عرفات بطل “سلام الشجعان” وخطره على الديمقراطية


عرفات بطل “سلام الشجعان” وخطره على الديمقراطية

في أجواء حصار أمني كبير وبحضور أزيد من 2500 من المدعويين احتضن قصر المؤتمرات بالقاهرة يوم 4/5/94 حفل توقيع اتفاق مبادئ الحكم الذاتي بين عرفات ورابين تتويجا لعدة شهور من المفاوضات العسيرة في شطرها الثاني الذي عرف انطلاقته المباشرة بعد توقيع اتفاق واشنطن بتاريخ 13/9/93، والإتفاق الحالي كان من المفترض أن يوقع عليه أواخر السنة الماضية لكن التماطل الإسرائيلي حال دون ذلك، وقد راهن الجانب الفلسطيني كثيرا أن يجعل من التوقيع على مبادئ الحكم الذاتي انتصارا للإرادة الفلسطينية وللحق والحلم الذي طال انتظارهما منذ عشرات السنين. لكن الذي حصل في القاهرة لم يكن حفلا بمفهوم الإحتفالية المعهودة عند العرب، بل كان في حقيقة الأمر مأثما وقع عليه عرفات بإصرار بعد طول انتظار. وهكذا أجمع الكل ما عدا الجانب الإسرائيلي وتحالفه بأن الذي حصل في القاهرة كان نكسة أصيب بها عرفات شخصيا وفريقه التفاوضي، حيث اعترفوا أنهم لم يحصلوا على ما يريدون لكنها البداية؟ بينما ذهب البعض إلى القول أنها تجربة على كل حال؟! وقد ظهر الإحباط وخيبة الأمل باديين للعيان في صفوف الوفد الفلسطيني، وارتباك في صفوف الحضور والمنظمين عندما كادت خريطة أريحا أن تفسد وتجهض العملية برمتها، لكن عرفات بعد ضغط كبير عليه وقع عليها بعد أن ذيلها  بملاحظة ؟

وهو نفس الإجراء الذي قام به رابين بدوره.ومما زاد من حالة اليأس كلمة التأبين التي ألقاها الوزير الإسرائيلي رابين أثناء تبادل الكلمات والتي تضمنت شقين: الأول بالإنجليزية لمخاطبة العالم الخارجي عن السلام وفضائله ومغازلة العواطف عن رحلة العذاب ومآسي اليهود، والشق الثاني بالعبرية لطمأنة الرأي العام الداخلي من الإتفاقية، وعلى العكس من ذلك فقد كانت كلمة الزعيم أبو عمار باردة دون أن تثير اهتمام مستمعيه ذكر من خلالها بسلام الشجعان ودون أن تفوته فرصة الإشادة والتنويه بأولائك الذين كانت لهم يد فيه!!

أما خيبة الأمل الكبيرة فقد سجلت في أوساط الشعب الفلسطيني الذي عبر عن استيائه العميق من الإتفاقية ولنتائجها الهزيلة، وفي هذا الإطار عاشت الأراضي المحتلة وبالخصوص في غزة حدادا وطنيا لمدة يومين استجابة لدعوة وجهتها حركة حماس إلى الجماهير الفلسطينية للتعبير عن إدانتها واستنكارها لإتفاق القاهرة. وقد لاقت هذه الدعوة استجابة واسعة ولم يؤثر عليها سوى التطور المفاجئ الذي أعقب الإتفاق المتمثل في الإفراج عن بضع عشرات من المعتقلين من أنصار السلام مع إسرائيل حيث خرج أهلوهم وأقاربهم لإستقبالهم، وذلك في وسط أجواء من اللامبالاة واللااكتراث بما يجري في القاهرة لأنهم سئموا من كثرة الوعود والأقوال بدون أن يتحقق لهم شيء ملموس، سيما وأن مسار المفاوضات الذي سبق التوقيع عرف منزلقا خطيرا من كثرة التنازلات من جانب الوفد الفلسطيني فيما يتعلق بالقضايا التي كان يراهن عليها أن تكون مكسبا له لتدعيم موقفه وتلميع صورته قبل شد الرحال إلى أريحا حيث يطيب المقام في عاصمة الكيان الفلسطيني الجديد.

لكن ما أثار الإنتباه ردود الفعل السلبية والفاترة من طرف الدول المشاركة في عملية السلام من الإتفاق المنفرد الذي أبرمه ياسر عرفات حيث رأت في هذه الخطوة خروجا عن الإجماع والتنسيق بينهم، لكن ما تجب الإشارة إليه أن هذا التحامل على عرفات من طرف هذه العواصم العربية ناتج من إحساسها أن عرفات خذلها وكان له فضل السبق عليها، في توقيع اتفاق السلام مع العدو الإسرائيلي هي نفسها مقبلة على توقيعه بدورها… ولهذا ما الفرق بين الذي وقع اليوم والذي سيوقع غدا؟ وبين الذي وقع منفردا أو وقع جماعة إذا كان الحق العربي يضيع في متاهات السلام المشؤوم مع اليهود؟

تضحيات  جسيمة  ونتائج  هزيلة.

