أمين الأمة :
أبو عبيد ة بن الجراح
1/2
1) نسبه: هو عامر بن عبد الله، بن الجراح بن هلال بن أهيب، بن ضبة، بن الحارث ابن فهر، بن مالك، بن النضر، بن كنانة، القرشي الفهري المكي. فهو يجتمع في النسب مع النبي صلى الله عليه وسلم في فهر، -سير أعلام النبلاء 1/6 وما بعدها، وصفه الصفوة 1/365 وما بعدها، وغيرها.
2) صفته: كان رضي الله عنه طُوالا، نحيفاً، أَجْنَى – مَيْلٌ في الظهر أو احْدِيدَابٌ معروق الوجه، أثرم الثنيتين – سقطت ثَنِيَّتَاهُ- ولذلك قصة مشهورة سوف نذكرها في مكانها المناسب، وكان رضي الله عنه خفيف اللحية.
3) أسرته وعَقِبُهُ: قال صاحب الصفوة ابن الجوزي : >كان له من الولدين يزيد وعمير، أمهما هند بنت جابر، فَدَرَحَا -ماتا- ولم يبق له عقب<
4) سَابِقَتُهُ في الإسلام : قال ابن سعد في الطبقات :> انطلق ابن مظعون، وعبيدة بن الحارث، وعبدالرحمان بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وأبو عبيدة بن الجراح، حتي أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليهم الإسلام، فأسلموا في ساعة واحدة، وذلك قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم< سير أعلام النبلاء 1/8
وقال صاحب الرحيق المختوم >ومن أوائل المسلمين بلال بن رباح الحبشي، ثم تلاهم أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح< ص : 92 – فهو من الرعيل الثاني بعد خديجة، وأبي بكر، وعلي، وزيد بن حارثة، وعثمان بن عفان وغيرهم على اختلاف يسير في السابق واللاحق.
5) مواقفه : كان اللين والهدوء يطبعان حياة أبي عبيدة من أول إسلامه إلى نهاية حياته، لا يفتعل الأحداث، ولا يلفت الأنظار بتصرف غير مناسب، ولا يعلن التحدي في غير ما حاجة إلى ذلك، ولكنه إن اضطُرَّ أو استُفِزَّ كان كالجبال الرواسي لا يتزحزح عن مبادئه مهما كانت التضحيات والعقبات. ولقد سُجِّلَت له مواقف مشهودة شاركه الصادقون من صحابة الرسول في البعض وانفرد بالبعض الآخر، وسوف نأتي على جملة طيبة من مواقفه يستطيع المومن من خلالها أن يعرف معدن >أمين الأمة<
* هاجر إلى الحبشة مع المهاجرين إليها في المرة الثانية، وعاد مع من عاد، ليكون من ا لسابقين إلى الهجرة للمدينة المنورة مع المهاجرين،
* خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة بدْر، التي خرجت فيها قريش بقضهاو قضيضها، وغرورهاوكبريائها لتحادالله ورسوله، فكان له موقف متميز في التعالي عن الشهوات النفسية، وكل روابط الدم والقرابة، التي تربطه بأسرته وعشيرته، فقد أبدله الله تعالى رابطة أخرى تربطه بجميع المؤمنين السابقين واللاحقين هي رابطة الإيمان والعقيدة، ورابطة الدين والنصرة لله والرسول، ورابطة التآخي والتحاب في رحاب هذا الدين المرتبط بالله تعالى رب العالمين ، ورب الدنيا والدين، أخرج أبو نعيم في الحلية (1/101) والبيهقي (9/27) والحاكم (3/265) قال : جعل أبو أبي عبيدة يتصدى لإبنه أبي عبيدة رضي الله عنه يوم بدر، فجعل أبو عبيدة يحيد عنه- يعدل عنه- فلما أكثر قصده أبو عبيدة. فقتله، فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية حين قتل أباه : > لاَ تَجِدُ قَوْماً يُومِنُونَ بًاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهم أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوِ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ ِمِنْهُ وَيُدْخِلْهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونْ< سورة المجادلة 22 – انظر حياة الصحابة 2/311- والمشهور عند المفسرين والمحدثين أنها نزلت في أبي عبيدة حين قبل أباه، وفي أبي بكر حين دعا ابنه عبد الرحمان يوم بدر إلى البراز، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم منعه من مبارزته، وفي مصعب بن عمير رضي الله عنه حين قتل أخاه عُبَيْدَ بنَ عُمَيْرَ يوم أحد، وفي عمر رضي الله عنه حين قتل خَالَهُ العاصَ بن هشام يوم بدر، وفي علي كرم الله وجهه، وحمزة، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهما حين قتلوا يوم بدر عتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة وهم من عشيرتهم طبعا، روح المعاني 10.37.
