صفات المنافقين من خلال سورة البقرة : دلالات وإيضاحات


صفات المنافقين من خلال سورة البقرة : دلالات وإيضاحات

بقلم : عبد القادر منداد

يقول سبحانه وتعالى : >ومن الناس من يقول ءامنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمومنين. يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون. في قلوبهم مرض، فزادهم الله مرضا، ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون. وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. وإذا قيل لهم ءامنوا كما آمن الناس قالوا أنومن كما آمن السفهاء، ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون. وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون. الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون. أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين.<(البقرة : 7-15)

تمهيد :

قام الأستاذ الفاضل المفضل فلواتي في العدد الثاني عشر من جريدة المحجة بتعريف موجز لسورة البقرة مع بيان تسميتها وفضلها ومحتواها، ثم الموضوعات التي تكونها. وفي العدد الموالي -الثالث عشر- بسط صفات المُثْنى عليهم وهم المتقون، المهتدون بهدي القرآن ونوره، الطالبون لمرضاة الله تعالي ونعيمه.

وفي المقال نعرض لصفات فريق آخر يعد الثالث من نوعه ممن تطرقت لهم السورة بالتحذير والتنبيه، لا يكتشف دسائسه ومؤامراته إلا ذوو الفراسة الثاقبة والفطانة الإيمانية العالية. إن هذا الفريق هو أخطر الفرق على وحدة الأمة وكيانها وتماسكها وسلامة سيرها. فالله تعالى تحدث عن المنافقين في سورة البقرة، في ثلاث عشرة آية يبين مُعْظَمُها مكائدهم ومكرهم وخبثهم وجهالتهم وسوء مصيرهم ومآلهم.فماذا إذن عن صفات المنافقين انطلاقا من الآيات المشار إليها أعلاه؟.

يمكن إجمالها فيما يلي :

أولا : إظهار الإيمان كذبا

إن التلفظ بلفظ الإيمان لا يكسب الناطق به صفة المؤمن بالله وبأنبيائه وملائكته وبكل ما يدخل في إطار الغيبيات -مما لا يدرك بحاسة البصر- بل لكي يكون إيمان الإنسان كاملا لا بد وأن يوافق كلامه فعله وظاهره باطنه، ويكون قوله مطابقا لواقعه. والذي يبين بوضوح وجلاء حالهم وما هم عليه من إظهار الإيمان كذبا هو قوله تعالى : >وما هم بمومنين< أي أنهم ليسوا مومنين بدليل نفي الإيمان عنهم، والمعنى أنهم كاذبون فيما يقولون. فنفي الإيمان عن المنافقين دليل صريح وواضح على أن مسمى الإىمان اعتقاد في القلب أولا، وقول باللسان ثانيا، وفعل بالحركة والممارسة ثالثا، فهو ليس مجرد نطق بلسان يحتمل الصدق والكذب بل الأعمال هي التي تبرهن على صدق الإيمان أو زيفه، ففي الأثر > الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل< ولا يعاند في هذا إلا جاحد أو مكابر.

وزبدة القول وثمرته في كل ما سبق هي أن قوله تعالى >وما هم بمومنين< فيه دلالة عظيمة وإشارة رفيعة، وهي أن من لم يصدق بعقد القلب لا يكون مؤمنا.

إن إظهار الأعمال المناقضة للإيمان يفضى لا محالة إلى فقد الثقة من المنافقين في كل عصر وزمان ويفضى أيضا إلى العداوة بينهم وبين من يعملون على ترسيخ الإسلام الحقيقي في النفوس وتربية الناس عليه ظاهرا وباطنا.

ثانيا  : الخداع والبلادة.

إن إظهار الإيمان وإبطان الكفر يجعلهم يتعاملون مع الله تعالى كما يتعاملون مع الإنسان العاجز الجاهل بالماضي والحاضر والمستقبل، والجاهل بما تضمره النفوس، ويظنون بهذا التصرف أنهم في منتهى الذكاء والعبقرية، ولكنهم في الحقيقة لا يدلون بهذا المسلك إلا على سفاهتهم وغفلتهم وبلادة وعيهم. >إن المنا فقين يخادعون الله وهو خادعهم< (النساء 142) وإذا كان خداع الله تعالى مستحيلا، لأنه سبحانه يستدرجهم من حيث لا يعلمون لأسوإ المصائر إذا لم يتوبوا، فإن مخادعتهم المؤمنين ممكنة في فترات الجهل والغفلة، وتسلح الباطل بالقوة الأجنبية المسندة له ماديا وإعلاميا، وثقافيا، وتعليميا، وعسكريا… حيث تعمل هذه القوة في غيبة العلم النابع من مشكاة الإيمان، وفي غيبة التحدي النابع من أسس الدعوة إلى الله -على تمسيخ الفطرة البشرية، وتركيزانحرافها.