يمكن القول أن هناك شبه إجماع على أن اتفاق غزة /أريحا أولا الموقع عليه في القاهرة كان دون الحد الأدنى الذي انتظره فلسطينيو الداخل  دون الحديث عن فلسطينيي الشتات لكونهم مقصيين من مذكرة السلام العرفاتية، حتى وإن حصل ذلك فإن الإهتمام يقتصر على عناصر حركة فتح الذين يؤمل منهم قيادة المرحلة المقبلة بأراضي الحكم الذاتي، لذلك وبقدر ما يراود البعض الأمل في كون الإتفاق بصيغته الحالية يشكل لبنة أولى في الإتجاه الصحيح، للخروج من مرحلة الشعارات المثالية إلى مرحلة الأفعال الواقعية، فإنه على النقيض من ذلك ترى فيه حماس ومعها الجبهة المناهضة لاتفاق السلام مع إسرائيل كارثة جديدة حلت بالشعب الفلسطيني وآياتها في ذلك ما يلي :

1- هزالة نتائج الإتفاق ترجع أصلا إلى ضعف موقف المنظمة التفاوضي مع إسرائيل منذ بدء عملية السلام بمدريد. فهي لم تكن تملك من أوراق الضغط إلا ورقة الإنتفاضة المباركة والتي خسرتها بعد دعوة عرفات أنصاره لوقفها. ولم ينقذ ماء وجهه وعزز موقفه التفاوضي إلا جريمة الحرم الإبراهيمي للإرهابي المتطرف باروخ كولد شتاين يوم 25 فبراير الماضي، حيث لم يكن هناك من بد أمام عرفات إلا ركوب موجة الجماهير الغاضبة، والظهور بموقف المفاوض العنيد.

2- إذا كانت إقامة سلطة حكم ذاتي محدود على مساحة لا تتعدى 2% من الأراضي الفلسطينية المحتلة استغرقت ما يزيد عن سنتين ونصف من المفاوضاات وتقديم تنازلات لا حصر لها، فإن على  الفلسطينيين انتظار أكثر من ستين سنة أخرى لإسترجاع ربع أراضيهم مع مزيد من التنازلات لإقامة كيان وفق مقاسات السيد أبو عمار الحالية.

3- إصرار الجانب الإسرائيلي على عدم التنازل لفائدة المنظمة على أي شكل مهما كان بسيطا يمكن أن تعتبره رمزا من رموز السيادة للدولة الفلسطينية التي تحلم بإقامتها بعد الفترة الإنتقالية كإصدارجوازات سفر، أو تسمية عرفات بلقب رئيس الدولة، أو إقامة شرطة فلسطينية بزيها العسكري على جسر ألمبي/الملك حسين على نهر الأردن …

4- تضمين اسرائيل الاتفاق بندا يحمل في طياته بوادر نسفه، عندما أعطت لقواتها حق التدخل بمناطق الحكم الذاتي لاستتباب الأمن عند حدوث اقتتال فلسطيني/فلسطيني، وحينئذ سيكون لها مبرر إلغاء الإتفاق والإعلان في وسط الرأي العام الدولي أن الفلسطينيين غير قادرين على تسيير أنفسهم بأنفسهم في إطار حكم ذاتي فبالأحرى إعطاؤهم حق إقامة دولة.

5- السلطة الجديدة بغزة وأريحا عليها الإجابة عن الأسئلة الإسرائيلية والتعاون معها، وأخذ موافقتها المسبقة حتى في أدق الأمور في إطار سلطة الوصاية الإسرائيلية، وهذا ما يجعل من موقف عرفات شبيه بوضعية “عمدة” مدينة، وبالنسبة للجانب الإسرائيلي سيرى في ذلك احتلالا بالوكالة أو بالأحرى احتلالا نظيفا بأقل تكلفة.

وبالإضافة إلى هذه المساوىء للاتفاق الحالي، فإن ما يستقطب اهتمام المتتبعين هي طبيعة المرحلة التي ستعقب استلام ياسر عرفات سلطة الحكم الذاتي ومصير الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة وحق المعارضة… باعتبارها المطالب الأكثر إلحاحا لدى الجميع.

الديمقراطية  المهددة  بالوأد  والاغتيال.

إن المخاوف التي يثيرها البعض على مستقبل الديمقراطية بأراضي الحكم الذاتي من مصادرتها واغتيالها من قبل الادارة الجديدة بقيادة ياسر عرفات لها ما يبررها خصوصا من لدن القوى الرافضة لعملية السلام وفي مقدمتها حركة حماس الإسلامية. وما يعزز من مخاوفها الطريقة الفجة التي تمرر بها القرارات وتداربها الأمور من قبل ياسر عرفات حتى قبل تمكينه من سلطة الحكم الذاتي بغزة وأريحا والتي نعرض لها في المحطات التالية.