يقول الألوسي في روح المعاني : >وأَيّاً ما كان فحكم الآيات عامٌّ، وإن نزلت في أناس مخصوصين، كما لا يخفى، والله تعالى أعلم< هذا صحيح، ولكن الذي يهمنا هنا هو أن الله تعالى شَهِدَ لهؤلاء وغيرهم من الأبرار بأن الله تعالى كتب في قلوبهم الإيمان. واصطفاهم لنفسه فجعلهم من حزبه وجنده، وأيدهم بروح من عنده، وبشرهم بأنهم من الفائزين بجنته، ومن المُنْعَمِ عليهم برضى ربهم، جزاء مارضوابه من التضحية بالنفس والنفيس، وبالأهل والولد، والآباء والعشيرة، وكل الشهوات المحبوبة، في سبيل هذا الدين الذي ملأ قلوبهم محبة لله تعالى حتى لم يبق في قلوبهم متسع لحب شيء آخر غير الله والرسول والمومنين.
* في غزوة أحد أحس أبو عبيدة من خلال سير المعركة، أن المشركين لا يحرصون على إحراز النصرفقط، بل قبل ذلك ودون ذلك، يحرصون على اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضى يضرب بسيفه الأمين مثله، في جيش الوثنية الذي جاء باغيا وعاديا، يريد أن يطفي نور الله، وكلما استدرجته ضرورة القتال، وظروف المعركة بعيدا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل، وعيناه متجهتان دوما حيث يقف الرسول صلى الله عليه وسلم ترقُبانه في حرص وقلق، وفي إحدى جولاته رأى أبو عبيدة سهما ينطلق من يد مشرك فيصيب النبي، َففَرَّق بقوة إيمان سيفه الصفوف المحيطة به، وطار صوب الرسول، فرأى دمه الزكي يسيل على وجهه، ورأى الرسول الأمين يمسح الدم بيمينه وهو يقول : >كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم< رأى ويالهول ما رأى، رأى حلقَتَيْنِ من حلق المغفرِ الذي يضعه الرسول فوق رأسه قد دخلتا في وجنتيه صلى الله عليه وسلم، فلم يطق صبرا، واقترب يقبض بحلقة منهما حتى نزعها من وجنة الرسول، فسقطت ثَنِيَّتَة، ثم نزع الحلقة الأخرى فسقطت ثَنِيَّتَة الثانية، فحسن ثغره بذهابهما حتى قيل : مارُؤى هَتْمٌ قط أحسن من هتم أبي عبيدة -انظر رجال حول الرسول 240، والطبقات، وسير اعلام النبلاء 1/8
روى ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت : قال أبو بكر الصديق : لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أول من فاء إلى النبي، فرأيت بين يديه رجلا يقاتل عنه ويحميه، قلت : كن طلحة، فداك أبي وأمي، فداك أبي وأمي، فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح، وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني، فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا طلحة بين يديه صريعا، فقال النبي : دُونَكُمْ أَخَاكُمْ فقد أَوْجَبَ. وقد رُمِيَ النبي صلى الله عليه وسلم، في وَجْنَتِهِ حتى