أمة بلا ذاكرة تاريخية أمة بلا مستقبل


أمة بلا ذاكرة تاريخية

أمة بلا مستقبل

إن قوة أية حضارة من الحضارات تكمن في مدى التوفيق بين الرؤية التاريخية والنظرة المستقبلية. فالتوفيق الطبيعي الذي يحمل بوادر البقاء والفعالية، يكمن في مدى قدرة الأمة على دراسة تاريخها ومعرفة مكانها من دورة التاريخ، وإدراكها لأسباب قوتها وضعفها. ولكن لدراسة هذا التاريخ يجب أن نعلم وندرس النقطة التي يَبْدَأ منها هذا التاريخ حتى تنسجم أفكارنا وأقوالنا وأعمالنا مع ما تقتضيه المرحلة التي تعيشها الأمة.

فعلاقة التاريخ بالمستقبل يمكن أن نشبهها بسياقة السيارة، فالسياقة لا يمكن أن تتم في ظروف جيدة إلا إذا وفَّقَ الإنسان (السائق) بين النظر إلى الخلف وإلى الأمام. ولكن النظر إلى الخلف يتم عبر مرآة صغيرة تمكنه من معرفة الخلف وتسمح له باستشراف المستقبل عبر نافذة كبيرة. هذه النافذة، لا تمكنه من معرفة الطريق الذي يسير فيه فحسب، بل إلى كل ما يحيط به. فيستطيع أن يتحسب كل ما يعترض سبيله، وكلما ابتعدت دائرة نظره كلما كان على اطلاع أوسع بكل ما يدور حوله.

وعلى ضوء هذا التشبيه يمكن أن نتساءل عن واقع العالم الإسلامي وعن نكسة الأمة الإسلامية وتراجعها الحضاري، الذي يرجع أساسا إلى الإخلال بأبسط قواعد السياقة، إذ عُكِسَتْ وسائل الرؤية إلى الماضي والمستقبل، فعوض أن تنظر إلى الماضي عبر المرآة الصغيرة، فضلت النافذة الكبيرة واكتفت في النظر إلى المستقبل بالمساحة التي تسمح به المرآة العكسية.

ويا حبذا لو أننا -ما دمنا قد عكسنا النظر حاولنا تَفَهُّمَ هذا الماضي ودراسته دراسة دقيقة متمعنة لمعرفة السنن والنواميس التي تحكمت في سيره. إذ كان جديراً بنا أيضا أن ننفض الغبار على تراثنا الذي لا زال جزء كبير منه (أكثر من 80%) مخطوطا. فذاكرة هذه الأمة لا زالت تحت الأنقاض ولا نتداول منها إلا الخمس. كان أولى بنا أن نفعل ذلك. لكننا نهجنا -وللأسف- سبيلا آخر وهو الإكتفاء بفضفضة الكلام مفتخرين بالأمجاد وحضارة الأجداد. ملتفتين دائما للخلف لإثبات هويتنا الحضارية. غافلين عن أن هذا الإثبات لا يمكن أن يتم عبر الكلام البعيد عن تجسيد المواقف وعن إحضار الذات. لأن الحضارة نفسها لا تظهر في أمة من الأمم إلا حينما يكتشف الإنسان حياته كاملة ماضيها ومستقبلها. الماضي يتمثل في استحضار المقومات الأساسية لإنشاء حضارة معترف بها، والمستقبل يتمثل في رسم معالم البناء، عندما يكتشف حياته بهذه الرؤية يكتشف معها أسمى معاني الأشياء التي يُهيمن عليها فكره ويتفاعل معها، وخصوصا المنطلقات العقدية، فأي حضارة لا يمكن أن تنبعث إلا بالعقيدة، هذه العقيدة التي تعطي الإنسان القوة، وتساعده على تسخير الكون. وبالتالي على التمكين في الأرض، هذا التمكين الذي لا يمكن أن يحصل إلا بدراسة التاريخ

واستمداد القوة منه على حدِّ قول الشاعر :

لَيْسَ بِإِنْسَانٍ ولاَ شِبْهِه     مَنْ لاَ يَعِيِ التَّارِيخَ فِي صَدْرِهِ

كما لا يمكن أن يحصل إلا بمعرفة الحاضر وفقهه من أجل استشراف المستقبل ورسم معالمه وخطوطه الكبرى، وحيث إن أفق هذا الإستشراف ضيق جدا لإنعدام الرؤيا الواضحة فإن رؤية الطريق أصبحت مُتَعَسِّّّّرَة جدا بحيث يصعب تحديد مسارها ومعرفة محيطها مما جعل الرؤية المستقبلية تكاد تكون شبه منعدمة، لانعدام التخيطيط الجادِّ لها في استقلالية متفاعلة مع المحيط، وخسارة فقدان الرؤية كبيرة جدا، تتمثل أساسا في فرض السير العشوائي الذي لا يسلم صاحبه من العطب والتلف.

أم أسامة الخليل

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>