مع الصادقين والصادقات : أمين الأمة : أبو عبيدة بن الجراح 2/2


8- مناقبه ومنزلته في قلب النبي والأصحاب :

عن عبد الرحمان بن عوف رضي الله تعالى عنه عن النبي(ص) قال : “أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة وطلحة في الجنة وسعيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة”(رواه الترمذي وأبو داود عن عبد الرحمان وعن سعيد بن زيد وغيرهما فمعنى هذا : أن هؤلاء مقطوع لهم بدخولها من غير سابقة عذاب، وبقية الأصحاب كذلك في الجنة لتبشير الله تعالى لهم بها في أكثر من موضع في القرآن، ولكن التنصيص على هؤلاء العشرة لمزيد فضلهم ورفيع شأنهم. انظر التاج 3/345

عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله(ص) قال : إن لكل أمة أمينا وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح” عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : قال جاء أهل نجران إلى النبي (ص) فقالوا يا رسول الله ابعث إلينا رجلا أمينا، فقال : لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين، قال : فاستشرف لها الناس فبعث أبا عبيدة ابن الجراح” وفي رواية ابعث معنا رجلا يعلمنا السنة والاسلام، قال فاخذ بيد ابي عبيدة، فقال هذا أمين هذه الأمة” رواهما الشيخان والترمذي  انظر التاج الجامع للأصول 3/344

والذين طلبوا من النبي (ص) أن يبعث معهم من يعلمهم الإسلا، هم أشراف اليمن وسادة نجران، وهم العاقب والسيد وجماعة وفدوا على النبي في السنة التاسعة.

وفي بعض الرويات أن عمر رضي الله تعالى عنه قال : “ما أحببت الإمارة قط، حبي إياها يومئذ، رجاء ان أكون صاحبها ـ أي شهادة الرسول بالأمانة ـ فرحت إلى الظهر مهجرا، فلما صلى بنا رسول الله(ص) الظهر سلم ثم نظر عن يمينه وعن يساره فجعلت أتطاول له، ليراني.. فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة فدعاه فقال : اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه.. فذهب بها أبو عبيدة”ـ انظر رجال حول الرسول لخالد محمد خالد 241

وليس معنى هذا أن الصحابة لم تكن فيهم الأمانة، لا، فكلهم أمناء، ولكن كل صحابي تغلب عليه بعض الصفات أكثر فأكثر حتى تصير علما عليه، كالرأفة بالنسبة لأبي بكر، وشدة عمر في الحق، وحياء عثمان، وعلم علي.. وهلم جرا.. وعلى هذا النحو غلبت صفة الأمانة على أبي عبيدة.

شهادة الأصحاب له :

أـ أبو بكر : كان إذا قدم عليه أمداد المسلمين أمر عليهم رجلا، وأمرهم أن يلحقوا بأمرائه، فإذا قالوا : اختر لنا أيهم، قال : “عليكم بالهين اللين، الذي إذا ظلم لم يظلم، وإذا اسيئ إليه غفر، وإذا قطع وصل، رحيم بالمومنين، شديد على الكافرين، أبو عبيدة”

وسبق أن عرفنا أن أبا بكر رشحه للخلافة، منذ انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى، وأعاد على المسلمين نفس الترشيح في مرضه الذي مات منه، حيث قال : قد رضيت لكم أحد رجلين : عمر بن الخطاب، وأبا عبيدة. موسوعة عظماء حول الرسول 1/381.

ب ـ عمر: لما وصل عمر بن الخطاب في رحلته الشامية، متفقدا أحوال الرعية، إلى سرغ ـ قرية بوادي تبوك ـ حدث أن بالشام وباء شديدا، فقال : إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي استخلفته، فإن سألني الله عز وجل لم استخلفته على أمة محمد؟ قلت : إني سمعت رسول الله(ص) يقول : “إن لكل أمة أمينا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح” فأنكر القوم ذلك، وقالوا: ما بال علياء قريش؟ يعنون بني فهر. ثم قال : وإن أدركني أجلي، وقد توفي أبو عبيدة، أستخلف معاذ بن جبل، فإن سألني ربي، قلت : إني سمعت نبيك يقول : “إنه يحشر يوم القيامة بين يدي العلماء برتوة ـ رمية سهم، أو مد البصرـ” أخرجه الإمام أحمد، وابن سعد، والحاكم سير أعلام النبلاء 1/10 وصفة الصفوة 1/367

وعن عمر بن الخطاب أنه قال لأصحابه : تمنوا. فقال رجل : أتمنى أن لي هذه الدار مملوءة ذهبا، أنفقه في سبيل الله عز وجل، ثم قال : تمنوا، فقال الرجل : اتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤا وزبرجدا أو جوهرا أنفقه في سبيل الله عز وجل، وأتصدق به. ثم قال : تمنوا، فقالوا : ما ندري يا أمير المؤمنين. فقال عمر : أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة برجال مثل أبي عبيدة بن الجراح ـ  انظر صفة الصفوة 1/368

