التوضيح والتعقيب 2/2 – التوضيح لحقيقة أهل الإجماع. – والتعقيب على من أدخل العامة في الإجماع.


1- التوضيح يتركز على أن الإجماع المذكور في علم الأصول ليس هو إجماع كل أفراد الأمة لاستحالة ذلك وتَعَذُّره، وإنما الإجماع يُقصد به اجماع العلماء المجتهدين.
2- التعقيب يتركز على أن العامة ليسوا من أهل الإجماع.

5- إننا لم نُحَمِّلْ كلام الأخ ما لا يتحمله، ولا أكثر مما يتحمله، بل إننا لما علقنا على مقاله لم نقُلْ ما لم تدل عليه عبارته، فإن الانسان يُستدل على ما عنده من الأفكار بواسطة عباراته، كما قيل : >المرء مخبوء تحت لسانه<. وكما قال الشاعر : >وإنما جُعل اللسان على الفؤاد دليلا<. ويقال : >اللسان (ألقلم) أحد اللسانين< ولا يُقبل من أحد دعوى أن المراد، خلاف مادل عليه جوهر الكلام، إلا إذا نَصَّب قرينة يصرف بها الكلام عما هو المتبادََر منه، كما يقولون : >المراد لا يدفع الإيراد< وما دفعني إلى ما كتبت من التعقيب إنما هو ما جاء بالحرف في المقال المنشور في صحيفة الراية عدد 111 ص 8. >وها قد وضح ببساطة إن كان الاجماع مصدراً للتشريع، وإذا كان الاجماع يعني في أصله إجماع الأمة كلها بمجتهديها وبمن دونهم، فإن معنى ذلك أن المصدر الثالث للتشريع بعد الكتاب والسنة هو >الأمة< نفسها، وهي (أي الأمة) في هذا المجال تأتي قبل القياس، وقبل اعتبار المصلحة والعرف وغيرهما، لأن المصلحة المتفق عليها من الجميع سابقةٌ على مصالحَ معتبرةٍ من قِبل مجموعة من الأمة، ليس معنى هذا أن إجماع المجتهدين أو المتخصصين وحدهم ليس له معنى، لكِنه إجماعٌ أدنَى مرتبةً من اجماع كُلِّ الأمة، وعلى قَدْرِ قلة وتقلُّص عدد المجتمعين تَقِلُّ درجة إجماعهم، لذلك جعل العلماء علامة المعلوم من الدين بالضرورة إجماعَ عامَّةِ الأمة وخاصَِّتها عليه، فكان أعلى أحكام الدين بحيث يكون جاحدُها أو مستحِلُّها كافراً، ولا يصْدُق ذلك إلا على ما أجمعت عليه كل الأمة، ثم إذا فوَّضَتْ الأمة لمجتهديها، أو لبعضهم أو لأهل الحل والعقد أو لهيئة شورى ترتضيها مباشرة بعض أمورها، فإن إجماعهم آنذاك يُعتبر أيضاً، لكنه أقل مرتبة من الأول<، ويقال : ما المعنى بالأصل. هل الأدلة المفيدة لِعِصْمَةِ الأمة، أم شيءٌ آخر؟؟ فإن كان المراد الأول قيل عنه : إن هذا الأصل لم يَقُل به أحدٌ، وأولُ من خصَّهُ الذين قالوا بدخول العامِّيِّ في الإجماع، حيث أخرجوا الصبيَّ والمجنون، وخصُّوه بالمكلَّف، على أن الدليل الذي استندوا إليه في اخراج الصبي والمجنون من >الأمة< و >المومنين< هو الدليلُ نفسُه الذي استند إليه الذين أخْرَجُوا الأمِّيَّ (العامي) من هيئة الاجماع، فإذا كان الصبي والمجنون قد خُصا من الأمة، وإن كانا منها، لانعدام شرط التكليف فيهما كان تخصيص العامي بمعنييه من الأمة في باب الإجماع، وإن كان منها، لانعدام شَرْطِ التكليف فيه المتعلِّق بالنظر في الأدلة وبالاجتهاد. وحيث فُقِدَ فيه النظرُ كان عدَمُ توقُّفِ الاجماع عليه كَعَدَمِ توقُّفِهِ على الصَّبي، والمجنون، ورُبَّ صبيٍّ مميّزٍ أذْكَى وأعْلَم من العامِّيِّ بمعنييه، ثم يقال اعتبار الأمة نفسها، مصدراً للتشريع، بما فيها أخلاطُ الناس، الذين لا يُتَصَوَّرُ منهم رأيٌ ولا مشاركةٌ في الاجماع ولا يُعتدُّ بخلافهم رأيٌ مجانبٌ للصَّواب، وهو مساو للقول : إنَّ الشعب مصدرٌ للتشريع كيفما كان هذا الشعبُ، وكيفما كان الحكمُ الصادر عنه، وفي هذا من الخطورة ما لا يخفى على مسلم واع!! على أن حُكم الشعب، أو الديمقراطية، انما هو شيءٌ يرفع شعاراً، ولا يطبق في الميدان والحقيقة إنما هي الأخذ برأي الأقلية المقنعة أحياناً، والمكشوفة أخرى، أما الأكثرية فلا رأي لها دائما، وإنما تُساق إلى ما يُراد منها سوقاً، وإني لا أدري ما معنى اعتبار اجماع المجتهدين وَحْدَهُمْ مع كون موافقة العوام شرطاً أو ركناً للتَّحقق!؟ وهل يُتصوَّرُ وجود الشيء مع انعدام شرطه أو ركنه؟! وعن كَْون الاجماع الذي يجتمع عليه كل الأمة فوق إجماع المجتهدين وحدهم، وكون ذلك مفيداً للقطع ، ومصيّراً المجمع عليه معلوماً من الدين بالضرورة وبالتالي يُعْتَبَر جَاحِدُهُ كافراً خارجاً عن الملة، يقال عنه : ان المُجْمَعَ عليه، المعلوم من الدين بالضرورة، إنما هو اعتقاد الاسلام والنبوة، وكون القرآن كلام الله تعالى، وقواعِدُ الاسلام وغَيْرُ ذلك مما لا يَسَعُ أحداً من المسلمين جهله، وهذا قد انتهى في عهد الصحابة ولم يبق لأحد حقُّ البحث فيه، ولا الأخذ والرد، ومُنكرُهُ أو الشَّاكُّ فيه كافرٌ خارج عن الملة. ان الاجماعَ المطروح إنما هو الحاصل في المسائل التي ليست معلومة من الدين بالضرورة، والتي تَخْفَى أدلةُ أحكامها -نَصِّيَّةً كانت أو مستنبطةً- على بعض المجتهدين فضلا عن غير ذلك، فهذا لو فرض موافقة العوام المقلدين والأميين للعلماء المجتهدين عليه لا يصير قطعياً ولامعلوماً من الدين بالضرورة، ولا مكفَّراً منكره أو مستحِلُّه، وموافقة العوام لا تغير من الأمر شيئاً. ثم ما معني أن درجة الاجماع تقل بقدر قلة عدد المجمعين؟! فإن كان القصد كلما اتفقتْ جماعة من المسلمين على شيء كان حقاً، وكان حكمُهم فيه هو حكم الله كان ذلك نقضاً للاجماع. ثُمَّ لاعتبارِ وجوبِ مشاركةِ العوامِّ! وإن كان غير ذلك فما هو؟! ثم ابن حزم في الإحكام ومقدمة المحلى إنما يقول بإجماع الصحابة فقط، إذ هم وحدهم يَتَصَوَّرُ فيهم الأمة كلها على ما ذهب إليه هناك، وأما غيرهم فانما هم بعض الأمة، وكذلك الاجماع على ما لا يسع أحداً جهله، وهذا كلامه في الإحكام. : >ونحن إن شاء الله مُبَيِّنُونَ كيفية الاجماع بياناً ظاهراً يشهد له الحسُّ والضرورة وبالله التوفيق فنقول : إن الاجماع الذي هو الاجماع المتيقَّنُ ولا اجماعَ غيره لا تفسيره ولا ادعاؤه بالدعوى لكن ينقسم قسمين : أحدهما كلُّ ما لا يشكُّ فيه أحدٌ من أهل الاسلام في ان من لم يقُلْ به فليس مسلماً. فإذْ ذلك كذلك، فكُلُّ من قال بها فهو مسلمٌ فقد صح أنها الاجماع من جميع أهل الاسلام، والقسمُ الثاني شيءٌ شهده جميعُ الصحابة من فِعْلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وتُيُقِّنَ أنه عرفَهُ كُلُّ من غاب عنه منهم كَفِعْلِهِ في خيبر، إذْ أعطاها يَهُود بنصف مايخْرُجُ منها…< الإحكام 4/149 – 150. وبهذا الكلام لا يخرج الاجماع عن إجماع الصحابة؛ لان هذين النوعين إنما حصلا لهم وحدهم، ويدل علي أن هذا هو مذهبُهُ المشهور عنه أنه لما نقل قول داورد : إنه لا إجماع إلا إجماع الصحابة أقره، ج 4 – 146 ومثل ذلك فعل في مقدمة المحلى ج 1 ص 54.وفي مقدمة مراتب الاجماع يذهب مَذْهَبَ الجمهور، يقول : فأحد الطرفين هوما اتَّفَقَ جميع العلماء على وجوبه أو تحريمه، وعلى أنه مباح لا حرام ولا واجب، وسمَّي هذا القسم : الاجماعَ اللازمَ، والطرفُ الثاني هو ما اتفق جميع العلماء على أن من فعله أو اجتنبه فقد أدى ماعليه من فِعْلٍ أو اجتنابٍ أو لم يؤثم، فسمي هذا القسم : الاجماع الجائز، عبارة اشتققناها لكل صنف من صفته الخاصة به ليقرب بها التفاهُمُ بين المُعَلِّمِ والمتعلم. والمناظرين على سبيل طلب الحقيقة، ويقول : وهاهنا نَحْوٌ من أنحاء الاجماع ليس هذا المكان مَكَانَ ذِكْرِهِ، وهو : أن يختلف العلماء في المسألة فيُبيحها قومٌ ويَحظُرُها آخرون، أو يوجبُها قوم ولا