لباس السنة كيف؟ 4/4
لباس الأعاجم : لعل هذه النقطة هي أصعب نقاط هذا البحث، فإن كثيرا من المتحدثين يربطون إصرارهم على اللباس العربي بمخالفة زي الأعاجم. وقد بذلت جهدي في إيضاح هذه القضية وتجليتها. فعكفت على مراجعة كتاب >اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم< لأبي العباس أحمد ابن تيمية -رحمه الله- لأنه حسب ما أعرف أوسع كتاب في موضوع مشابهة الأعاجم وقد أورد من الأدلة القرآنية والحديثية والآثار عن الصحابة في مخالفة الكفار الشيء الكثير وأغلب تلك الأدلة تنهى عن المشابهة في ميدان العقيدة والأخلاق والعبادات من مثل الحسد وكتمان العلم والتحريف والغلو في الدين والاختلاف فيه وما إلى ذلك. ولنذكر بعض هذه النصوص -الأحاديث خاصة- ثم بعد ذلك نذكر أقوال الأئمة في هذا الأمر.أخرج أبو داوود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : >من تشبه بقوم فهو منهم< وقال الشيخ أحمد شاكر صحيح الاسناد- والحديث عام فيحمل على التشبه في الأخلاق والعادات الفاسدة مثل الاحتفال بأعياد الكفار وبدعهم.قلت : والحديث يقتضي منع التشبه بهم فيما لا يقره ديننا مثل أعيادهم وبدعهم وما له علاقة بدينهم، قال أبو العباس أحمد ابن تيمية : >أما من فعل شيئا ثم وجد أن الغير فعله -أيضا- ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه ففي كون هذا تشبها نظر، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : رأى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبين معصفرين فقال إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها< وقد سبق القول في معنى هذا الحديث وأن جمهور الفقهاء على إباحة المعصفر إلا إذا كان حريرا محضا فيكون حراما وهو من لباس الكفار. راجع النووي على مسلم ج -14-ص-53. وروى مسلم عن أبي عثمان النهدي قال : جاءنا كتاب عمر بن الخطاب ونحن بأذريبدجان مع عتبة بن فرقد، إنه ليس من كدك ولا كد أبيك ولا أمك فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك وإياكم والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير… الحديث. قال الإمام النووي ومقصود عمر -رضي الله عنه- حثهم على خشونة العيش وصلابتهم في ذلك. ومحافظتهم على طريقة العرب في ذلك. قال: وقد جاء في هذا الحديث زيادة في مسند أبي عوانة الأسفرايني وغيره باسناد صحيح قال : أما بعد فاتزروا وارتدوا والقوا الخفاف والسراويلات. وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل وإياكم والتنعم وزي الأعاجم، وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب، وتمعددوا واخشوشنوا واقطعوا الركب وابرزوا وارموا الأغراض والله أعلم< انتهى كلام النووي. وهذا الحديث درة من الدرر العالية فإنه يصور كيف كان اعتناء الحكام في صدر الإسلام برعيتهم وأنه لا يجوز أن يشبع الأمير قبل أن تشبع الرعية وفيه إماء إلى اختصاص الجند بلباس خاص يميزهم عن عامة الناس، كما فيه إماء -أيضا- إلى الصلابة في النظام العسكري وهو ما تسير عليه الدول الآن. قال ابن قيم الجوزية في زاد المعاد : >وربما لبسوا ما يجلب من الشام ومصر كالقباطي المنسوجة من الكتان التي كانت تنسجها القبط< قلت : والشام ومصر آنذاك كانت تحت حكم الروم ففي هذا دلالة على سعة الأمر في اللباس، ولذلك قال ابن تيمية ما معناه : >النهي عن التشبه بالعجم إنما يكون فيما هم عليه مما يخالف الإسلام -ولو كانوا مسلمين- كما أن النهي عن اتباع أمر الجاهلية العربية هو فيما لم يقره الإسلام، ولورجع إليه كثير من العرب المسلمين اقتضاء الصراط المستقيم ص162 وقال في ص 176 : لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب -كما هو واقعنا نحن في بلاد الغرب- لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في الهدي الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية، ثم قال في ص 177، والكلام هو أنا منهيون عن التشبه بهم فيما لم يكن سلف الأمة عليه، أما ما كان سلف الأمة عليه فلا ريب فيه سواء فعلوه أو تركوه، قلت : وسلف الأمة قال: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان : إسراف ومخيلة< الحديث سبق.
