهمية بالغة في تحقيق هذه الاهداف، ويمر عبر قنوات شتى تأتي في طليعتها قناة السياسة المالية.
تعني السياسة المالية الكيفية التي يتم بها تكييف النظام المالي مع متغيرات الواقع. الامر اذا يتعلق بالجانب الميداني – وإذا كان النظام المالي الاسلامي قار وغير قابل للتغيير، فإن السياسة المالية التي تخدم اهدافا معينة ترتبط بالواقع ولكن في اطار المبادئ.
من هنا تتولد صعوبة تناول السياسة المالية او تطبيق النظام المالي في غياب الواقع – اذ من خلال هذا الواقع والمشاكل التي يستوجب حلها تحدد الاهداف الخاصة وتُبتكر ادوات جديدة وخاصة، اما وأن الواقع منعدم الوجود، فإنه يصعب الدخول في التفاصيل، وستنبع هذا النهج ان شاء الله لتحليل السياسة المالية من خلال نقط ستة. الاولى تختص بالنظام المالي حيث لا يمكن الكلام عن السياسة المالية دون تحديد اطارها الشرعي خاصة واننا لا نتفق مع كثير من الاطروحات التي تناولت هذا الموضوع. اما النقطة الثانية، فستنصب على تحديد مفهوم السياسة المالية – وعندئذ سنتمكن من الكلام عن الأهداف(3) ثم الادوات(4) والايراد مع الانفاق(5) مع محاولة تحديد موقع الزكاة من السياسة المالية(6).
الباب الاول : حول مصطلح النظام المالي
يقول زميلنا الدكتور رفعت العوضي ان مقابل هذا النظام في الفكر الاقتصادي الوضعي هو “العلم المعروف باسم : المالية العامة. وهو العلم الذي يبحث في ايرادات الدولة ونفقاتها ويمتد الى دراسة ما يعرف باسم الميزانية العامة”(في الاقتصاد الاسلامي… للدكتور رفعت العوضي، كتاب الامة 1990 ص 123). ولقد ناقش الاستاذ العوضي مدى انسجام المصطلح والنظرة الاسلامية ولكن من زاوية خاصة وهي عبارة “عامة”.
ويظهر من خلال المناقشة ان محور البحث كان يدور عن كيفية الحد من طغيان الدولة او السلطة المركزية، وقد يفهم ان للواقع اثر كبير في توجيه البحث حيث لاحظ الاستاذ “ان السلطات المالية في الدول الحديثة تتصرف على اساس الميزانية العامة للدولة، وهي معتمدة من النواب المنتخبين في المجالس النيابية. ولكن ما اراه انه حتى مع وجود ذلك، فإنه لم يغير من الانتقادات التي وجهت، وهي الاسراف في فرض الضرائب والاسراف في الانفاق”( رفعت العوضي،م ن، ص 130).