غابت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، فذهبت لأنزعهما عن ا لنبي صلى الله عليه وسلم. فقال أبو عبيدة : نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني، قال : فأخذ بِفيهِ يُنَضِضُهُ -يحركه قليلاً قليلاً- كراهية أن يُؤْذِيَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثم استلَّ السَّهْمَ بِفِيهِ، فندَرَتْ -انخلعتْ- ثَنِيَّةُ أبي عبيدةَ قال أبو بكر : ثم ذَهَبْتُ لِآخذَ الآخَرَ، فقال أبو عبيدة نَشَدْتُكَ بالله يا أبا بكر إلا تركتني، قال : فأخذه فجعل يُنَضِّضُهُ حتى استلَّهُ فندرتْ ثَنِيَّةُ أبي عبيدة الأخرى ثم قال صلى الله عليه وسلم دونكم أخاكم فقد أوجب فأقبلْنا على طَلْحَةَ نُعالِجُهُ وقد أصابتْهُ بضْعَ عشْرَةَ ضربةً -زاد المعاد2/95 انظر الرحيق المختوم 308-
* وروى ابن سعد في الطبقات الكبرى 3/411] أن أبا عبيدة مِمَّنُ ثبت يوم أحُدٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انهزم الناسُ وولَّوْا
* وروى ابن عساكر عن موسى بن عقبة قال : في غَزْوةِ ذات السلاسلِ، من مشارف الشام استمَدَّ عمرو بن العاص رَسول الله صلى الله عليه وسلم فَنَدَّبَ رَسُولُ الله المهاجِرين الأوَّلين فانتدب فيهم أبو بكر وعمر في سَرَاةٍ من المهاجرينَ وأمَّرَ عليهم أبا عبيدة بن الجراح!! وأمدَّ بِهم عَمْرو بْنَ العاص فلما قدموا على عمرو قال أنا أميرُكُم، وأنا أرْسَلتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستمده بكم فقال المهاجرون بل أنت أميرُ أصحابِكَ وإن أبا عبيدة أمير المهاجرين فقال عَمْرو : إنما أنتم مدَدٌ أمُدِدْتُ بكم، فلما رأى ذلك أبو عبيدة -وكان رجُلاً حسن الخُلُق، لينَ الشكيمة، مُتَّبِعاً لأمر رسول الله وعهده، -قال تعلمُ يا عمرو أن آخر ما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال : >إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا< وإنك إنْ عصيتني لأُطيعَنَّكَ!! فسلَّمَ أبو عبيدة الإمارة لعمرو بن العاص -موسوعة عظماء حول الرسول381
* وعندما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، اختارَ المسلمون فيمن يُوَلُّونَهُ قيادة الأمة، فكانت الإقتراحات تتوالى من المهاجرين والأنصار، للإسراع باختيار رجل تتفقُ عليه الكلمة، ويقْدِرُ على جمع شمل الأمة وقيادتها في أصعب ظروف الفترة الانتقالية، فكان أبو عبيدة الرجُلَ الذي لا تخطئُهُ العينُ الحريصة على مصلحة الأمة الإسلامية، إلا أن أبا عبيدة رضي الله تعالى عنه كان له موقف آخر ومقترحٌ آخر، دافع عنه بالحجة والبرهان حتى اقتنع به المخلصون الحائرون فكان خيراً وبركة على المسلمين.
