الاسلام دين الوحدة في العقيدة. قال الله تعالى : {وإلهكم إله واحد. لا إله إلا هو الرحمن الرحيم}(البقرة : 162). والمسلمون جميعا يرددون كلمة : لا إله إلا الله محمد رسول الله، وإنها لكلمة لها ميزانها عند الله، فما أن تنطق بها ألسنتنا أو تسمعها آذاننا حتى تهتز لها أوتار قلوبنا، وتفعل فعلها في نفوسنا، وتدفعنا دفعا إلى مواطن العزة والكرامة والقوة في حياتنا، تجمعنا نحن المسلمين على شعور واحد، وعلى أهداف واحدة، تتحد في آمالها وآلامها، وتجعل من جميع المسلمين في شتى أنحاء العالم أمة واحدة مهما تباعدت الأمصار والأوطان، ومهما اختلفت اللغات والألوان أمة قوية متعارفة متماسكة متعاونة. قال تعالى : {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}(الأنبياء : 91).
إن قوة هذه الوحدة مصدرها شعور كل مسلم ومسلمة بانتسابه إلى دين الاسلام الذي رضيه ربنا سبحانه دينا. قال تعالى : {ورضيت لكم الاسلام دينا}(المائدة : 4) وقال تعالى : {إن الدين عند الله الاسلام}(آل عمران 19) وهذا الانتساب دونه كل انتساب، دونه صلة الأخوة النسبية والعلاقة الزوجية، والافتخار بالأبناء والآباء، قال تعالى مبينا أثر الإيمان الصادق في نفوس المؤمنين الصادقين : {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره}(التوبة : 24).
والاسلام دين الرسالة العامة لجميع البشر، ولم تسبقه رسالة شملت دعوتها الناس جميعا، ولم يسبق رسول الله محمد(ص) رسول عمت دعوته البشرية جمعاء. قال تعالى : {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جيعا}(الأعراف : 158) ويعتبر الاسلام الأمة الاسلامية كلها كالجسد الواحد، وكل فرد منها بمنزلة العضو من هذا الجسد، يتأثر به الجسم قوة وضعفا وصحة واعتلالا، قال (ص) مبينا هذا المعنى مؤكدا أثره في إيجاد الترابط والتعاطف والتواد بين جميع المسلمين : |”مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”(متفق عليه)
وقال(ص) “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا”(متفق عليه). هذا المعنى يجب أن يسود الشعور به جميع أفراد المسلمين وأن يعيشوا في ظلاله، وبه تتحقق لهم القوة والعزة والغلبة على أعداء الاسلام، كما يتوافر لهم به اليسر والرخاء والأمن والاطمئنان، وما أصاب المسلمين من الضعف والهوان في كل مكان من العالم ـ اليوم ـ إلا يوم أن تخلو عن هذا التوجيه الالهي والهدي النبوي، ومن أجل هذا ينبغي أن ينتبه المسلمون إلى ما لهذه الوحدة من أثر كبير في صلاح حالهم ونهوضهم فيعملوا لها. لقد حرص الاسلام أشد الحرص عىل الحفاظ على وحدة المسلمين، فأقام هذه الوحدة على أسس أهمها :
1- العقيدة الصحيحة التي تجمع المسلمين تحت لوائها، وتعمر قلوبهم بالايمان الصادق بما شرعه من مثل صلاة الجماعة والجمعة، وما فرضه من أداء الأغنياء زكاة أموالهم لمستحقيها الحقيقيين ليتحقق التعاطف، ويتجلى معنى الوحدة أقوى ما يكون في أداء فريضة الحج حيث يلتقي المسلمون في مكان واحد طاهر مبارك وهو مكة المكرمة، والمدينة المنورة، من جميع أنحاء العالم، على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وألوانهم، وتباعد ديارهم وأوطانهم، فيكونون عنوان الوحدة الشاملة، ترتفع أصواتهم وقد أخلصوا لله وجوههم بالتلبية والدعاء، وتتجه قلوبهم إلى الله الكريم، يسألونه من فضله، ويتلمسون طريق الهداية بنوره، فالمشاعر واحدة والأهداف واحدة، وحب الخير للامة الإسلامية يشغل قلوب الجميع، ويستولي على خوطر الجميع
2- الأخوة الاسلامية : وإنها لنعمة من نعم الله تعالى الكبرى التي نسبها الله تعالى إلى نفسه، وجعلها من صنعه، قال تعالى مخاطبا نبيه محمد(ص){هو الذي أيدك بنصره وبالمومنين. وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم}(الأنفال 63 64).