منهجيا، يصعب الانطلاق مما نشاهده عندما نحاول تحليل وفهم النظام الاسلامي ، ان الواقع غير اسلامي ولايمكن اسقاط سلبيات هذه الانظمة الوضعية، بكيفية او باخرى، على تحديد المفاهيم الاسلامية للنظام المالي. ونخشى ان يكون هذا النمط من الخلفيات هو الذي اثر كذلك على الباحث عندما كتب ما يلي : “المالية العامة محكومة بقاعدة عدم تخصيص الايرادات – وتعني هذه القاعدة ان الدولة وهي تقوم بتحصيل الايرادات مخصصة لانفاق معين، وإنما تجمعها اولا وعامة، وبعد ذلك تبدأ الدولة بواسطة اجهزتها الكثيرة في توزيع هذه الايرادات على انواع النفقات التي تقوم بها – ولذلك فإن كلمة “عامة” تتضمن اعطاء الحرية (المطلقة) للدولة في تخصيص الايرادات”(رفعت العوضي،م ن، ص 126) والهدف من هذا الكلام، حسب فهمنا، هو الانسلاخ من مصطلح “عام” في النظام الاسلامي لتبني، بصفة مجردة، مصطلح التخصيص كحل امثل لوضع حد لطغيان الدولة – ويظهر هذا الهدف واضحا عندما كتب الدكتور العوضي : “هذا المعنى المتضمن في مصطلح “عامة” يجعلنا نتوقف امام استخدامه في المالية الاسلامية، التي تكون الدولة طرفا فيها، ذلك ان تحليل عناصر الايرادات في النظام المالي الاسلامي تخضع بإجمال لقاعدة تخصيص الايرادات”(رفعت العوضي،م ن، ص 127) وكدليل لقاعدة التخصيص، انطلق الباحث من الزكاة، فأظهر بصفة منهجية ومقنعة انها تخضع للقاعدة المذكورة لا لانها، وكما يقول المؤلف نفسه “لا تدخل الملكية العامة، بمعنى لا تمتلكها الدولة، وإنما يد الدولة يد واسطة… ولهذا لا يقبل ان تسمى ملكية عامة، بل ان الزكاة لا تدخل في ميزانية الدولة”(رفعت العوضي،م ن، ص 127) بما ان الامر كذلك، فإن الزكاة لا تدخل كذلك في ايرادات الدولة وانما تدخل في ايرادات مستحقيها. وعلى هذا الاساس لا يمكن ان تعتمد كمثال لتعليل قاعدة التخصيص فيما يخص ايرادات الدولة. هذا فيما يخص التبرير الاول – اما فيما يتعلق بالمثال الثاني، استشهد الاستاذ بالتوظيف في النظام المالي الذي “يخضع لقاعدة التخصيص، فالحكم فيه، يقول الدكتور لا يوظف على القادرين ماليا الا لحاجة حقيقية ومحددة، وليس للحاكم ان يوظف بمعنى يفرض الضرائب، ثم بعد ذلك ينظر في امر تخصيصها على اوجه النفاق التي تقوم بها الدولة” (رفعت العوضي،م ن، ص 123)، هذا أمر مسلم به ليس في الإسلام فقط بل حتى في سائر الدول حاليا سواء في الشمال أو في الجنوب.
ويصعب إقناع الغير بصلاحية النظام المالي الإسلامي انطلاقا من مثل هذه المبررات التي يعد نقيضها من الحالات الشاذة حيث نجد حاكما يفرض الضرائب على الناس دون أن يعرف مسبقا أين ستوظف تلك الأموال -لابد أن يكون هذا الحاكم مجنونا أو طاغيا وفي كلتا الحالتين لا يمت إلى الإسلام بصلة- والأصل، في الوقت الحاضر، هو أن تحدد الحكومة حاجياتها ثم تحاول إيجاد مصادر تمويلها. والدليل على ذلك، حتى على مستوى الدول النامية، هو المستوى الذي وصلت إليه ديونها الخارجية، إذ لو أنها نهجت فرض الضرائب مسبقا فتتقيد بالحصيلة ثم تنظر في كيفية إنفاقها لما وصلت إلى تلك الحالة -وهذا الشيء مسلم به ويعني أن هذا المثال لا يبرر التخصيص بمفهومه الدقيق أي أن كل مورد يأخذ طريقه إلى مصرف معين كما هو الأمر بالنسبة للزكاة.
أما المثال الثالث الذي أورده الدكتور فيقول فيه : “بعض عناصر النظام المالي الإسلامي قد لا تكون خاضعة لقاعدة التخصيص”(رفعت العوضي،م ن، ص127). ولكن كون الباحث يصر على التخصيص جعله يقول : “إلا أن النظر في هذه العناصر يبين أنها مخصصة على نحو إجمالي”(رفعت العوضي،م ن، ص 127)، وما معنى إجمالي هنا؟ هل يكفي القول أن : “هذه الايرادات تنفق في مصالح المجتمع، والفقهاء يحددون هذه المصالح على نحو فيه تفصيل ودقة”؟(رفعت العوضي،م ن، ص 127). اذا كان انفاق هذه الايرادات في الصالح العام يكفي لجعلها متخصصة فهذا يتنافى مع مفهوم التخصيص الذي ورد في باب الزكاة كما انه يعني ان ايرادات السويد او فرنسا هي كذلك مخصصة.
