قراءة في أزمة الحرية السياسية في الوطن العربي


القسم الثاني : أزمة الحرية السياسية في الوطن العربي، واستهل المؤلف هذا القسم بتمهيد قيم فيه بعض النظم السياسية العربية وفق معايير شرعية، مبديا رأيه في التعددية الحزبية في بعض الدساتير العربية (مصر، المغرب، السودان، العراق، الأردن). وتوزع الحديث بعد هذا التمهيد على بابين :

الأول : حاول فيه الكاتب رصد مظاهر أزمة الحرية السياسية وأسبابها، فمن حيث مظاهرها حصرها في هيمنة نظامين من الحكم : الأول منهما نظام الديموقراطية المقيدة (حالة مصر) وسبب وصفها بالمقيدة راجع إلى فرضها مجموعة من القيود الصارمة سواء على مستوى تكوين الأحزاب السياسية أو على مستوى التصريح بقيام الأحزاب واستمرارها، أو على مستوى القيود الواردة في النظام الانتخابي.

وثاني النظامية هو نظام الواحدية الحزبية : وميز فيه المؤلف بين :

1-           الصيغ السياسية الدستورية المناهضة لفكرية الحزبية من أ ساسها وهي الصيغ السائدة في الأنظمة ذات المنحى الوارثي للسلطة (دول الخليج) أو في أنظمة المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية (ليبيا) أو في نظام المؤتمر الشعبي العام في الجمهورية اليمنية (طبعا قبل الوحدة).

2-           الصيغ السياسية الدستورية القائمة على الواحدية الحزبية مثل النوع الملكي (المغرب والأردن) والنوع الجمهوري (الجزائر على عهد حكم جبهة التحرير، وسوريا، والعراق، جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية، قبل الوحدة أيضا، وموريتانيا).

أما عن الآثار السلبية لهذه الأزمة فرصدها المؤلف على صعيدين :

أ ـ الصعيد الفكري السياسي وتجلت في ظهور الاختلالات في شرائح المجتمع السياسي وشيوع المشاركة الشكية والموسمية في الحياة السياسية، إضافة إلى التعبئة السياسية والبعد عن المشاركة الحقيقية والاخلال بمبدأ تكافؤ الفرص في تولي الوظائف العامة بسبب احتكارها من قبل النظام وأعوانه وخدمته، هذا إ\ا أضفت التباعد بين النصوص الدستورية والواقع والخلط بين مفهوم الدولة وشخص الحاكم وهي مظاهر عامة في الوطن العربي ونتيجة حتمية ولازمة لواقع أزمة الحرية السياسية.

ب ـ على صعيد حقوق وحريات المواطن العربي : وفي هذا المجال فإن الآثار السلبية المباشر لغياب الممارسة الحقيقية والسليمة للحرية السياسية تكمن في استفحال ظاهرة انتهاك حقوق الانسان وكرامته، في أبشع صور الانتهاك، من تعريف للتعذيب بالسياط والصدمات الكهربائية إلى الترهيب النفسي والتشويه الجسدي (حرق بالسجائر في المناطق الحساسة من الجسم، والتعليق و…و..) وقد اعتمد المؤلف في رصد هذه الخروقات على تقارير منظمات حقوق الانسان عن بلدان الوطن العربي، وقدم نماذج عن هذه الخروقات في هذه الأوطان.

وهذا وإذا كان الفصل الأول رصد المظاهر اللازمة وانعكاساتها السلبية على كرامة الانسان العربي فإنه في الفصل الثاني حاول البحث عن أسباب هذه الأزمة فما هي تلك الأسباب في نظر الكاتب؟

الفصل الثاني : أسباب الأزمة، ويغوص الكاتب في الحفريات التاريخية باحثا عن جذور الأزمة فيرجعها إلى الافرازات السياسية السلبية للنزاعات الشعوبية القومية بما في ذلك التيار العلماني الشعوبي، والتيار القومي العلماني أما السبب الثاني فيكمن وراء معضلة التخلف والتبعية وأثرهما في تكريس أزمة الوعي بحقوق الأفراد والجماعات ومسؤولياتهم على صعيد الحرية السياسية، إضافة إلى ضعف الوعي السياسي وكذا الانفصام النكد في مفهوم الشرعية بين الحاكم والمحكوم، وهي أسباب عملت بالتدريج على  تعميق هذه الأزمة.

الباب الثاني، ويقترح فيه الكاتب بعض ضمانات نجاح الحرية السياسية فحصرها في نوعين :

ـ الضمانات القانونية، وتتجلى في تحديد علاقة الحاكم بالمحكوم وفصل السلطات ورقابة المشروعية التي تعني لديه تأسيس جهاز رقابة دستوري للسلطات الثلاث.

ـ الضمانات الواقعية وتتمثل لدى الكاتب في إقامة العدل الاجتماعي، وتكوين رأي عام ذا وعي ثقافي وحضاري بالحرية السياسية وكذا في إثبات حق الأفراد في مقاومة الظلم الواقع من السلطة وشرعية الخروج عليها وهنا يناقش الكاتب بجرأة عالية مسألة الخروج عن الحكام أو ما يسمى بالثورة لدى المذهبيتين الوضعية والاسلامية بل يذهب إلى مستوى طرح مدى إمكانية النص على المقاومة والخروج عن الوثيقة الدستورية فيعرض اتجاهين : اتجاه يقول بعدم إمكانية النص على ذلك وآخر يقول بجواز ذلك.

