روافد التعليم الأصيل بين الماضي والحاضر والمستقبل ذ.محمد الرزكي في ندوة ” التعليم الأصيل : الواقع والآفاق.”القى السيد محمد الرزكي محاضرة تحت عنوان “روافد التعليم الأصيل بين الماضي والحاضر والمستقبل “وأشار في مستهلها إلى أن بلادنا لم تعرف قط تعليما غير التعليم الأسلامي الأصيل، الذي نبغ فيه كثير من علمائنا الأجلاء في مختلف فروع العلم والمعرفة أمثال : القاضي عياض اليحصبي، وأبي عمران الفارسي، والشريف الإدريسي وابن النباء، وابن خلدون وغيرهم من الأعلام الأفذاد. ثم نبه إلى ما قام به دهاقنة الإستعمار من مكائد للإجهاز على مقوماتنا المختلفة، وفي مقدمتها تعليمنا الأصيل، لولا تضحيات المخلصين من أمتنا. وعن التراجع الذي أصاب التعليم الأصيل منذ السبعينات إلى يومنا هذا، أكد أن أسبابه تعود إلى ما عرفته الساحة التعليمية من اضطراب وتردد في مسألة التعريب.لكونها كانت ضحية لمبدأ التوحيد الذي كان الجميع ينادي به، لأنه كان على حسابها وبسببها بتر منها التعليم الإبتدائي فاضطربت أحواله. ثم انتقل السيد المحاضر إلى إعطاء مجموعة من الإحصاءات عن عدد الملتحقين بالتعليم الأصيل في أطواره الثلاثة قبل الباكلوريا على الشكل التالي: -بالنسبة للإبتدائي : كان عدد المسجلين فيه يتراوح ما بين 2000و2700 بين سنتي 79/80 و86/87 ثم يبدأ في الإنحدار ليصل في سنة 92/93 إلى نحو 900 تلميذ. -بالنسبة للإعدادي : كان عددهم 13000 سنة 81/82 وانخفض إلى 4000 سنة 92/93 أما الطور الثانوي : فقد بقي متوازنا بعض الشيئ من 81/82 إلى سنة 88/89 حيث تراوح العدد ما بين 6200 و5000. ثم نزل إلى نحو 4300 ليرتفع بعد ذلك إلى نحو 6500 سنة 92/93 منتعشا بتوجيه قلة من تلاميذ التعليم العام إلى السنة الأولى من الطور الثانوي. وتساءل الأستاذ المحاضر عن الجهات المسؤولة عن هذا الخلل؟ وما العمل لرد الإعتبار إلى هذا التعليم؟ وما هي الأطراف التي يمكنها أن تساهم بفعالية لتصحيح الوضع؟ فقال : >قبل الإجابة عن هذه الأسئلة وما شابهها من الأسئلة الأخرى أقول : وصراحة، وصدق، وعن اقتناع : إنه يوجد هنالك تناقض واضح بين واقع التعليم الأصيل المتأرجح، وعلى أكثرمن صعيد، والذي مهما تسامحنا، أو تساهلنا في شأنه، فإنه لا يمكن أن يقال بصدق : إنه واقع يُطمأن إليه، وبين تصريحات أمير المؤمنين في مختلف المناسبات، والذي تعكس اهتمام جلالته بهذا التعليم، ورعايته لشؤونه. ومما يؤكد هذا التناقض أولا أن مؤسسات هذا التعليم الأصيل لا وجود لها في أقاليم كثيرة، وذات أهمية كإقليم الرباط وإقليم البيضاء مثلا، رغم الطلبات الكثيرة للمواطنين، والمجالس البلدية والقروية، وعمال الأقاليم، ورغم رغبة آباء وأولياء التلاميذ الذين يحفظون القرآن الكريم، وحتى إن وجدت فإننا لا نجد أكثر من مؤسسة واحدة في الإقليم إذا استثنينا فاس ومراكش ومكناس، وهذا أمر يصعب معه التحاق التلاميذ الصغار بالمؤسسات الأصيلة عمليا أذا لم يشجعوا بالمنح والمأوى، مع