اخرج عساكر عن مسلم قال : بعث أبوبكر إلى أبي عبيدة رضي الله عنهما : هلمَّ حتى استخلفك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول >إن لكل أمةٍِ أمينا، وأنت أمينُ هذه الأمة< فقال أبوعبيدة : ماكنت لأتقدم رجُلا أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَؤُمَّنَا< (الكنز 3/136)
وأخرج الإمام أحمد عن أبي البختري قال : قال عمر لأبي عبيدة -رضي الله عنهما- ابسُطَ يدك حتى أبايعك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : >أنت أمين هذه الأمة< فقال أبوعبيدة : >ما كنت لأتقدم بين يديْ رجل أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَؤُمَنَا فأََمَّنَا حتى مات<. وفي رواية أخرى عن ابراهيم التيمي، أن أبا عبيدة قال لعمر : ما رأيت لك فهَّةٍ -سقطة وجهلةٍ وغلْطةٍ- قبلها منذ أسلمتَ، أتبايعني وفيكم الصديقُ، وثاني اثنين؟!< -الكنز 3/140 انظر حياة الصحابة 2/19-
* وروى الشيخان أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس مرجعهُ من الحجِّ، فقال في خُطْبَةٍ مُطَوَّلَةٍ بيَّنَ فيها الظروف الحرجة التي أملت عليه وعلى إخوانه من أولي الرَّأْيِ من الصحابة، الإسراع بالبَتِّ في أمر الخلافة حرْصاً على وحدة الأمة، فقال من جملة ما قال : فلمَا سَكَتَ -يعني خطيبَ الأنصار المطالبَ بحقهم في الخلافة- أرَدْتُ أن أتكلم، وكنت قد زَوَّرْتُ مقالةٍ أعْجبتني، أرَدْتُ أن أقولها بين يديْ أبي بكرٍ، وقد كنت أُدَارِي مِنْهُ بعض الحَدٍّ -الغضب والحدَّةِ وقُوَّةِ الرد السَّريع- وهو كان أحْلَمَ مِني وأوْقَرَ، فقال أبو بكر : على رِسْلِكَ، فكرهت أن أُغضِبَهُ، وكان أعلم مني، واللهِ ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بداهته مِثْلَها، وأَفْضَلَ منها، حتى سَكَتَ. فقال : أمَّا بعدُ، فما ذكرتم فيكم من خير فأنتم أهُلُهُ، ولم تعرفْ العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريشٍ، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجُلين فبايعوا أيَّهُمَا شئتُمْ، فأخذ بيدي، وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا…. تاريخ الخلفاء للسيوطي 62،63
6) موقفه من المال والدنيا والموت :
أ- أخرج الأمام أحمد عن أبي عبيدة عندما سأله من دخل عليه ووجده يَبْكي، ما يُبْكيك يا أبا عبيدة؟ قال : نَبْكي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكريوما يفتح الله على المسلمين ويُفيئ عليهم حتى ذكر الشام، فقال : >إن يُنْسَأْ -يُؤَخَرْ ويُزَدْ- في أجلك يا أبا عبيدة، فحسبُكَ من الخدم ثلاثة : خادمٌ يَخْدُمُكَ، وخادم يسافر مَعَكَ، وخادم يَخُدُمُ أهلك ويردُّ عليهم -يأتيهم بحوائجهم-، وحسبك من الدَّواب ثلاثة : دابة لرحْلِكَ، -لبيتك- ودابةٌ لنقلك، ودابة لغلامك< ثم هذا أنا أَنْظُر إلى بيتي قد امتلأ رقيقاً، وانظر إلى مربطي قد امتلأ دوابَّ وخيلا، فكيف ألْقى رسول الله بعد هذا؟! وقد أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم >أن أحبكم إليَّ وأقربكم مني من لقيني على مثلِ الحال الذي فارقني عليها< حياة الصحابة 2/271