وقد امتنن الله تعالى بنعمة الأخوة على عباده المومنين بعد أن أمرهم بالاعتصام بحبله المتين، ونبذ الفرقة والخلاف فقال : {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}(آل عمران 103).
فالأخوة شعار المومنين قال تعالى : {إنما المومنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم}(الحجرات : 10). ومما يترتب على هذه الأخوة أن يكون الحب والتعاون والتكافل والوحدة هي الأصل في الجماعة المسلمة، وأن يكون التباغض والخلاف هو الاستثناء الذي يجب أن يرد إلى الأصل فور وقوعه، هذا الشعور الصادق بالأخوة جعل المسلم يؤثر أخاه على نفسه ويخصه بأجود ما عنده من متاع الدنيا. ومن أجل هذا كان أول عمل قام به النبي(ص) بعد هجرته من مكة إلى المدينة أن عقد أواصر الأخوة بين المهاجرين والأنصار ورسخ سلوك التآخي بينهم، وآخى رسول الله (ص) بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال لهم : “تآخوا في الله أخوين أخوين” ابن هشام ج 2/124.
قال ابن خلدون في المقدمة : “جمع القلوب وتأليفها، إنما يكون بمعونة الله في إقامة دينه. قال تعالى :{لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم}. وسره أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا، حصل التنافس وفشا الخلاف، وإذا انصرفت إلى الحق، ورفضت الدنيا، وأقبلت على الله، اتحدت وجهتها، فذهب التنافس وقل الخلاف وحسن التعاون والتعاضد، واتسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدولة”. المقدمة 187
وقال حسن ابراهيم حسن : “… وكان من أظهر آثار الاسلام أنه آخى بين المسلمين على اختلاف قبائلهم ومراتبهم، وأحل الوحدة الدينية محل الوحدة القومية، فأصبحوا متساوين جميعا، وغدوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا” تاريخ الاسلام ج 1/104.
3- المحبة في الله : قال تعالى في وصف الصفوة المختارة من المتحابين في الله : {ويوثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة}(الحشر9). وقال(ص): “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”(متفق عليه)
وقال(ص) : “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”(متفق عليه)
وممن يظلهم الله تعالى في ظله يوم القيامة “رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه” (رواه البخاري)
4- التعاليم الاسلامية : وكلها تدعو إلى التعاطف والتراحم، وتحول دون الاختلاف والنزاع، حتى في المعاملات المالية، فأحل الله البيع لأنه يتم بالتراضي وحرم الربا لأنه يفضي دون شك إلى النزاع. ومن المعلوم أن الاتحاد قوة والاختلاف ضعف، ولذا نهى الله تعالى المسلمين من الخلف والفرقة بينهم. قال تعالى : {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين}(الأنفال : 47). ودعا إلى تلافي ما قد يقع بين الأفراد والجماعات من النزاع والشقاق والاقتتال فقال تعالى : {وإن طائفتان من المومنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما}(الحجرات: 9). وبينما كان رسول الله(ص) في بيته إذ سمع أعرابيا يرفع صوته، ويقول “يا للمهاجرين، وآخر يقول : يا للأنصار. فخرج (ص) من بيته مغضبا وقال : ما هذا؟ أدعوى الجاهلية؟ فقال الناس : لا يا رسول الله، إلا أن أحدهما كسع الآخر بيده. فقال :لا بأس، ولينصر أحدكم أخاه ظالما أو مظلوما، إن كان مظلوما فلينصره، وإن كان ظالما فليضرب على يديه فإنه له نصر”. (متفق عليه)
