مع كتاب الله عز وجل : من آداب الالتزام بالإسلام والانضباط داخل مبادئه :  الاستئذان ـ الاستجابة لدعوة الرسول (ص) في أدب وخشية وتعظيم وتوقير


قال تعالى من سورة النور : {إنما المومنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنونك أولئك الذين يومنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أ يصيبهم عذاب أليم ألا إن لله ما في السموات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم}(60-62)

مما يستفاد من الآيات :

1-           الاستئذان من صفات المؤمن الحق :

جعل الله تعالى الاستئذان علامة مميزة للمومنين  الأحقاء، لأنهم حضروا للمجلس طاعة لله تعالى وتلبية لدعوة رسوله (ص)، فهم في المجلس راغبون، وبشؤون الاسلام المدروسة فيه مهتمون، وللتوجيهات النبوية مصغون، وللترغيب في الخير والجهاد ساعون مستجيبون، فكيف ينصرفون عن المجلس وهو روحهم الذي يمدهم بالزاد والتوجيه الضرورين للصلاح والإصلاح، والتغلب على المثبطات والمعوقات.. لا ينصرف عن ذلك إلا المنافقون الحاضرون بأجسامهم فقط خوف الانكشاف والافتضاح، ولذلك فهم يهتبلون أي فرصة للانسحاب من الاجتماع الذي لا يتجاوبون معه بقلوبهم المريضة بالنفاق، خوفا من التكليف بأعمال تشق عليهم، وسأمة من سماع كلام لا يبالون به، ولا يفقهون له معنى.

وإذا كان الله تعالى أبرز صفات المومنين المخلصين هنا فقد أبرز صفات المنافقين في آيات عدة تبين كيفية حضورهم المجالس، وكيفية تلقيهم الأوامر والتكاليف من عند الله ورسوله {وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون}(التوبة)  {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ما ذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}(محمد)

2-           وجوب الاستجابة لدعوة الرسول(ص) أو من يقوم مقامه ووجوب الاستئذان :

قال الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى في التحرير والتنوير : “وهذه الآية أصل عظيم من نظام الجماعات في مصالح الأمة، لأن من السنة أن يكون لكل اجتماع إمام ورئيس يدير أمر ذلك الاجتماع. وقد أشارت مشروعية الإمامة إلى ذلك النظام. ومن السنة ألا يجتمع جماعة إلا أمروا عليهم أميرا، فالذي يترأس الجمع وهو قائم مقام ولي أمر المسلمين، فهو في مقام النبي(ص)، فلا ينصرف أحد عن اجتماعه إلا بعد أن يستأذنه، لأنه لو جعل أمر الانسلال لشهوة الحاضر لكان ذريعة لانفضاض الجماعات دون حصول الفائدة التي جمعت لأجلها، وكذلك الأدب أيضا في التخلف عن الاجتماعات دون حصول الفائدة التي جمعت لأجلها، وكذلك الأدب أيضا في التخلف عن الاجتماع عند الدعوة إليه كاجتماع المجالس النيابية، والقضائية والدينية، أو التخلف عن ميقات الاجتماع المتفق عليه إلا لعذر واستئذان” 18-19/308

وبناء على أن الدعاة بمعنى الدعوة لحضور اجتماع ينعقد للتشاور في مصالح المسلمين وغير ذلك من الأمور، فيكون حكم الاستجابة للدعوة واجبا كوجوب الاستئذان سواء كانت الدعوة من الرسول(ص) أو ممن يقوم مقامه، ونفس الحكم يعطى للاستئذان من الرسول(ص) أو ممن يقوم مقامه.

وجوب الاستجابة للدعوة يؤخذ ضمنيا من آية الاستئذان هنا، وصراحة من قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} وينزل منزلة النبي(ص) وراثة من العلماء وكل من له إمرة شرعية من المسلمين، لأن هؤلاء الشأن فيهم أنهم لا يدعون إلا لما فيه مصلحة الأمة وحياتها.