ب- كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفاخر بالصحابة الذين برزوا في الزُهْدِ والترفعِ عن الدُّنْيا بعد أن بُسِطَتْ عليهم فلم يلتفتو إليها ولكن همتهم معلقة بالآخرة، وكان يُحِبُّ ان تصدق فراسته في اشخاصٍ بعينهم، ولا يُريد أن يخيب ظنه فيهم، لِيٍقنع الباقي بسلامة موقفه، في سوْقِ الناس بالجدِّ، والأخذ بحجزهم عن الرَّتْعِ في الدنيا، ونسيان الرسالة الحقيقة للإنسان بصفة عامة، ولهذه الصفوة بصفة خاصة. ولذلك كان يبعثُ بالأموال إلى طائفة من هؤلاء المصطفين الأوابين، ويقول لِرُسُلِهِ : أعطوهم الأموال، وتشاغلو عنهم حتى تَرَوْا ماذا سَيَصْنَعونَ بها. ذكر البخاري في تاريخه الصغير (1/54) أن عمر بعث بالمال إلى حذىفة بن اليمان، وقال للرسول انظر ما يصنع به؟ فلمَّا أتاه أخذ المال حذيفة وقَسَّمَهُ، وكذلك فعل مع معاذ بن جبل، الذي قسم المال أيضا بمجرد قبضه، وكان أبوعبيدة من الذين بعث إليهم عمر بمالٍ، ليختبره ما يصنع به؟ فما كان أبو عبيدة بالذي يَخِيبُ فيه ظَنُّ عمر، فقد قسم المال وفرقه في الفقراء والمساكين بمجرد التمكن منه فقال عمر لمن كان حاضرا مجلسه ينتظر النتيجة : >قَدْ قُلْتُ لَكُمْ< أي قد قلت لكم أن هؤلاء هم الرجال الذين يتمنى عمر أن يكون هذا البيتُ مملوءاً بهم ليستعملهم في طاعة الله تعالى، ويُسند اليهم المسؤوليات الجسام التي تقصر دونها همم الضعفاء المشدودين إلى زخارف الدنيا ومتاعها القليل انظر سير أعلام النبلاء 1/14. وفي رواية أخرى أن عمر أرسل إلى أبي عبيدة بأربعة آلاف درهم فعندما أخبره أنه قسمها، قال الحمد لله الذي جعل في الاسلام من يصنع هذا -نفس المصدر 17-
جـ- روى ابن عساكر أن عمر بن الخطاب حين قدم إلى الشام قال لأبي عبيدة -وكان أميراً عليها- اذهب بِنَا إلى منزلك قال وما تصنع عندي؟! ما تريد إلا أن تُعَصِّرُ عَيْنَيْكَ عليَّ!!! قال : فدخل منزله فلم ير شيْئا!! قال : أَيْنَ مَتَاعُك؟! لا أرى إلا ِلبْداً، وصَحْفَةً وَشَنّاً -قربة للماء صغيرة- وأنت أمير؟!! أعندك طعامٌ؟! فقام أبوعبيدة إلى جوْنَةٍ -خابية مطلية بالقارِّ- فأخذ منها كسيرات فبكى عمر فقال له أبو عبيدة : قد قلت لك!!! إنك تُعَصِّرُ عَيْنَيْكَ عليَّ، ياأمير المؤمنين!!! يكفيك ما يبلغك المقيلَ. قال عمر : غَيَّرتْنا الدنيا كلَّنا غيرك ياأبا عبيدة!!! موسوعة عظماء حول الرسول 1/384، وسير أعلام النبلاء 1/17 وغيرهما.
د- روى ابن عساكر وشعبه، والحاكم وغيرهم : أن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين كتب إلى أبي عبيدة حين سمع بالطاعون الذي أخذ الناس بالشام : >إني قد بدتْ لي حاجةٌ إليك فلا غِنَى بِي عَنْكَ فيها، إذا أتاك كتابي لَيْلاً، فإني أعزمُ عليك أن تمشي حتى تَرْكَبَ إلَيَّ<
فقال أبو عبيدة : قد علمت حاجة أمير المؤمنين التي عرضت، وإنه يُريد ُ أن يستبقيَ منْ ليس بباقٍ، فكتب إليه : >إني في جندٍ من المسلمين لن أرغب بنفسي عنهم، وإني قد علمت حاجتك، التي عرضت لك، وإنك تستبقي من ليس بباق، فإذا أتاك كتابي فحلِّلْني من عزمتك، وائْذنْ لي في الجلوس< فلمَّا قرأ عمر كتابه فاضت عيناه وبكى فقال له من عنده : يا أمير المؤمنين!! مات أبوعبيدة؟!
