المالتوسية الجديدة تعقد مؤتمراً بالقاهرة


المالتوسية الجديدة تعقد مؤتمراً بالقاهرة

تتبع الجميع أصداء وأجواء مؤتمر السكان والتنمية المنعقد في أوائل شهر شتنبر بمصر، وتباينت مواقف المشاركين والمهتمين تباينا تأرجح بين التأييد والتأييد المطلق، والرفض والرفض المحتشم والصمت الدال على الرضى والصمت الدال على عدم الرضى أيضا. وهذه السطور تحاول الكشف عن الخلفيات التي حركت عقد المؤتمر، وأسباب تباين المواقف إزاءه. وذلك من خلال الإجابة على التساؤلات التالية : لماذا مؤتمر السكان والتنمية وفي هذه المرحلة بالذات؟ ولماذا تم اختيار مصر بلدا لاحتضان أشغاله؟ ولماذا تباينت المواقف بإزاء بنوده؟

1- لماذا مؤتمر السكان والتنمية؟

لايشك أحد في الطابع الدولي لهذا المؤتمر، كما لا يشك في صبغته الرسمية الأممية، الأمر الذي حدا بالكثير إلى اعتباره مشروعا من مشاريع النظام العالمي (الجديد) وأسلوبا من أساليبه المعهودة في تمرير مخططاته الإيديولوجية والسياسية لفرض هيمنة أقوى خصوصا وأن الظرفية التاريخية التي تم فيها عقد المؤتمر جاءت بعد تصفية الأجواء وتنقيتها منذ مدة، وذلك عبر تدمير الطاقة العسكرية لإيران والعراق، وإغراق دول الخليج في الديون والتبعية واحتواء “الأزمة اللبنانية” واحتواء “الانتفاضة الفلسطينية”، ومعها دول “الصمود والتحدي”، وهو الأمر الذي تطلب سنوات عدة، ولكن لا يهم إذا كان يعود بتحقيق استراتيجية هذا النظام.

وفترة انعقاد المؤتمر هي فترة استتب فيها الأمر في جميع بؤر التوتر الساخنة في الشرق الأوسط كما تم فيه تحول ٌ تاريخيٌّ تمثل في وحدة الشمال في كيان سياسي واحد بهدف التصدي لكل مارد يخرج من الجنوب.

هذه الأرضية التاريخية والجيو-سياسية التي ولدها النظام الدولي وتغذى من خلال أحداثها حتى نما وترعرع هي التي ساعدته على عقد هذا المؤتمر. ولكن لماذا كانت مصر نزلا للمؤتمرين؟

2- لماذا احتضنت مصر هذا المؤتمر؟

لعل فيما سلف من السطور ما يؤشر للإجابة على هذا السؤال. فبعد تبريد المناطق الساخنة، وتزويدها بمكيفات تضمن لها الإعتدال السياسي، والوداعة الهادئة، يصبح الجو، وبدون شك، سانحا للتنزه والإنتشاء بهذا الإعتدال، ووضعه على محك التجربة للتأكد من سلامته وصلاحيته للعمل.

وفضلا عما سبق فإن عقد المؤتمر بالقاهرة يحمل اكثر من دلالة :

1- إن إسم القاهرة ارتبط تاريخيا بالعظمة والمجد والقهر والغلبة، ولأجل ذلك سميت قاهرة، واليوم لم تعد قاهرة بل مقهورة، وصارت إسما بلا مسمى، وحتى ينمحي إسمها الحقيقي ويندرس اتخذوها غالبا منطلقا لبث القهر والفساد من فوق أراضيها المجيدة، وهذه غمزة لا يفهمها إلا قليل.

2- فترة عقد المؤتمر هي فترة الإنتصار الكبير للنظام الدولي على العالم الإسلامي، وعلى قضيته المصيرية فلسطين فَلِمَ لا تكن مصر -كامب ديفيد- حضنا لهذا المؤتمر، وقد احتضنت مرات عديدة مفاوضات السلام.

3- أن أولى حلقات النظام الدولي انصبت على العالم الإسلامي وكانت القاهرة مسرحا لها، وهذه الحلقة الأولى كانت هي حملة نابليون. فبين حملة نابليون ومؤتمر السكان والتنمية قرنان من الزمان تغير فيهما الزمان ولم يتغير المكان ولا تغيرت سياسة النظام الدولي، ولا مضامين حلقاته المتجددة.