إلا أن هذا الخداع سرعان ما ينكشف يوم يدمدم عليهم نور الصحوة الإيمانية، ويزحف عليهم صوت الحق الهادر، فلا يسعهم إلا الإنسحاب إلى الدرك الأسفل من هذه الدار أم تلك الدار.

وهل هناك أبلد ممن لا يحسن إختيار المصير لنفسه، فيعمل على إهلاكها وهو يظن أنه يعمل لنجاتها وإسعادها؟.

ثالثا : المرض -كما في الإصطلاح القرآني-

إن المقصود بالمرض ليس هو ذلك الإلتهاب أو التمزق العضلي الذي يصاب به الشخص عند قيامه بحركة خشنة غير عادية، فيخرجه خروجا غير طبيعي عن الإعتدال والتوازن، إنما المقصود بالمرض تلك الأعراض النفسية والأخلاق البشرية الذميمة التي تحط من شأن الإنسان فيكون محط نظر والتفات وازدراء ومعاقبة. فالمقصود بالمرض هو الخلق الفاسد الذي يتصف به المنافق. من كفر بالله تعالى باطنا، وتهافت على الدنيا وزينتها، واتصاف بالإنتهازية والإستبداد، وضعف الهمة وخضوع للشهوات الذنيئة، وارتماء في أحضان الرذائل المادية والمعنوية، إلى غير ذلك من الأخلاق الذميمة القاتلة لكرامة الإنسان.

ونظرا لإحتضانهم مرض الشرك والكفر في قلوبهم، فإن الله تعالى لا يزيدهم إلا مرضا على مرض.>فزادهم الله مرضا<.

رابعا : الفساد والإفساد بدون وعي ولا شعور :

الفساد ضد الإصلاح وكلاهما يظهر أثره على أرض الواقع، ففساد المنافقين يتجه اتجاهات ثلاثة : أولها إفسادهم أنفسهم وإصرارهم على الكفر وما يتفرع عنه من أخلاق فاسدة. وإصرارهم على خداع أنفسهم وقتلها.

ثانيها: إفسادهم أسرهم وعيالهم وأقاربهم بتربيتهم في أوخم الأحوال الثقافية الذليلة

ثالثها : إفسادهم المجتمع وإشاعة الفحشاء والمناكر وزرع العداوة بين الناس والدعوة إلى الظلم والغش وتعليم الدعارة، وتأليب الأنظمة على الدعاة إلى غير ذلك من الجرائم المعرقلة لسير قافلة الإصلاح والمصلحين ، ولو كانوا يشعرون بدور الجرم الذي يؤدونه لهان الخطب، ولكنهم يظنون أنهم يصلحون وتلك الطامة الكبرى، ولهذا قال لهم الله تعالى بالتأكيد >ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون<، يمارسون  الفساد والإفساد بدون وعي ولا شعور.

خامسا : السفاهة.

هذه الصفة وصف الله بها المنافقين وقصرها عليهم دون غيرهم بصريح قوله : >الا انهم هم السفهاء ولكن لايعلمون < فهي تعني فيما تعنيه الضعف في الراي وهذا لقلة الاطلاع وقلة العلم وهي تطلق على سفيه الراي كما تطلق على مسيء ادارة المال وتصريفه وتدبيره قال تعالى: >ولاتؤتوا السفهاء اموالكم<(النساء 5) فهذا القصر في السفاهة عليهم معناه انتفاء الحلم والفطانة عنهم ومعناه انهم لايصلحون لقيادة سفينة البشرية الى شاطئ النجاة.