قال : لا، وكأنْ قَد- موسوعة عظماء حول الرسول 1/384، وسير أعلام النبلاء 1/17
7) المسؤوليات التي تقلَّدَها :
==>>> ==>>> ==>>>
أ- ترؤس السرايا للرسول صلى الله عليه وسلم
عينه الرسول على رأس عدَّة سرايا، أشهرها : سريَّةُ “سيف البحر”، أو سرية “الساحل” أو “الخَبَط” التي كانت كلُّهَا من مبتدئها إلى منتهاها آية من آيات الله تعالى في رعايته لأوليائه وأصفيائه الذين اختاروا أن يكونوا من جنود الله المخلصين.
أخرج الإمام مالك في الموطأ باب جامع ما جاء في الطعام والشراب وغيره عن جابر رضي الله عنه، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا قِبلَ الساحل فأمَّر عليهم أبا عبيدة، وهم ثلاثمائة، قال -وأنا فيهم- قال : فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق، فَنِيَ الزاد فأمر أبو عبيدة، بأزواد ذلك الجيش، فجمع ذلك كله، فكان مِزْوَدَيْ تمر، قال : فكان يَقُوتُنَا -يعطينا القوت- في كل يوم قليلاً، قليلاً حتى فنيَ الزاد ولم تصبنا إلا تَمْرَةٌ، تَمْرَةٌ، فَقُلْتُ : وما تُغْنِي تَمْرَةٌ؟ قال : لقد وجدنا فَقْدَها حين فَنِيَتْ، وفي رواية كيف تصنعون بها؟ قال : كنا نَمَصُّها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يَوَمْنَا إلى الليل، وكنا نضرب بعصيِّنا الْخَبَطِ، ثم نَبُلُّهُ بالماء فنأكله -فسُمِّي ذلك الجيش جيش الْخَبَطِ، ونَحَرَ رَجُلٌ ثلاث جزائرَ -نوق- ثم نحر ثلاث جزائر، ثم ثلاثاً، فنهاه أبو عبيدة- والرجل هو قيس بن مسعود بن عبادة الكريم ابن الكريم قال : فانطلقنا إلى ساحل البحر فرُفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه فإذا به دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبًرَ، فقال أبوعبيدة : مِيتَةٌ ثم قال : لا بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله وقد اضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا، أقمنا عليه شهراً -أو ثماني عشرة ليلة أو نصف شهرٍ في روايات أخرى- حتى سمِنَّا، ولقد كنا نَغْرِفُ مِنْ وَقْبِ -نُقْرَة فيها العينُ- عَيْنِهِ بالقِلالِ -الجِرار- الدُّهنَ، ونقتطِعُ منه الفِدَرَ -ج فِدْرَةً أيْ القطعةَ-، ولَقَدْ أَخَذَ مِنَّا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجُلاً، فأقعدهم في وَقْبِ عينه، وأخذ ضِلْعَيْن من أضلاعِهِ، فأقامهما، ثم رُحِّلَ أعظمُ بعيرٍ، فمرَّ تحتهما، وتزوَّدْنا من لحمها وشائق -ج وشيقة : القِدِّيدُ أو اللحم المغليُّ الصّالحُ للسَّفر به- فلما قدمنا المدينة، أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرنا ذلك له فقال : >هُو رِزْقٌ أَخْرَجْهُ اللَّهُ لَكُمْ فَهَلْ مَعَكُمْ شَيْءٌ مِنْ لَحُمِهِ تُطْعِمُونَا؟< قال : فَأَرْسَلْنَا إِلَى رَسُول الله فَأَكَلَ منه. رَواه كل من الامام مالك، وابي داود ومسلم وغيرهم عن جابر بالفاظ مختلفة -انظر حياة الصحابة 13-640