إنه مضمون واحد يرتكز على الحد من ساكنة العالم الثالث عامة والعالم الإسلامي خاصة، وخلاصة القول بصدد هذه النقطة أن عقد هذا المؤتمر في بلد إسلامي لا يخلو من خلفيات تحركه، ومن ثم فهو ليس بريئا.

3-لماذا اختلفت المواقف إزاء هذا المؤتمر؟

وأجيب لتوي فأقول : إن ذلك راجع إلى عدم براءته كما أشرنا آنفا، لأن الأسلوب المعتمد في علاج المسألة السكانية أسلوب مالتوسي جديد، يعطي لهذه المالتوسية بعدا عالميا، ويقيمها على أساس التوازنات العالمية الجديدة، اقتصاديا وسكانيا وسياسيا وعسكريا..الخ، وهو منطق ينطق بالباطل مغلفا بالحق، ويخفي في نفسه أكثر مما يظهر.

ولقد لاحظت بعض المواقف غير الراضية بمضمون المؤتمر أن هذا المضمون ليس بالجديد، وإنما هو سياسة معروفة دأبت الأمم المتحدة على تطبيقها عبر تغليفها في شعارات براقة ومنمقة ومتضمنة لكثير من المعاني الإنسانية وهي في حقيقتها تحمل أكثر المدلولات وحشية من قبيل تحديد النسل وحرية الجنس والتنمية، …الخ.

فهذا نادي روما يصدر منذ أزيد من عقد من الزمن تقريرا تحت عنوان >أوقفوا هذا التوسع الإقتصادي < تصدى فيه لِمَسْأَلَتَيْن إحداهما : تصوره للحد من النمو التسكاني، والأخرى : تصوره لوقف التوسع الإقتصادي بهدف تحقيق التوازن البيئي والإقتصادي.

غير أن تصور نادي روما للحد من النمو السكاني كان خاصا بدول العالم الثالث، باعتبارها مصدر الإنفجارات السكانية، ويتم هذا الحد من خلال المساعدات الاقتصادية والغذائية لهذه الشعوب أو من خلال التعقيم الجماعي، بواسطة مواد كيميائية أو فيروس مضاد للخصوبة >يُبَثُّّ في مَوَادِّّّ الطَّّعَامِ أو الْمَاء<ِ دُونَ عِلْمِ النَّاسِ.

أما إيقاف التصٍْنيع، فهو، كما يبدو، مقولة ذرائعية، الغرض منها إيقاف تصنيع خارج إطار الدول الغنية والرأسمالية، كشكل من أشكال الدفاع عن نموها الإقتصادي المتزايد، واختصاصها به، والإبقاء على النمط الحالي للتقسيم الدولي للعمل، كما هو بالمستقبل، وهو النمط الذي تجري عمليات التخصص وعمليات التبادل على نحو غير متكافئ بين دول المركز المتقدمة ودول الأطراف المتخلفة.

وها هي الأمم المتحدة في مؤتمر القاهرة تتبنى نفس الموقف المالتوسي لنادي روما وطروحاته وحلوله. وتخصص ما يقرب عن 90% من فقرات التقرير لعلاج المسألة السكانية، في حين انحصرت حصة التنمية ب10% تقريبا، وهو رقم يوحي بأكثر من دلالة، فضلا عن هذا فإن التنمية المتحدث عنها دائما هي تنمية مشروطة بمدى التزام الدول التابعة بتحديد النسل، كما أنها لا تخرج عن إطار تقسيم العمل الدولي الحاكم لإيديولوجية التنمية.

وعلى هامش هذه المفاهيم نقول إن التنمية الحقة هي في الإختيار الحر للأسر في التنظيم، ورفع مستويات عيشها، والقضاء على الجهل والمرض والفقر، وتعميم الإستفادة من الحريات العامة والإعلام والتكنولوجياعلى حد سواء بين الشمال والجنوب، وليس من الحرية والديموقراطية فرض تنميط سكاني مغرض أو إثنومركزي، كما أنه ليس من الديموقراطية في شيء تعليق المساعدات والمعونات والتنمية بشرط التعقيم الجماعي للشعوب في وقت يشجع الغرب على الولادات بدون تحديد.

هذه هي الخلفيات العنصرية والعرقية والإيديولوجية التي جعلت المواقف تتباين وتختلف، وتعلو الصيحات منددة بخطر هذه المالتوسية الجديدة، وبهذه السياسة الدولية الجديدة في تمرير حلقة جديدة من حلقات التطهير العرقي بهدف تنظيم استغلال الثروات العالمية بين الكبار فقط.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>