وما قيل حول ما كتبه الدكتور العوضي ينطبق كليا او جزئيا على غيره.
وهناك سؤال لابد من طرحه هنا وهو : هل المشكل مطروح بحدة على مستوى كلمة “عامة” او كلمة “تخصيص” ام انه تتجاوز هذه الثانية الى النظر في مسألة من يقوم على امر المسلمين علما ان فساد الدولة لا يصلحه التخصيص او بعبارة اخرى ان قاعدة التخصيص لن تحل المشكل بغض النظر عن نوعية المؤسسات الحكومية اذ الامر يتعلق اكثر بحسن تدبير امور المسلمين.
وهناك من رأى ان التخصيص سيرجع بالمنفعة الكبيرة على الناس، ومن بين اولئك الدكتور عابدين احمد سلامة عندما كتب : “ويعتبر اسلوب تخصيص الايرادات لانفاق معين نظاما حديثا، ويرى بعض الاقتصاديين ان تطبيق نظام التخصيص في الدول النامية سوف يحدث اثرا كبيرا في زيادة الايرادات العامة، وذلك لانه سوف يجعل الربط بين النفقات والايرادات واضحا مما يدفع المواطن لدفع الضريبة المفروضة عليه…، اذ نجد في هذا العصر، والعصور السابقة، ان بعض الحكومات تسيء استخدام الموارد المالية التي تجنيها من نشاط الافراد”(الدكتور عابدين “الموارد المالية” كتاب موارد الدولة المالية في المجتمع الحديث من جهة النظر الاسلامي – المعهد الاسلامي للبحوث والتدريب 1989 ص 19)هناك نوع من التناقض، اذ ما الهدف من البحث عن زيادة الايرادات لهذه الدولة اذا كان هناك سوء استخدام الموارد؟ وكيف يمكن الزيادة في الموارد اذا طبق التخصيص بمفهومه الحقيقي -اي ان لكل مشروع موارد خاصة- فمن سيؤدي مثلا نفقات بناء السدود، وشق الطرقات؟ هل يمكن فرض ضرائب من اجل تمويل اي مشروع معين؟… وكيف يمكن ادارة كل الضرائب؟ هناك تساؤلات كثيرة تتعذر الاجابة عنها بصفة مقنعة على المستوى الاقتصادي.
عندما يقول الدكتور عابدين “ان بعض الحكومات تسيء استخدام الموارد المالية التي تجنيها من نشاط الافراد” هل يفترض ان الحل هو التخصيص؟ واذا كان الامر كذلك، فماذا يمنع اي حكومة من الحكومات الحالية في العالم الاسلامي من جمع الزكوات دون ان تسيء الى استخدامها؟ التخصيص اذا ليس بالحل، والضريبة العامة ليست بالحل، والقيود ايضا ليست هي كذلك بالحل، وأما الحل فيكمن في قوله تعالى : “ولا توتوا السفهاء اموالكم التي جعل الله لكم قيما”(النساء 5) اذا اعتمدنا هذه القاعدة يصبح امر التخصيص او “العام” مسألة ثانوية داخل النظام المالي الاسلامي.
الاقتراح : تبنى قاعدة التخصيص عند وجود النص وترك الصلاحية للمجتمع الاسلامي فيما سوى ذلك.