ب- تَوَلِّي الإشراف على بَيْتِ مال المسلمين : أخرج ابن سعد عن عطاء بن السائب قال : لمَّا بويعَ أبو بكر، أصبح وعلى ساعِدِهِ أبرادٌ -ج بُرْدٍ، وهي الأثواب التي كان يُتَاجِرُ فيها أبو بكر- وهو ذاهب إلى السوق فقال عمر : أين تريد؟! قال : إلى السوق، قال : تصنع ماذا؟ وقد وُليِّتَ أمر المسلمين؟! قال : ومن أين أطْعِمُ عيالي؟ فقال : انطلقْ، يَفْرِضْ لك أبو عبيدة >أمين بيت المال< فانْطَلَقَا إلى أبي عبيدة، فقال : أفْرِضُ لك قُوتَ رَجُلٍ من المهاجرين، ليس بأفضلهم،ولا أَوْكَسِهِمْ -أحطِّهم وأسفلهم درجة في المال-، وكسوة الشتاء والصيف، وإذا أَخْلَقْتَ -أَبْلَيْتَ- شيئا رَدَدْتَهُ وأخَذْتَ غَيْرَهُ، فَفَرَضَا له كُلَّ يَوْمٍ نِصْفَ شَاةٍ ومَاكَسَاه في الرَّأْسِ وَالبَطْنِ -أي سَاوَمَاهُ وفَاوَضَاهُ في الرَّأْسِ وَالكَرْشِ، فَهُوَ يَطْلُبَ زِيَادَتَهُمَا لِحاجَةِ أولاده وعائلته إليهما، وأبو عُبَيْدَةَ يَرَى أن ذلك فَوْقَ حَقِّهِ.
جـ- تولِّي إمارة الجيش، وقيادة أمراء الجند : قد تولّى في عهد الرَّسول قيادة السَّرَايا وفيها عُمَرُ وَغُيْرُه من كبار الصحابة، حيث أمَّرَهُ الرسول صلى الله عليه وسلم مِرارا،ً وتكراراً، وعندما كَثُرتِ الفتوحات في أواخر عهد أبي بكر، وَطوَال عهد عُمَر رضي الله تعالى عنهما نجد أن أبا بكر بعثه من جملة الأمراء الذين بعثهم لفتح الشام وعندما طال حصار أبي عبيدة لدمشق، وطالت مُكَايَدَةُ الروم للمسلمين بالشام أمَدَّ أبو بكر أبا عُبَيْدَةَ بخالد بن الوليد للمساعدة على حَسْمِ المعركة، روى الذهبي وغيره عن جابر قال : كُنْتُ في الجيش الذين مع خالد، الذين أمَدَّ بهم أبا عبيدة، وهو محاصر دمشق فلمَّا قدمنا عليهم، قال لخالد : تَقَدَّمَ فَصَلِّ، فَأَنْتَ أَحَقُّ بالإمامة لأنك جِئتَ تُمِدَّني، فقال خالد : ما كُنْتُ لِأَتَقَدَّمَ رَجُلاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : >لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح< سير أعلام النبلاء 1/12
وعندما توفي أبو بكر وتولى عمر الذي قَرَّرَ عَزْلَ خالد بن الوليد، وتَوْليةَ أبي عبيدة إمارةَ الأمراء، وهو المنصِبُ الذي كان أبو بكر كلَّف به خالداً، فجاء الكتابُ والمسلمون على أُهْبةِ الاستعداد بقيادة خالدٍ لِحَسْمِ المعركة مع الرُّومِ، فَشَاءَ أَبُو عُبًيْدَةَ ألا يُحْدِثَ تغييراً يُؤدّي إلى إعادة التخطيط للمعركة ولذلك عندما جاءه التقليدُ، كَتَمَهُ مُدَّة -وكل هذا من دينه ولينه وحِلْمِهِ- يقول خالد محمد خالد >لَمْ يَكَدْ أبو عُبَيْدَةَ يستقبلُ مبعوثَ عُمَرَ بهذا الأمرِ الجديد، حتى اسْتَكْتَمَهُ الخبرَ، وَكَتَمَهُ هو في نفسه طاوياً عليه صدر زاهدٍ فَطِنٍ، أمينٍ حتى أتم القائد >خالد< فَتْحَه العظيم.