5- الوحدة الحقيقية خير سلاح : قال تعالى : {وأعدوا لهم مااستطعتم من قوة}(الأنفال 61). وإن خير ما نعده لمواجهة اعداء الاسلام، وبلوغ هدف النصر عليهم هو الوحدة التي هي أمل الشعوب المسلمة في الوقت الراهن، الوحدة التي تجمع المسلمين جميعا في إطارها، إن الحكم الإسلامي الذي ينبغي أن يستقر في نفوس جميع المسلمين، وان يعملوا ـ إن كانوا مومنين حقا ـ في ظلاله أن الوطن الاسلامي كله وطن واحد، وأن الامة الاسلامية أمة واحدة، تجمع كل مسلم آمن بالله ورسوله وكتابه العزيز. والأمة الاسلامية الواحدة مسؤولة مسؤولية كبيرة تضامنية عن حماية الوطن الاسلامي الواحد في كل القارات، فالعدوان على أي جزء من أجزاء هذا الوطن يفرض على المسلمين جميعا أن يتحدوا متعاونين متساندين وقد أعدوا ما استطاعوا من قوة لصد هذا العدوان، والجهاد في هذا المقام فرض عين يجعل من أفراد الشعوب الاسلامية كلها جيشا واحدا يهب للذود عن الحمى، والحفاظ على الوطن، والشعور بالوحدة ومسؤولية الجهاد بالنفس والمال والكلمة نابع من ديننا وعقيدتنا وإيماننا، فقد تمت بين المومنين جميعا وبين الله تعالى صفقة رابحة، المشتري فيها هو الله عز وجل والبائعون هم المومنون، والمبيع لأنفس والأموال. قال تعالى : {إن الله اشترى من المومنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن ومن اوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم}(التوبة : 112)
يحكي لنا تايخ الامة الاسلامية أن المسلمين كانوا دوما على موعد مع النصر حال وحدتهم، وإذا تفرقت كلمتهم كانت الهزيمة، والواقع الذي نعيشه اليوم نحن المسلمين خير دليل على ذلك.
ويقص علينا التاريخ أن صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تمكن من النصر على جيوش الصليبيين التي كانت تمثل عن طريق حملاتها، أول زحف استعماري غربي على الشرق العربي الاسلامي، وقد أوقع بهم الهزيمة في معركة حطين الشهيرة، وقد قرر المؤرخون تعليقا على هذا النصر : أن صلاح الدين الأيوبي رحمه الله استطاع أن يوالي هجماته على الصليبيين في أوائل سنة 1187 م وقد تمكن بما أحرز من نصر عليهم بفضل الوحدة التي تمت تحت قيادته، أن يحرر بيت المقدس في نفس السنة. وفي الوجه المقابل للنصر في ظل الوحدة، أكدت تجربة التاريخ أنه حين تمزقت الوحدة داخل الجبهة الداخلية، وبعد وفاة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله عاد الخطر الاستعماري الصليبي يهدد المسلمين في الشرق والغرب من جديد. وما يقع الآن في كل من البوسنة والهرسك والشيشان، وفلسطين دليل قاطع على تفكك المسلمين وتكالب أعدائهم عليهم. نسأل الله العلي الكبير أن يوفق الشعوب الاسلامية للعمل بكتابه الحكيم وبسنة رسوله الكريم، لأنهما الحبل المتين والصراط المستقيم، ولنثق جميعا في نصر الله تعالى إذا نحن اتحدنا وتعاونا. قال تعالى : {إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور}(الحج 36).
وقال تعالى : {نصر من الله وفتح قريب وبشر المومنين)(الصف : 13)