1- تعريف النظام المالي الاسلامي :
يتكون النظام المالي الاسلامي من الايرادات والنفقات التي تحددها النصوص بالاضافة الى كل ما تبيحه او تحرمه تلك النصوص(فعلى سبيل المثال : قوله صلى الله عليه وسلم “ان في المال حق سوى الزكاة” >سنن الترميدي< يندرج في اطار النظام المالي). ولا نطيل الحديث اكثر حول هذا الموضوع طالما انه سيتولى دراسته كل من د. مندر قحف ود. صادق حسن في محاضرتيهما – وأما استثمار مايحويه النظام المالي من امكانات فيتوقف على السياسة المالية اذ عليها ان تحدد وسائلها وكيفية الاستفادة منها في حدود قوله عز وجل : “لا يكلف الله نفسا الا وسعها” اذ لا يسمح للدولة ان تفرض على الناس مالا طاقة لهم به. فإن دل هذا على شيء فإنما يدل على مدى اتساع النظام المالي الاسلامي. وهذا التصور مخالف لتصور اولئك الذين جمعوا بين ما جاء من ضرائب في القرآن والسنة وما استحدث من بعد في اطار النظام – هذايعني بالنسبة الينا ان هناك تعريف خاص للايرادات والنفقات في النظام المالي الاسلامي اوسع من التعريف الذي يرد في اطار السياسة المالية. 1) الايرادات في النظام المالي الاسلامي : لقد حدد الاسلام بعض ايرادات الدولة والتي يمكن القول انها تمثل الحد الادنى الذي يمكن لاي دولة اسلامية ان تقوم عليها. وهذه الايرادات هي الزكاة والجزية والفيء والخمس. وبإمكاننا عزل الزكاة التي تمثل نظاما مستقلا وغير مرتبط بوجود مجتمع اسلامي قائم بذاته، وإنما تقتضي وجود افراد مسلمين فقط. وكون الزكاة تمر عبر قناة الدولة يعني فقط الحرص على الفعالية وحسن التدبير. هذه الموارد المنصوص عليها قد لا تكفي لسد حاجيات الدولة ولكن قوله صلى الله عليه وسلم “ان في المال حق سوى الزكاة” يتيح الفرصة لايجاد موارد جديدة لانه جزء لا يتجزء من القوانين المنظمة لايرادات الدولة. هذا من الناحية المنهجية، اما من الناحية العملية فإن التركيز على كل عناصر النظام المالي الاسلامي لا يندرج في اطار بحثنا هذا. 2) النفقات : تهدف نفقات النظام المالي الاسلامي الى المساهمة في توفير كل الشروط لاعلاء كلمة الله وذلك من زاوية التوازن والعدل والاحسان… هذا بصفة عامة، اما بصفة خاصة فإن هناك موارد مخصصة لا يمكن للدولة ان تتدخل في كيفية انفاقها الا في اطار قيود دقيقة كما ان هناك موارد يمكن للدولةان تتصرف فيها بحرية اكبر – والواقع هو الذي يحدد بالضبط كيفية انفاق هذه الموارد بعد الالتزام بالنصوص. وعلى سبيل المثال، ينص القرآن الكريم على مصارف الفيء في قوله تعالى : “واعلموا انما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل”(الانفال 41) – ان محتوى كلمة مسكين هنا غير قارة، والسياسة الاقتصادية هي الوحيدة الكفيلة لتحديد هذا المحتوى حتى يسود العدل جميع الجهات.وإعداد العدة التي اوصانا بها الله يدخل كذلك في اطار النظام المالي الاسلامي اذ على الدولة ان تقوم بمهامها في هذا الميدان -ولن تتمكن الا اذا توفرت لديها كل الوسائل ومن بينها الوسائل المالية- ويمكن فرض ضرائب من هذه الزاوية التي تندرج كذلك في النظام المالي. الخلاصة هي ان الاسلام يتميز بنظام مالي قار وغير قابل للتغيير، لاقديم فيه ولا مستجد.لذلك فنحن لا نتفق مع د. عابدين احمد سلامة عندما كتب : “… وما استجد من قواعد في العصر الحديث في النظام المالي”(موارد الدولة المالية في المجتمع من وجهة النظر الاسلامية. البنك الاسلامي للتنمية، المعهد الاسلامي للبحوث والتدريب، جدة 1989 ص 17). والنظام الاسلامي يعد مرجعا للسياسة المالية، كما تعد السياسة المالية في عهد الخلفاء الراشدين مرجعا بعد الاصل للسياسة المالية الحديثة.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>