وآنئذٍ تقدّم إليه في أدب جليلٍ بكتاب أمير المومنين< ويسأله خالد : يَرْحَمْكَ اللهُ أبا عبيدة ما مَنَعَكَ أنْ تُخْبِرَنِي حِينَ جَاءَكَ الكتاب؟] فيجيب أمين الأمة >إنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَكْسِرَ عَلَيْكَ حَرْبًكً وما سُلُطانَ الدنيا نُرِيدُ، ولا لِلدُنْيَا نَعْمَلُ، كُلُّنَا فِي اللَّهِ إِخْوَةٌ< ويُصْبِح أبو عبيدة أَمِيرَ الأمراء بالشام وعندما تراه لا تَحْسِبُه إلا واحداً من المقاتلين، وفرداً عاديا من المسلمين. رجال حول الرسول 242، وسير أعلام النبلاء 1/21 والكامل في التاريخ لابن الأثير 2/293
د- محاسبة الأمراء المعزولين :
قال رشيد رضا رحمه الله تعالى في المنار : كتب عمر عندما ولِيَ الخلافة إلى أبي عبيدة وهو في جيش خالد على الشام يُوَليهِ إمارة الجيش العامَّةِ، ويعزل خالداً عنها، وكان الجيش على حصار دمشق، أو في اليَرْموك (روايتان) فكتم أبو عبيدة الأمر وكَبُر عليه أن يظهره قبل أن يتم لهم النصر، ولما أبْطأ على عمر الجوابُ، كَتَبَ إلى أبي عبيدة ثانية، يأمره فيه بأن يقرأه على ملأٍ من المسلمين، وفيه الإذنُ بأن يُعْتَقَلَ خالدٌ بعمامته، ويحاسبَ على ما كان منه في إمارته، فهابه أبو عبيدة لشرفه، وشجاعته، وبلائه في الحرب وحب الجيش له ولكنه لما قرأ الكتاب قام بلال الحبشي من فقراء الموالي (العتقاء) وحلَّ عمامة خالد، واعتقله بها وسأله عما أمر به عمر فخضع واجاب. ويُعَقِّبُ على هذه القصة بقوله :>فانظروا ما فعل هديُ الإسلام بهؤلاء الكرام يقوم مَوْلىً من الفقراء إلى السيد القرشي العظيم، والقائد الكبير، فَيَعْقِلُهُ بعمامته على أعين الملأِ الذين كان أميرهم وقائدهم ويحاسبه فيجيبه عن كل ما سأله ورويَ أنه بعد أن أطاع وأجاب داعي الخليفة، أعاد إليه بلالٌ قلنسوته وعممه بيده قائلاً : نسمع ونطيع ونُفَخِّمُ موالينا. 4/37
أما سبب هذا الاعتقال فقد ذكره الذَّهْبيُّ في سير أعلام النبلاء، فقال : كان عمر لا يخْفى عليه شيء من عمَّاله، وإن خالداً أجاز الأشعث بعشرة آلاف فدعا البريد وكتب إلى أبي عبيدة أن تقيم خالداً وتعتقله بعمامته وتنزع قَلَنْسُوَتهُ حتى يُعْلِمَكُمْ مِنْ أَيْنَ أجازَ الأشعثَ؟ أمِنْ مال الله أم من ماله؟….1/380
والمعروف عن عمر رضي الله عنه أنه كان شديد المحاسبة للعُمَّال والوُلاة في شؤون المال لا اتِّهاماً للصحابة الكرام بالخيانة ولكن صوْناً لهم وردعاً عن الاشتغال بتنمية الحلال على حساب المسؤولية.