لقد آثرت أن أنقل نصوصا من كتاب >اقتضاء الصراط المستقيم< لأن كثيرا من إخواننا يحتجون بما فيه على أنه لا بد من مخالفة الأعاجم في الزي، وإلا فقد كفانا هذه المؤونة الفقهاء الأجلاء والأئمة العلماء قال أبو العباس أحمد بن يحيى الونشريفي يسمى في المعيار ما نصه : >سئل الفقيه أبو عبد الله المواق عن >الدرندين< هل يجوز لبَاسُهُ؟ وهو ثوب رومي يضمحل التشبه به في جنب منفعته إذ هو ثوب مقتصد ينتفع به ويقي البرد، فأجاب >ليس كل ما فعلته الجاهلية منهيا عن ملابسته. إلا ما نهت الشريعة عنه، ودلت القواعد على تركه، والمراد بالأعاجم الذين نهينا عن التشبه بهم الأكاسرة في ذلك الزمان في ترفهم ونحوه -وفي كل زمان ما داموا على تلك الحال- ويختص النهي بما يفعلونه على خلاف مقتضى شرعنا وأما فعله على وجه الندب أو الإيجاب أو الإباحة في شرعنا فلا نترك ذلك لأجل تعاطيهم إياه، وقد جعل -عليه السلام- الخندق -سبقت الاشارة إلى ذلك- وقد صح -أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- أنه لبس جبة رومية ضيقة الكمّين -سبقت الاشارة إلى ذلك أيضا- راجع المعيار المجلد 11-ص27.
قال بعضهم : ألا ترى إلى أمره -عليه السلام- بالخضاب مخالفة لبني يهود؟ وذلك يدل على حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم -على تميز المسلم عن غيره لا في المضمون فقط، ولكن حتى في الظاهر- قلت : بلى وهذا القدر لا خلاف فيه، ولكن الخلاف في أن نعمد إلى عادات وتقاليد ونجعلها دينا ثم نامر الناس باتباعها ونلزمهم بها باعتبار أنها تميز المسلمين عن غيرهم، ونحجر واسعا ما حجره الله ولا رسوله عليه السلام. وإليك ما قاله الحافظ ابن حجر العسقلاني في أمر الخضاب : وقد اختلف في الخضاب وتركه. فخضب أبو بكر وعمر وغيرهما وترك الخضاب علي وأبي بن كعب وسلمة ابن الأكوع وأنس وجماعة ثم قال- بعد كلام- : لكن الخضاب مطلقا أولى لأن فيه امتثال الأمر في المخالفة وفيه صيانة الشعر ، إلا إن كان عادة أهل البلد ترك الصبغ، وإن الذي يتفرد بذلك يصير في مقام الشهرة فالترك في حقه أولى -ج 10-ص 355. ونقول لإخواننا الذين يتشددون في هذا الأمر : صفوا لنا لباس الاسلام، وميزوه عن لباس الأعاجم وأقيموا الأدلة على ذلك وعندئذ، ناخذ بلباس الاسلام ونترك لباس الأعاجم. والله ولي التوفيق.
خاتمة : في أثناء عكوفي على هذا البحث وقع في يدي كتابان لعالمين من علماء العصر المشهورين تحدثا عن الموضوع نفسه أحدهما للشيخ محمد الغزالي واسمه >السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث< والآخر لفضيلة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي واسمه >السلفية مرحلة مباركة لا مذهب إسلامي< وإتماما للفائدة أنقل منها ما يتعلق بهذا الأمر لتتضح الرؤية أكثر، قال الشيخ الغزالي في كتابه المذكور ص 85 -والعمائم لباس عربي وليس شارة إسلامية وكذلك العقال. والواقع أن البيئة الحارة تفرض تغطية الرأس والقفا ويستحب فيها البياض والسعة. أما البيئات الباردة فطلب الدفء يدفع إلى تطبيق الملابس واختيار الألوان الداكنة، وقد جاء في الحديث >كل ما شئت…< وقال في ص-86- : >هل للاسلام زي معين؟< كلا. وقد توهم بعض الشباب أن الجلباب هو زي الاسلام وأن البدلة زي الكفار!ِ وهذا خطأ! انتهى منه بلفظه، ثم قال في الصفحة نفسها وإذا أردنا الحفاظ على شخصيتنا فإن ذلك يتم بصدق اليقين وشرف السيرة وسعة المعرفة ودماثة الأخلاق، وقال الدكتور البوطي في كتابه المذكور ص-15- لقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة أعرافهم وعاداتهم التي نشؤوا عليها وتعاملوا بها فلما هاجروا إلى المدينة المنورة استقبلتهم بعادات غير التي مارسوها وأحوال غير التي عرفوها سواء ما يتعلق من ذلك باللباس والمسكن والظروف الناتجة عن الإحتكاك بالآخرين.. فأقبلوا إلى ذلك كله متعرفين ومتبصرين ثم ركنوا إليه راضين متفاعلين. كانوا في مكة لا يعرف جلهم المخيط من الثياب، فلما استقروا في المدينة وتسامع بهم أهل المدن الأخرى واحتكوا بهم لبسوا الثياب المخيطة والحلل اليمانية والأعجمية الفاخرة..الخ.
وأخيرا فإن الشريعة الاسلامية بقدر ما تكره للمسلمين اتباع غيرهم وتقليدهم على غير بصيرة تحب لهم أن يجمعوا أطراف الخير كله والمبادئ المفيدة جميعها، أينما لاح لهم ذلك وحيثما وجد >فالحكمة ضالة المومن أنى وجدها فهو أحق الناس بها<.