1- تسريع الطرفين (عرفات وإسرائيل) بالتوقيع على اتفاق مبادىء الحكم الذاتي هدفه الأساسي قطع الطريق على حماس  التي زادت شعبيتها إلى الحد الذي يهدد آمالهما وطموحاتهما على السواء.

2- الخطر الذي سيشكله وجود ما يناهز 9 آلاف شرطي (مقاتلين سابقين) من أنصار ياسر عرفات بأسلحتهم على حرية الأفراد والجماعات، ويضاف إليهم عدد غير محدد من رجال المخابرات والعملاء مع العلم أن مهمة هذه الشرطة الفلسطينية حفظ الأمن الداخلي دون الخارجي لأن إسرائيل تكفل ذلك نيابة عنها.

3- الميول الدكتاتورية للزعيم ياسر عرفات في تسيير أمور المنظمة، واستبداده في اتخاذ القرارات المنفردة، دون الرجوع إلى زملائه، وقد كان انكشاف محادثات أوسلو بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، فبينما كانت تجري محادثات رسمية وعلنية يقودها حيدر عبد الشافي بواشنطن، كان عرفات يدير محادثات سرية بالنرويج مع إسرائيل، والتي لم يكن يعلم بها إلا عدد قليل من المقربين لعرفات لا يتعدى عددهم رؤوس الأصابع، وهذا ما جر على عرفات انتقادات حتى من أوساط الشخصيات الأكثر ولاءا له.

وقد دفعت بالبعض منهم إلى تقديم استقالته احتجاجا على هذا الوضع. وقد رأى البعض في الخطوة التي أقدمت عليها حنان عشراوي بتأسيس جمعية للدفاع عن حقوق الإنسان وهي التي كانت ناطقة باسم الوفد الفلسطني المفاوض بواشنطن ومقربة من عرفات شعورا واضحا منها لما ستؤول إليه حقوق الإنسان من ترد. ومما زاد من هذه الإحتمالات التعيينات في المناصب الهامة بمنطقة الحكم الذاتي دون الإنتظار والمرور بالعملية الإنتخابية باعتبارها الفيصل في هذه الأمور.

4- وبالإضافة إلى ما سبق ذكره، فإن الكثير يتساءل عن الأفق الذي سيمسح به عرفات للمعارضة في الوجود وحق ممارسة نشاطها في مقاومة الإحتلال الصهيوني والمتعاونين معه. خاصة إذا علمنا أن لعرفات جولات من الصراع مع هذه المعارضة قبل التوقيع على اتفاق القاهرة وهي ذات مستويين :

- المستوى الأول : بين المنظمة -وخاصة الفصيل الرئيسي فيها المتمثل في فتح- والحركات التي كانت في خط واحد معها(قومية-شيوعية-وطنية…) لكن معارضتها لعملية السلام وتمرد بعضها على سلطة عرفات أدت بهذا الأخير إلى إعلان حرب عليها أحيانا، والإفتراء عليها بالكذب احيانا أخرى لإظهارها بمظهر المنظمات الإرهابية إيمانا منه أن من شأن ذلك تلميع صورته لدى إسرائيل والدول الغربية، حفاظا على مكانته لديهم كمفاوض يحظى بالقبول. وهذا ما نجح فيه إلى حد بعيد بشهادة الجميع.

- المستوى الثاني : بين المنظمة والحركات الإسلامية تحديدا (حماس) باعتبارها أقوى الحركات العاملة بالداخل حيث لم يدخرجهدا، في فتح صراع مباشرسواء بالإغتيالات التي طالت بعض رموزها في الداخل او بالتضييق على تشاطها ونشطائها لافساح المجال أمام العملية السلمية لتأخد المسار الذي رسم سلفا من طرف إسرائيل.

وفضلا عن ذلك عرفات قد يتعرض لضغوط من طرف إسرائيل والغرب للقيام بالمهمة القذرة نيابة عنهما في محاربة الأصولية والتطرف -على حد زعم الغرب- لأن من شأن ذلك تسهيل مأموريته لاقامة الدولة العلمانية التي طالما راوده حلم إقامتها على أرض فلسطين.

وخلاصة القول، إن عرفات وفريقه السلطوي لا يخفى عليهم، أن شعب فلسطين الذي ناضل من أجل الحرية والإستقلال. وقدم في سبيلهما قوافل الشهداء منذ ثورة القسام إلى انتفاضة أطفال الحجارة فإنه لن يقبل بغيرهما كاملين غير منقوصين. وبالنتيجة فكل الشعب الفلسطيني يتوق أن يرى ويعيش ديمقراطية حقيقية وحريات عامة مصانة وتداول على السلطة وانتخابات حرة ونزيهة وحق المعارضة في الوجود والمشاركة…

فإلى أي حد يكون عرفات في مستوى هذه التحديات؟ ويكذب ادعاءات رفاقه وخصومه على السواء؟ ويحقق آمال أحلام الشعب الفلسطيني؟

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>