وفي” الزهد”  لابن المبارك: أن عمر لما قدم الشام، تلقاه الأمراء والعظماء، فقال : أين أخي أبو عبيدة؟ قالوا : يأتيك الآن قال الراوي : فجاء على ناقة مخطومة بحبل، فسلم عليه، وفي رواية، ـ فلما أتاه نزل فاعتنقه ـ  ثم قال للناس انصرفوا عنا، فسار معه حتى أتى منزله، فنزل عليه… انظر سير أعلام النبلاء 1/616 وصفة الصفوة 1/368

ج- معاذ بن جبل : روى ابن ابي فديك : عن هشام بن سعد، عن زيد، عن أبيه، قال : بلغني أن معاذا سمع رجلا يقول : لو كان خالد بن الوليد ما كان بالناس دوك ـ اختلاط واضطرب وتخاصم وشر ـ وذلك في حصر أبي عبيدة ـ أي للشام أو بعض بلدانها على إثر عزل خالد ـ فقال معاذ : “فإلى أبي عبيدة تضطر المعجزة لا أبالك : والله إنه لخير من بقي على  الأرض. والذي قال هذا القول كان من المفتونين بخالد رضي الله عنه، وهذا أحد أسباب عزل عمر له في بعض الأقوال سير أعلام النبلاء 1/16

دـ عبد الله  بن عمر : أخرج الطبراني في الكبير عن ابن عمر قال : ثلاثة من قريش، أصبح قريش وجوها، وأحسنها أخلاقا، وأثبتها جنانا، إن حدثوك لم يكذبوك، وإن حدثتهم لم يكذبوك : أبو بكر الصديق، وأبو عبيدة بن الجراح، وعثمان بن عفان. تاريخ الخلفاء للسيوطي 55.

هـ ـ عائشة رضي الله عنها : أخرج الترمذي والنسائي، والحاكم، عن عبد الله بن شفيق قال : قلت لعائشة : أي أصحاب النبي ان أحب إلى رسول الله (ص) ؟ قالت : أبو بكر، قلت : ثم من؟ قالت : ثم عمر، قلت ثمن من؟ قالت : أبو عبيدة ـ تاريخ الخلفاء 43 وموسوعة عظماء حول الرسول 1/381.

9- تواضعه :

أـ روى أبو الحسن عمران بن نمران : أن أبا عبيدة كان يسير في الجيش فيقول : “ألا رب مبيض لثيابه، مدنس لدينه!!! الا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين!!! بادروا السيئات القديمات، بالحسنات الحديثات، فلو أن أحدكم عمل من السيئات ما بينه وبين السماء، ثم عمل حسنة لعلت فو ق ذلك كله” يعني الجهاد. انظر موسوعة عظماء حول الرسول 1/386. قال هذا وهو أمير الأمراء بالشام، الكل تحت إشارته.

10ـ جده وصلابته في الجهاد :

قال ابن المبارك في “الجهاد” له بسنده : بلغ عمر أن أبا عبيدة حصر بالشام، ونال منه العدو، فكتب إليه عمر : أما بعد، فإنه ما نزل بعبد مومن شدة إلا جعل الله بعدها فرجا، وإنه لا يغلب عسر يسرين : {يا أيها الذين آمنوا اصبروا  وصابروا ورابطوا}(آل عمران : 200). فكتب إليه أبو عبيدة : أما بعد، فإن الله يقول : “إنما الحياة الدنيا لعب ولهو” إلى “متاع الغرور” (الحديد : 20).

فخرج عمر بكتابه فقرأه على المنبر، فقال يا أهل المدينة: إنما يعرض بكم أبو عبيدة، أو بي، ارغبوا في الجهاد” سير أعلام النبلاء 1/15

11ـ وفاته وآخر كلامه :

روى ابن عساكر عن سعيد أبي سعيد المقبري، أنه قال : لما طعن ـ أصيب بالطاعون المعروف بطاعون عمواس ـ أبو عبيدة بالأردن، دعا من حضره من المسلمين، فقال : إني موصيكم بوصية، إن قبلتموها لن تزالوا بخير: أقيموا الصلاة، واتوا الزكاة، وصوموا شهر رمضان، وتصدقوا، وحجوا، واعتمروا، وتواصوا، وانصحوا لأمرائكم، ولاتغشوهم، ولا تلهكم الدنيا، فإن أمرءا لو عمر ألف حول ما كان له بد من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي ترون، إن الله كتب الموت على بني آدم فهم ميتون، وأكيسهم أطوعهم لربه، وأعملهم ليوم معاده. والسلام عليكم وحمة الله. يا معاذ بن جبل صل بالناس، ومات رضي الله عنه وكان عمره ثمانا وخمسون سنة. موسوعة عظماء حول الرسول 1/300 وكان رضي الله عنه في ستة وثلاثين ألفا من الجند، فلم يبق إلا ستة آلاف رجل، والآخرون ماتوا.