يوجبها آخرون، ولابد أن يكون الحق في قول أحدهم وسائرهم مبطلون ببرهان سمعي وبرهان عقلي شرطي، إذا تقصَّيْتَ أقسام المقالة على استيعاب وَثِقَةٍ وصحة فيكون في ذلك اجماعُ المحققين في تلك المسألة إجماعاً صحيحاً مرجوعاً إليه مُسْتَصحباً فيما اخْتُلِفَ فيه مالم يمنع نص من ذلك… الخ ص 9 قال : فهذه وجوه الاجماع التي لا إجماع سواها ولا تقوم حجةٌ من الاجماع في غيرها، ويقول : وصفة الاجماع هو ما تُيُقِّنَ أنه لاخلاف فيه بين أحد من علماء الاسلام. ونعلم ذلك من حيث عَلِمْنَا الاخبار، قال : وانما نعني بقولنا العلماء. من حُفِظَ عنه الفتيا من الصحابة والتابعين وتابعيهم وعُلماء الامصار وأئمةَ الحديث ومن تبعهم رضي الله عنهم نفس الصفحة. ولقذ رجعت إلى تفسير ابن كثير فلم أجده تعرض للفظ المومنين، إلا أنه جعل اتباع غير سبيل المومنين ملازماً لمشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم فيرجع حينئذ إلى الاجماع المعلوم من الدين بالضرورة، كما وجدته يذكر أن الامام الشافعي عَوَّلَ على هذه الآية في الاحتجاج على حجية الاجماع، لكن يجعل ذلك استنباطاً. ج 1 ص 842. وأما العلامة الطاهر بن عاشور فبعد أن قال : لقد شاع لدى كثير من علماء أصول الفقه الاحتجاج بهذه الآية لكون إجماع علماء الاسلام على حكم من الاحكام حجة، وأول من احتج بذلك الشافعي…الخ. قال : وقد قرر غيره الاستدلال بالآية على حجية الاجماع بطرق أخرى، وكلها على ما فيها من ضعف في التقريب! #لعله التَّرْتِيبُ، أي ترتيبُ المقدمات وتلازُمُها] وهو استلزام الدليل للمدّعِى قد أُورِدَتْ عليها نُقُوضٌ أَشَارَ اليها ابن الحاجب في المختصر، واتفقت كلمة المحققين : الغزالي، والامام في المعالي، وابن الحاجب على توهين الاستدلال بالآية على حجية الاجماع ج 5 ص 202. وقد سبق الشيخَ ابنَ عاشور إلى هذا العلامةُ الآلوسي في تفسيره ج 5 ص 147. وختاماً الأنسبُ بالتجديد الأخذُ بالقول السهلِ التطبيق، وذلك إنما يكون على القول بحصر الاجماع في المجتهدين وحدهم، وهؤلاء يمكن جمعُهُمْ ومعرفةُ آرائهم المبنيةِ على الدليل والبرهان. لا على الجَهْلِ والهوى، فمن عُلِمُوا بأهلية النظر واستجَدَّ أمرٌ من الأمور طُرِحَ على أنظارهم، فإن اتفقوا علي رأي واحد مبينين ما بنوه عليه من الدليل كان حجةً تلزم غيرهُمْ ممن لم يُدْرِكْ الحكم أَنْ يَعْمَلَ بذلك، ولا يجوز له المخالفة، وإن اختلفوا كان مََنْ ليس مِنْ أهل النظر في مندوحةٍ لَهُ أن يأخُذَ برأيِ مَنْ شَاء منهم مالم يتبيَّنْ له الصواب، وموافقة العوام لا تجعلُ الخلاف إجماعاً كما لا تجعل مخالفتُهُمْ الاجماعَ خلافاً. هذَا يُعْلَمُ بالبداهة، والمستجدات المطروحة على البحث كثيرة علماً أنه لا يخلو فعلٌ من أفعال المكلفين في كل زمان ومكان من حكم الله تعالى، وعلماً أنه تعالى لم يُخْلِ زماناً من القائمين بالحجة حتى ياتي أمرُ الله. ونحن أيضا نشيد بالأخ أحمد محمد داود من الجزر الخالدات، ونشكره على ما قام به من توضيح، ونقول له : إن الذي تفطنت إليه تجده منشورا في العدد 115 من صحيفة الراية، وذلك في الملاحظة الأولى من تعقيبي، وفيها : 1- جعل الأمة مصدرا للتشريع إِنَّمَا يتفق… الخ وفيها : ولكون الإجماع ليس حكماً للشعب، وإنما هو حكم الله تعالى جعل علماء الاسلام -وفي مقدمتهم علماء الأصول هيئة الاجماع محفوفة بشروط تؤهلها للإجماع… وتجد في هذا المقال التوضيحي والتعقيبي ما تَقَرُّ بِهِ العين يا أخي داود. وفقك الله وهداك، والمسلمين جميعاً، وسبحانك اللهم وبحمدك، والسلام في الختام كما بدئ.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>