أما حكم وجوب  الاستئذان فيؤخذ من الآية التي نحن بصددها، نظرا لحصر الإيمان الحق في المومنين المستأذنين، وإعادة التأكيد على الاستئذان بأسلوب آخر يفيد الحصر أيضا {إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يومنون بالله ورسوله} وينزل منزلة النبي(ص) أيضا من قام مقامه. قال أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى “أما إن الآية تدل بقوة معناها على أن من حضر جماعة لا يخرج إلا بعذر بين، أو بإذن قائم من مالك الجماعة ومقدمها، وذلك أن الاجتماع كان لغرض، فما لم يتم الغرض لم يكن للتفرق أصل، وإذا كمل الغرض جاز التفرق”. أحكام القرآن 3/1398.

3-           جواز الانصراف بدون إذن لأصحاب الأعذار :

لا ينبغي أن يفهم من حكم الوجوب أن المنصرف لعذر بدون استئذان يسلب الايمان، فليس سياق الآية لبيان حقيقة الإيمان، لأن للإيمان حقيقة معلومة ليس استئذان النبي(ص) عند إرادة الذهاب من أركانها، فليس المقصود من هذا الحصر سلب الإيمان عن الذي ينصرف دون إذن من المومنين الاحقاء لو وقع منه ذلك عن غير قصد الخذل للنبي (ص) أو أذاه، إذ لا يعدو ذلك لو فعله أحد المومنين عن أن يكون تقصيرا في الأدب يستحق التأديب والتنبيه على تجنب ذلك لأنه خصلة من النفاق”(التحرير والتنوير 18.19/306)

وإذا كان من قصر يستحق التأديب، فإن من له عذر لا يستحق تأديبا ولا يلام مثل من رعف في الصلاة أو غلبة الحدث فيها، فله أن ينصرف بدون إذن، ونفس الشيء بالنسبة لمن له عذر مشروع حال دون حضور الاجتماع الضروري، فلا بد من تقدير العذر والظرف المصاحب لذلك حتى لا يقع التعجل في إصدار حكم أو إنزال تأديب بمن عذره الله تعالى فيكون ذلك التعجل سببا في انكسار النفس، وتفتير الهمة، أو إفساد القلوب التي لا تحتمل الأخطاء من القيادة.

4-           الإذن بالانصراف موكول للنبي(ص) أو من يقوم مقامه :

جعل الله الخيار للرسول(ص) في أن يأذن أو يمنع المستأذن، حسب ما يراه من المصلحة، والمفسدة، إلا أن الذي لا ينبغي إغفاله في هذا الباب هو عدم إهمال مصلحة الفرد المستأذن، فالحضور القسري مع تشتت الذهن يجعل الحضور عقيما، ولهذا يجب على المسؤول أن يطلع على الصغيرة والكبيرة من أحوال المومنين المنتدبين للقيام بالمهمات الضرورية، كما كان (ص) يهتم بشؤون المسلمين، ويحل مشاكلهم ليفرغهم لما كلفوا به، فإذا كان من واجب المومن الحق أن يحبس نفسه لمصلحة المسلمين، فمن واجب رئيسه أن يكفيه شؤونه الخاصة ما وسعه الجهد ليشعر بالتضامن الجماعي من جهة، وليعطي أقصى ما يقدر عليه من جهد من جهة أخرى، وهذه التفاتة تربوية في غاية الدقة لمن تأمل قول الله تعالى {فأذن لمن شئت منهم} حيث سكت الله تعالى عن المنع الذي يحتاج إلى حكمة عالية في التصرف والتقدير، حتى لا يكون سلاحا إداريا في يد من لا يحسن قيادة النفوس فينقلب الأمر إلى استبداد مغلف بالاسلام، يختزن الامتعاض والتذمر في انتظار سنوح الفرصة القابلة للانفجار.

5-           العلماء والدعاة والمربون يستحقون التقدير والاحترام أيضا :

قد تقدم تفسير قوله تعالى {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} بمعنى : النداء على الرسول(ص) باسمه مجردا عن صفتي النبوة والرسالة اللتين تحملان في طياتهما احتراما وتعظيما، فكانوا يقولون : يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك، إعظاما لنبيه وأمرهم بأن يقولوا : يا نبي الله، يا رسول الله، بل نجد أن الله تعالى نهى في سورة الحجرات عن رفع الصوت في مجلسه (ص)، وجعل رفع الصوت محبطا للأعمال، وخفضه دليلا على التقوى والإيمان {إن الذي يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم}(الحجرات)