“ومات أمين الأمة فوق الأرض التي طهرها من وثنية الفرس، واضطهاد الرومان، وهناك اليوم تحت ثرى الأردن، يثوي رفات نبيل، كان مستقرا لروح نبيل، ونفس مطمئنة” ـ رجال حول الرسول 244 فرحمك الله تعالى يا أمين الأمة، ورضي عنك. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

12 ـ مروياته :

ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء، أنه روى أحاديث معدودة، فله في صحيح مسلم حديث واحد، وله في “جامع أبي عيسى” حديث، وفي “مسند بقي” له خمسة عشر حديثا، و\كر المحقق في الهامش أن أحاديثه في مسند الإمام أ حمد قد بلغت اثني عشر حديثا.

أما الذين حدثوا عنه فهم : العرباض بن سارية، وجابر بن عبد الله، وأبو أمامة الباهلي، وسمرة بن جندب، وأسلم مولى عمر، وعبد الرحمان بن غنم. وآخرون 1/6

13ـ أبو عبيدة في نظر المؤرخين من الإفرنج :

ذكر صاحب التراتيب الإدارية أبا عبيدة ومفخرته المتجسمة في إجرازه على لقب “أمين الأمة” وفي تمني عمر أن يكون البيت مملوءا بأمثاله.. ثم قال : وقال بعض من كتب في ترجمة أبي عبيدة من المصريين : اشتهر عند الروم بحلو الشمائل، وصدق المقال، وفي فتوح دمشق أمن أهلها على نفوسهم، ورخص لمن لم يسلم إذا أراد الخروج أن يخرج بجانب من أمواله، وأعطاهم فرصة الأمان ثلاثة أيام من حين خروج من يريد الخروج، لا تلحقهم فيها جيوش الإسلام.

وقال بعض من كتب هذه الواقعة، فتح دمشق ومعاملة أهلها ـ من مؤرخي الإفرنج : لو كانت أوصاف هذا الصحابي الجليل، الذي كان أمير الجيش الاسلامي في ذلك العصر، مجتمعة في أمراء جيوش الأعصر الجديدة المشهورة بالتمدن والتقدم، لأفادتهم غاية المجد والشرف، كفت عنهم مثالب الجور، فجل أمراء جيوش الدول العظيمة المتمدنة في عصرنا لم تبلغ درجة ذل الأمير الخطير، الذي هو بين الفاتحين عديم النظير، فكل منقبة من مناقب عدله وحلمه وفائه، تخجل أكابر رؤساء كل جيش م جيوش الدول المعاصرة وتزري بأمرائه. 2/381.

14- المستفادات :

إن حياة هذا الصحابي الجليل مليئة بالعبر والدروس، نأخذ البعض منها فيما يلي :

1-           إن رابطة العقيدة أقوى من كل الروابط الأخرى عند التعارض، ولقد طبق أبو عبيدة هذا عمليا عندما اعترضه أبوه في غزوة بدر يريد قتله دفاعا عن الباطل، فما كان من أبي عبيدة إلا أن تصدى لأبيه وقتله دفاعا عن الحق.

2-           إن محبة الله والرسول كانت لديه فوق كل محبة لشيء آخر غيرهما، يظهر ذلك في الدفاع عن الرسول(ص) بأحد وحمايته من المشركين الذين وضعوا اغتياله نصب أعينهم في هذه الغزوة

3-           زهده رضي الله عنه في الإمارة والرئاسة والامامة، ويظهر ذلك عند منازعة عمرو بن العاص له أثناء غزوة ذات السلاسل، وعند ترشيح أبي بكر وعمر له لكي يبايعه المسلمون خليفة لهم.

أما زهده في المال وما يتبع ذلك من متع الدنيا وشهواتها فأمر لا يحتاج إلى دليل، لأن همته كانت متعلقة بالاخرة، وتلك الهمة الأخروية هي التي رشحته لكي يتمنى عمر بيتا مملوءا برجال أبرار مثله.

4-           حسن القيادة، وحسن التدبير الاقتصادي يظهر ذلك في جمع ازواد الجيش أثناء سرية الخبط ليقسمه بينهم بالتساوي مع مراعاة ظروف أيام العسر والشدة، ولعل حسن الإشراف على الاقتصاد هو الذي أهله ليجعله أبو بكر على رأس ميزانية الدولة لأمانته وحسن تصرفه.

5-           عد المجاملة في الحق، يظهر ذلك في مماكسة أبي بكر ومشاحنته، عندما طلب زيادة رأس الشاة وبطنها، لأن نصف الشاة لا يكفيه لرزق أهله وعياله، فكان أبوعبيدة نعم الحريص الذي لا يريد التفريط في اقتصادها، وإعطاء الأجور للموظفين فوق الحاجة ولو كان المأجور خليفة للمسلمين، إذ لا فرق في هذا المجال بين أعلى موظف وأدناه، فالكل أمام الحق سواء.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>