سادسا: الاستهزاء

هذه الصفة ايضا مقصورة عليهم فهم قصروها على انفسهم دون غيرهم بقولهم > انما نحن مستهزءون < والاستهزاء قول او فعل يراد منه الاحتقار والاشمئزاز من الغير شعُر به المَعْنِيُّ او لم يشعر، فالمنافقون يعتقدون ويظنون ان مايرونه من صفح المؤمنين عنهم دليل على رواج نفاقهم وحيلهم وسخريتهم ولكن الله سبحانه وتعالى تكفل بالرد عليهم وحده لانه السَّند الاقوى والملاذ الاعظم للمؤمنين بقوله تعالى:>الله يستهزئ بهم< وذلك بفضحهم وكشف مساوئهم واذلالهم وتحقيرهم في الحال والمستقبل.

سابعا: اشتراء الضلالة بالهدى

ليس المراد بالاشتراء الشري الذي هو بمعنى باع اي دفع سلعة في مقابل قدر معين من المال او مايساويه، فشراء المنافقين الضلالة بالهدى اطلاق مجازي، والمراد ان المنافقين لضعف آرائهم وجهلهم حرصوا حرصا شديدا على الضلالة التي لاتنجيهم من عذاب الله، ولاتحجب عنهم نفور الاصحاب والاقارب الذين فقدوا الثقة فيهم ، وزهدوا فيما يربحهم ويحقق سعادتهم في الدارين الا وهو الهدى، فكانت النتيجة الخسران والزيغ عن هدي رب العالمين.

هذه ابرز صفات المنافقين من خلال سورة البقرة -فيما احسب والله اعلم- قصدت من ايرادها والحديث عنها التذكير أولا، والتحذير ثانيا من الوقوع فيها، او فيما يقرب اليها لعل الله يُجنّبني ويجنب الفئة المؤمنة من الاتصاف بها، اما ماتبقى من الآيات التي تعرضت للمنافقين -في سورة البقرة- والتي لم نشر اليها فانها مجرد تشبيهات تبين حالهم وماهم عليه من التيه والتقلب بين هذا الحال وذاك.

مما يستفاد من الآيات

أ – إن الذين استجابوا لله ودعوة نبيه صلوات الله عليه وسلم كانت ظواهرهم موافقة لاعتقاداتهم وتصديقاتهم، وعلى دربهم سار من خَلَفهم من الدعاة والمخلصين الغيورين على دينهم، اما مايظهر من مخالفات للشرع واخطاء يرتكبها الحُماة -ممن نصبوا انفسهم حراسا للدين- فالتواصي بالحق والتناصح في الله تعالى كافيان ان شاء الله تعالى لعلاج ذلك.

ب – إن ظهور النفاق في المدينة المنورة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعدما قويت شوكة الاسلام واتسعت داره لدليل على ان الحق والخير دائما في صراع مع الباطل والشر، وما النفاق الدولى والسياسي الممنهج الممارس من طرف الساسة ورؤساء الاحزاب اللادينية اتجاه اليقظة الاسلامية الا شيء من هذه السنة الالهية.

جـ – إن الامراض التي تعاني منها الامة الاسلامية سواء كانت اجتماعية كالجهل والظلم والامية، او سياسية ككبت الاصوات الحرة، او اقتصادية كالفقر وسوء توزيع الثروة، منشأها ومصدرها التخلي عن الاسلام والتخلى عن تعاليم شريعته السمحة وابتغاء الحل في غير مااراد الله من النظم الوضعية الوافدة على يد المنافقين.

د – الهم الاكبر والشغل الشاغل للدعاة والمصلحين في كل العصور والازمان هو اصلاح مافسد من حال الجماعة البشرية وإعادتها للقيام بوظيفتها واداء رسالتها المنوطة بها على اكمل وجه واحسن حال، بشكل يرضي الله تعالى. ولاسبيل الى تحقيق هذا الا باصلاح احوال المنافقين وحثهم على التوبة والانابة، او فضح خططهم، وتعرية خبث افكارهم بالعلم والعمل.

هـ – إن عبادة الله تعالى والدعوة الى دينه هما التجارة الاكثر ربحا والاكثر نفعا في الدنيا والآخرة، ومن حرم هذا الربح فقد خسر كل شيء.

و- إن المنافقين مهما بلغت درجة اجرامهم فهم ملح الطعام الايماني، اذ لولا فسادهم وانحرافهم ماكانت لذة للحياة الايمانية المصارعة للباطل، ولذلك امرنا الله تعالى ان نعاملهم على حسب الظاهر في الدنيا، والله يتولى سرائرهم في الدنيا والآخرة.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>