فكما أن الذين ينوبون عن الرسول في تنفيذ الشرع، وسياسة الأمة، يستحقون الطاعة والاستجابة والاحترام، فكذلك العلماء والمربون والدعاة يستحقون أيضا الاحترام والهيبة التقدير والتعظيم، وإن كانوا هم لا ينشدونه ولا يطلبونه، ولا ينبغي لهم ابدا أن يضعوا ذلك في حسابهم، فالله تعالى قال لنبيه {واخفض جناحك لمن اتبعك من المومنين}(الشعراء). ولكن فرق بين خفض الجناح من العالم والمربي، وأن تحمل له في نفسك محبة واحتراما. فذلك شيء، وهذا شيء. فأي أدب هذا الذي يمارسه بعض شباب الدعوة في حق من سبقهم إلى ميدان الدعوة والتربية والتعليم، وكان لهم بعض الفضل عليهم قليلا أو كثيرا، فإذا بهم ينادونهم كما ينادون أقرانهم في جفاء وغلظة، بل يسمعونهم أحيانا الكثير من النقد الجارح كأنهم وجدوا متلبسين بجريمة، مع أن الأمر لا يعدو أن يكون اختلاف وجهة نظر في الفهم أو العلم أو التقدير للظروف.. ويعظم الأمر أكثر عندما ينتقل الانسان إلى الغيبة، والشعور بلذة الاستماع إلى أكل لحم أخيه في غيبته، وإطلاق الشائعات عليه حطا من قدره، وتنقيصا من آرائه ونظرياته، وتسفيها لاجتهاده، وهو يظن بذلك أنه يصحح مسار الدعوة، ويضبط خط توجهاتها، ناسيا أنه يسفح عرضها أمام الناس ويزهدهم في دعوة الله تعالى الذي يكذبه، ويتوعده بالعذاب الأليم {إن الذي يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون}(النور)

مع أنه لو اشتغل بإصلاح عيوب نفسه لأسدى لنفسه، ولمجتمعه، ولدعوة ربه خيرا كثيرا، ولكانت النتيجة إقبال الناس على النور الصادر من مشكاة الخشية من الله تعالى والصدق في جمع الناس على خير الدعوة الربانية المبرأة ومن كل الشوائب والمعايب.

ورحم الله “السري السفطي البغدادي” الذي قال : “ما رأيت شيئا أحبط للأعمال، ولا أفسد للقلوب، ولا أسرع في هلاك العبد، ولا أدوم للأحزان، ولا أقرب للمقت، ولا ألزم لمحبة الرياء والعجب والرياسة من قلة معرفة العبد لنفسه، ونظره في عيوب الناس” (العوائق : 148)

إن المربين والعلماء والدعاة يمارسون وظيفة الرسول(ص) في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، فينبغي ألا تقابل عملهم بالعقوق والجفاء وسوء الأدب فذلك خلق السفهاء الذين يستهزئون ويسخرون من الذين آمنوا ودعوا وجاهدوا.

6-           احترام سنة الرسول(ص) :

فكما يجب التأدب مع الرسول(ص) حيا، فكذلك يجب أن نتأدب مع سنته ميتا، فنعمل بها على أساس أنها تشريع محكم، ونقتدي بسيرته العملية في التربية والتوجيه والأخلاق.

7-           احترام المسؤوليات :

ينبغي أن نحترم المسؤوليات الاجتماعية، والوظيفية، والتنظيمية داخل الهيآت والنشاطات السياسية أو الاجتماعية، لأن ذلك أدعى للسير المنظم وكفالة الحقوق وتأدية الواجبات، ومن أدب الاحترام للمسؤوليات المناداة على الشخص بصفته ووظيفته أو بما يناسب من الأوصاف المشعرة بالاحترام.

8-           مخالفة الرسول تقحم في النار :

بمناسبة قوله تعالى : {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} قال ابن كثير ك(روى الامام أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله(ص) : “مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللائي يقعن في النار يقعن فيها. وجعل يحجزهن ويغلبنه، فيقتحمن فيها ـ قال ـ فذلك مثلي ومثلكم انا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني وتقتحمون فيها” (أخرجاه في الصحيحين الاساس في التفسير 7/3826

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>