عن المقدام بن معديكرب رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال : >ما أكل أحد طعاما قط خيراً من عمل يده، وأن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده< أخرجه البخاري .
الرواية :
الحديث أخرجه البخاري في جامعه الصحيح في كتاب البيوع في باب كسب الرجل وعمله بيده. وأخرج أيضا في نفس الباب عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم >ان داود النبي عليه السلام كان لايأكل إلا من عمل يده<، ولابن ماجة من طريق عمر بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام مرفوعا : >ماكسب الرجل أطيب من عمل يده< ولابن المنذر من هذا الوجه : >ماأكل رجل طعاما قط أحلّ من عمل يده<. وللنسائي من حديث عائشة : >إن أطيب ماأكل الرجل من كسبه<. وقد أخرج الحديث غير هؤلاء من أئمة الحديث بألفاظ مختلفة(1) وقد تلقى العلماء هذا الحديث بالقبول؛ لاتصال سنده، وسلامته من العلل، وخلوه من القوادح، واستخرجوا منه مجموعة من الأحكام الشرعية.
المعنى الإجمالي للحديث :
في الحديث تشجيع على العمل، وحث عليه، ودعوة إلى الاهتمام به، إذ هو الوسيلة لتحقيق مايحتاجه الانسان في حياته، وبه تتم عمارة الأرض، وفي تركه والإعراض عنه، وتكفف الناس وانتظار أعطياتهم منقصة ومذلة، وذهاب الكرامة الآدمية. فالإسلام قد ذم القعود عن العمل مع القدرة عليه، ولم يعتبر العمل عيبا أيا كان هذا العمل. والإنسان العامل قوي الشخصية، نافذ الكلمة، معتمد على النفس، يشعر بكرامته الإنسانية، وإن بعض الأعمال وإن كانت محتقرة عند أولئك الذين لم تنضج عقولهم بعد، ففيها كرامة الإنسان، وهي خير وأفضل من القعود عن العمل، والكسب، والرضا بالكينونة عالة على الغير. فالأنبياء وهم الصفوة المختارة من البشر، وليس غيرهم أكرم على الله منهم، ومع ذلك كانوا يعملون ويتكسبون، ويكدون سعيا على أنفسهم وعيالهم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما : >ان داود كان زرادا يضع الدروع]، وكان آدم حراثا، وكان نوح نجارا، وكان ادريس خياطا، وكان موسى راعيا< رواه الحاكم.
ولم يبح الإسلام لأحد أن يسأل غيره وهو قادر على العمل، وتسخير مواهبه وطاقاته للقيام به، ففي الحديث الذي رواه الترمذي مرفوعا(2) : >لاتحل الصدقة لغني، ولالذي مرة أي قوة] سوي< رواه البيهقي وابن خزيمة في صحيحه مرفوعاً كذلك : >الذي يسأل من غير حاجة كمثل الذي يلتقط الجمر<.
والإسلام لايرضى أن يحيا بين أهله من همه الاستجداء وتكفف الناس، لما في ذلك من الهوان والضعة. وقد جعل نبي الاسلام عليه الصلاة والسلام الاحتطاب خيراً من مد اليد بالسؤال. فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : >والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره، خير له من أن يأتي رجلا فيسأله اعطاه أو منعه< أخرجه البخاري والنسائي وابن ماجة ومالك واحمد، وقد جعل الله عزوجل أرزاق الناس في الأرض، وندبهم إلى السعي في مناكبها لتحصيل هذه الأرزاق، والظفر بما تقوم به حياتهم وتتحقق كرامتهم، قال تعالى : >هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه< الملك : 15.
ولأجل التعريف بقيمة العمل ومنزلته في الاسلام، لايفوتني أن أذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل الأعمال الدنيوية التي يقوم بها الإنسان لمعيشته، والسعي على نفسه وأهله، من أبواب العبادة والقربات إلى الله، وإن لم يتعد نفعها دائرته الشخصية والأسرية، فالزارع في حقله، والعامل في مصنعه، والتاجر في متجره، والموظف في مكتبه، وكل ذي حرفة في حرفته، يستطيع أن يجعل من عمله المعاشي صلاة وجهادا في سبيل الله إذا التزم فيه الشروط الآتية :
1- أن يكون العمل مشروعا في نظر الإسلام، أما الأعمال التي ينكرها الدين كالعمل في الربا والحانات والمراقص ونحوها، فلا تكون ولن تكون عبادة أبدا، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.
2- أن تصحبه النية الصالحة : نية المسلم إعفاف نفسه، واغناء أسرته، ونفع امته، وعمارة الأرض كما أمر الله.
3- أن يُؤدي العمل باتقان واحسان، ففي الحديث : >إن الله كتب الاحسان على كل شيء< رواه مسلم. >ان الله يحب إذا عمل احدكم عملا أن يتقنه< رواه البيهقي وغيره.
4- أن يلتزم فيه حدود الله، فلا يظلم ولايخون، ولايغش ولايجور على حق غيره.
5- ألا يشغله عمله الدنيوي عن واجباته الدينية كما قال تعالى : >ياأيها الذين آمنوا لاتلهكم أموالكم ولاأولادكم عن ذكر الله، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون< المنافقون : 9. >رجال لاتلهيهم تجارة ولابيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة< النور : 37.
إذا راعى المسلم هذه الأمور كان في سعيه عابدا وإن لم يكن في محراب، متبتلا إلى الله وإن لم يكن في صومعة. عن كعب بن عجرة قال : مرعلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه فقالوا : يارسول الله، لو كان هذا في سبيل الله؟! أي في الجهاد لاعلاء كلمة الله وكان أفضل العبادات عندهم] فقال : إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبويه شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان< قال المنذري : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
ويخلع القرآن على السعي في مناكب الأرض لطلب الرزق تسمية جميلة موحية برضا الله، فيسمي ذلك “الابتغاء من فضل الله” مثل قوله تعالى : >فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله< الجمعة : 10. >ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم< البقرة : 198. ويقرن المسافرين للرزق بالمجاهدين لله في سياق واحد إذ يقول: >.. وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، وآخرون يقاتلون في سبيل الله< المزمل : 20. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في فضل الزرع والغرس ومايجلب لصاحبه من شوبة عند الله : >مامن مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة الا كان له به صدقة< متفق عليه، ويعلن أن >التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء< رواه الترمذي وحسنه.
وفي ظل هذه التعاليم لايجوز للمسلم -ولايتصور منه- أن يكون عالة على غيره، أو عبئا على المجتمع، ياخذ من الحياة ولايعطيها، ويعتزل الناس والحياة باسم التفرغ للعبادة أو التبتل، بل يندفع بغير وازع خارجي إلى كل ميادين الحياة منتجا متقنا متفوقا، وهو يوقن أنه في صلاة وجهاد!<(3).
أحمد أبو سلمى
————————
1- انظر فتح الباري لابن حجر 384/4.
2- الحديث المرفوع : هو ماأُضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير.
3- العبادة في الإسلام للدكتور يوسف القرضاوي ص 61 -62- 63.