وهكذا ينتهي الكاتب إلى اعتبار الحرية السياسية في الوطن العربي هي “الضمان الجوهري للخروج من محنتي التخلف والتبعية” بل “إنها أساس العودة  إلى الذات، “وإلا فإنه” إذا لم تبين الحرية السياسية على تلك الأسس القائمة فليس هناك من حل آخر سوى اضطلاع المؤسسات التربوية والتعليمية وقادة الفكر والرأي بمهمة تربية الأمة على الشورى لأن الله رهن تغير الأوضاع بتغير الأنفس، كما أن صلاح المحكومين أو فسادهم يفضي إلى صلاح الحاكمين أو فسادهم، والأمم الحية لا تفرزإلا نظاما صالحا، أما الأمم التي تذهب ريحها فتكون مرتعا خصبا لفرز المستبدين” (ص : 671)

3-           ملاحظات

أـ على مستوى المضمون :

ـ يلاحظ أن الكاتب قد ضمن دراسته هذه مجموعة من الأفكار تتعلق بالتنظير لمسألة الحرية السياسية في الفلسفات الوضعية الليبرالية والماركسية وفي المذهبية الاسلامية، مبرزا خصوصيات كل تصور ومبرراته الموضوعية والتاريخية والذاتية، والمبادئ التصورية التي تحكمه هذا مع تحديد المفاهيم وإبراز فضاءاتها الدلالية وخصوصياتها الفلسفية والايديولوجية والتاريخية وتداخلاتها مع مفاهيم أخرى قربا أو بعدا، مع عرضها على المعيار الشرعي الاسلامي.

ـ يلاحظ أن دراسة الكاتب لأزمة الحرية السياسية في الوطن العربيي جاءت رصدا لمختلف مظاهر الاختلالات السلبية وجذورها التاريخية والانسانية والسياسية، واقترح في هذا السياق الضمانات القانونية الواقعية لتجاوز واقع الأزمة. وهو في كل هذا يعتمد على التجارب السياسية التاريخية والحاضرة ليبلور بذلك منظورا حضاريا جديدا يتلاءم وتطلعات الانسان العربي المعاصر.

ـ بعض الأفكار الواردة في الكتاب كانت قبل سنة 1986، وهو تاريخ إنجاز الدراسة، لذلك جاءت معلوماته عن الاتحاد السوفياتي ناقصة لم تصل إلى مرحلة البيروسترويكا وسقوط الأنظمة الشيوعية، وبالنسبة للجزائر قبل التطورات الجديدة، واليمن قبل الوحدة، إلا أن هذا النقص لا يقلل من أهمية الدراسة التي انصبت على تحليل واقع الأزمة الحرية السياسية، المترهل بالخروقات والانتهاكات والتشوهات الايديولوجية والانتقائية المذهبية اوالتلفيقية فضلا عن الاستيلاب الفكري والمذهبي والأخلاقي والبراغماتية.

ب ـ على مستوى المنهج :

ـ دقة  التبويب : فقد جاء الكتاب غاية في التبويب والتفصيل والتفريع حيث قسم الكاتب موضوعه إلى قسمين كل قسم إلى بابين وكل باب إلى فصلين وكل فصل إلى مباحث والمبحث إلى مطالب هذا مع التمهيد لكل نقطة وإنهائها بخاتمة تجمع عناصرها جمعا مركزا.

ـ التحديد : حاول الكاتب خلال أبواب وفقرات الكتاب أن يكون أكثر وضوحا وتحديدا وهو بصدد تناول المفاهيم والمصطلحات وإبراز فضاءاتها الدلالية الفلسفية أو الإيديولوجية وظلالها الواقعية، (مفهوم الحرية، الديموقراطية، الشرعية، المشروعية…)

ـ التوثيق : وإن كان الكاتب لا يكثر من الحالات أو لا يحيل على كثير من النصوص في موضعها المحددة ويحيل فقط على مضمونها فإن حجم المصادر والمراجع والوثائق المعتمدة في الدراسة والتي راوحت 287 مرجعا بين كتاب ومجلة ووثيقة بالعربية والانجليزية، يبين قيمة الكتاب وعلميته وبالتالي يصدق عليه العنوان الفرعي الذي أضافه المؤلف إلى العنوان الأصلي للكتاب : وسماه “دراسة علمية موثقة”. هذا إذا أضفنا إلى كل هذا أسلوب الكاتب في العرض والذي تميز بالجاذبية والتشويق حتى أنه يأخذ بتلابيبك طوال فقراته مع حسن الربط والانتقال.

وفي التعبير الأخير لا أملك إلا أن أقول بحق إنها دراسة نوعية لا تستطيع هذه المقالة الإلمام بعناصره ودقائقها، والتي اقتحم بها صاحبها أدغال الصمت الرهيب كشف بها النقاب عن كثير من القضايا المطموسة في واقعنا المترهل بشتى صور الضياع والاستلاب، عارضا كل :أفكاره عل المعايير الشرعية القائمة على العد والإنصاف، كيف لا وموضع الرسالة هو أزمة الحرية والعدل السياسيتين هي رسالة تنبئ بالفعل عن صحوة حضارية آتية لا ريب.

أزمة الحرية السياسية في الوطن العربي الدكتور صالح حسن سميع ط 1   1409-1989 دار الزهراء للاعلام العربي، القاهرة

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>