ما زلت أذكر أن سياسيا مغربياً زار أمير الجهاد بالريف والجبل محمد بن عبد الكريم الخطابي رحمه الله وكنت ثالثهم في بيته بالقاهرة، فبعد التحية والمقدمة من السؤال عن العافية والأهل بدأ السياسي المغربي حديثه عن جولاته السياسية في باريس ونيويورك وأفاض في الكلام عن الملف المغربي الذي قدموه إلى هيئة الأمم المتحدة في باريس ونيويورك وكيف وقع التفريق القانوني بين حالة المغرب وحالة الجزائر مثلا، فالمغرب ليس دولة مستعمرة بل دولة ذات سيادة ارتبطت بمعاهدة حماية مع كل من فرنسا وإسبانيا والمعاهدة مقيدة بمدة معينة وقد انتهت المدة فليس أمام فرنسا إلا الإنسحاب من المغرب والإعتراف باستقلاله… وقد لاحظت أثناء الحديث أن الشيخ الوقور غير مُستريح لهذا الحديث ولهذه المصطلحات القانونية التي يهتم السياسي المناضل بشرحها شرحا وافيا لذلك فما أن أنهى السياسي المغربي حديثه حتى بادره الشيخ قائلا >هل
انتهيت من حديثك باسم فلان؟ اسمع وأصغ لما أقوله لك… إن كلامك هذا لا يفهمه الإستعمار ولا يعيره أدنى اهتمام، فلقد جربناه مِراراً وجربه غيرنا فلم يكن قط ذا جدوى وإنما هو فراغ في فراغ وضياع الوقت سدى، أتعرف متى يقتنع العدو بفكرتك ويدرك كنه تعريفاتك ويعترف لك بحقك…< وسكت الشيخ الوقور ورفع رأسه وثبَّتَ نظره في محدقه ملوحاً بيده وقال :
>إن العدو لا يعترف بك ولا يفهمك إلا إذا خاطبته بهذا (وحرك يده وأصابعه كأنه يضغط على زناد البندقية والرشاش وهو يصوبه نحو العدو) فعندما يرى العدو مخه وقد تناثر أمامه ويرى الدماء تنفجر من رأسه وأنفه وأذنه عندئذ يلتفت إلى كلامك ويعرف أنك تحدثه المنطق قابل للفهم.ويبدأ باحترامك واحترام آرائك، وعلى قدر قوتك يقتنع بحقك ويدخل معك في مفاوضات ما دمت قويا وحينئذ تأخذ حقك كاملاً غير منقوص إن الضعيف لا حول له، ولا منطق له لأنه لا قوة له يقول تعالى : “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يُوَفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون” الأنفال رقم 8 آية رقم 60< انتهى حديث شيخ المجاهدين
والحقيقة أن غاندي قاوم الإستعمار الإنجليزي بأسلوب سلبي بحث : بمقاطعة سلعه والإكتفاء بما ينتجه الهندي من غذاء وكساء فاضطرت بريطانيا العظمى أن تعطي الإستقلال لتلك البلاد الشاسعة وأن تفقد تلك الدرة الكبيرة من التاج البريطاني.. ورحم الله جمال الدين الأفغاني الذي قال للهنود لو أردتم الإستقلال لأدركتموه في أقرب وقت، فلو أن كل واحد من ملا بينكم اكتفى أن يبصق على الجزيرة البريطانية مرة واحدة لأرغرقتموها في بصاقكم”..
والمسلمون اليوم تجاوزوا المليار والنصف فلو أرادوا أن ينقذوا أنفسهم وإخوانهم في البوسنة والهرسك وفي فلسطين وغيرها وأن يحرروا أنفسهم من الهيمنة الإستعمارية الإقتصادية والسياسية لأدركوا ذلك بأيسر طريق، ولو كانت لهم قيادات رائدة تحس بكرامتهم وتحرص على عزتهم وشرفهم وتحمل همومهم وتسوسُهُم بما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم، لحازت ثقتهم ولأدوا إليهم الطاعة الواجبة ديناً ولتعاونوا جميعاً على مواجهة هذه الأخطار بما يجب حسب الزمان والمكان… وحينئذ والله لو امتنع العالم الإسلامي شهراً واحداً عن شراء بضاعة الدولة التي تعدت حدودها ونالت من ديننا وكرامتنا وجاهرت بعداوتنا وظاهرت علينا.. لراجعت حسابها وغيرت سياستها حسب مصالحها ولو أوقف العالم الإسلامي ضخَّ أمواله على بعض الدول المعتدية علينا سنة واحدة فقط، لجاءت إليه ذليلة معتذرة معترفة بذنبها، ولكن أنا لنا ذلك وأموالنا واقتصادنا وقواتنا وشجاعتنا وأسلحتنا ومكرنا ودهاؤنا ومؤسساتنا الفكرية والجاسوسية والإعلامية والحزبية وغير ذلك من الآلات والإدارات والأجهزة والإمكانات مسخرة لتهديم ذاتنا وتقويض حياتنا وإشعال الفتن خلالنا وإضعاف بعضنا وتمزيق وحدتنا ونشر الرعب في أهلنا وذوينا واستئصال أنفسنا والتنافس بيننا في التناحر والتقاتل والتآمر والمماكرة والمخاتلة مستعينين بأعدائنا على أنفسنا بتقديم لهم الأموال الطائلة للإجهاز على بعضنا…
وليس في العالم كله من عرف باللدد وفي الخصومة مع الأشقاء والنزوع لاحتلال بلاد الإخوة الجيران وتسليط المرتزقة عليهم والإمعان في إيجاد المشاكل لهم مثل العالم الإسلامي بقيادة العرب الذين ضربوا الرقم القياسي في الفتنة فيما بينهم والعداوة المستمرة مع بعضهم، لذلك كان من سنن الله أن يسلط علينا عدونا وأن تتداعى الأمم إلى التهامنا كما لو كنا أُكْلَة شهية لهم وأن نفشل في جميع أمورنا فتذهب ريحنا وتتعوق حرماتنا وتنحط درجاتنا بين الأمم.
ومع ذلك ما زلنا مصرين على إبعاد أنفسنا حيث نحن في الذلة والهوان ملتمسين العزة من غير الله متجاهلين أو جاهلين سننه الكونية والإجتماعية متعلقين بالأماني الباطلة والخيالات الزائفة والوعود الكاذبة غافلين أو متغافلين عن الحقيقة الإجتماعية :
لا حَقَّ للضعيف ولا صوت للمغلوب
ولا نصر لمن يخذل نفسه
ولا عزة لمن يلتمسها من غير الله….