ملاحظة أنه ببعض تلك المؤسسات تلاميذ للتعليم العام يساوي أو يفوق تلاميذ التعليم الأصيل. ثانيا : أن أعداد التلاميذ الملتحقين بهذا التعليم قليلة، وغير قارة -كما لاحظنا فيما تشير إليه جداول الإحصاء، وجلهم الآن لا يحفظ القرآن، ولا يتوفر على المواصفات المطلوبة لتكوين العالم المتضلع المتفتح حتى يكون في مستوى الشيوخ الذين أنجبهم تعليمنا الأصيل. ثالثا : أن أغلب داخليات التعليم الأصيل قد أغلقت، وفوت تجهيزها إلى مؤسسات وجهات أخرى، مما كان له تأثير سلبي على المؤسسات التي كانت بها، وبالتالي على أبناء المنطقة بكاملها. يحمل هذا وغيره من السلبيات في الوقت الذي نجد برامج التعليم الأصيل تعد أحسن البرامج حيث تجمع بين الأصيل والحديث الجديد بشكل لا نجد ما يشبهه أو يقاربه في البرامج الأخرى، ففيها حصص اللغات، والرياضيات، والعلوم الفيزيائية، والإجتماعيات والرياضة البدنية بنفس العدد والحصص والمعاملات الموجود في التعليم العصري، وتتفوق في المواد الإسلامية بحصصها ومعاملاتها. وفي الوقت الذي نجد فيه أن الكتب التي ألفت لهذا التعليم، والتي تؤلف، ترقى إلى المستوى المرغوب للكتاب المدرسي، حيث تتجه بالمتعلم إلى أن يعرف ما له، وما عليه، في أمور دينه، وأمور دنياه، وأن يلتزم بذلك في انسجام تام مع ما يفرضه علينا ديننا الحنيف، ونجده كذلك في الوقت الذي حققت فيه اللقاءات المختلفة التي نظمتها وأشرفت عليها مديرية التعليم الأصيل، منذ بداية العمل بالتعليم الأساسي، سواء على المستوى المركزي أو الجهوي، -كامل النجاح ولله الحمد. ونجده أيضا في الوقت الذي لا تبخل فيه وزارتنا الموقرة بتغطية النفقات التي يتطلبها الأمر سواء في البنايات والإصلاحات، أو في التأطير والتغدية لخلايا التأليف، واللقاءات التربوية والإدارية كما تأكد ذلك منذ سنوات. -أذن، من أين يأتي الخلل؟ في نظري -يأتي من الناس لا يعرفون مزايا التعليم الأصيل، وما يجنيه الملتحقون به من فوائد علمية وأخلاقية واجتماعية ودينية لا يستطيع أي تعليم آخر أن يحققها، لأن المستعمر ودهاقنته عملوا بوسائل جهنمية للقضاء على هذا التعليم وتشويه نظرة الناس إليه ولذلك سمى اليوطي جامعة القرويين بالبيت المظلم. -أن أمر هذا التعليم مضطرب للأسباب التي أشرنا إليها، وذلك لا يجعل الناس يطمئنون إلى مستقبل أولادهم فيه. -تقصيرنا في تعريف الناس بحقيقة ومزايا التعليم الأصيل، وفي توجيه أبنائنا وبناتنا إليه بالقدر والمستوى المطلوبين، لأسباب مختلفة، في مقدمتها بُعْدُ المؤسسات الأصيلة عنا، ولا سيما حين يكون الأطفال صغارا، فإذا ما كبروا في التعليم الآخر صعب عليهم أن يلتحقوا بالتعليم الأصيل. -تقصير مصالح الخريطة المدرسية بالوزارة، ومصالح التوجيه بالنيابات الإقليمية في الدعاية وتنوير الرأي العام بمزايا التعليم الأصيل، وفي توجيه الأعداد ذات المواصفات المطلوبة إليه بالقدر الكافي الذي يتجاوب مع الأطر الكفأة، والمقاعد، والحجرت المتوفرة بالتعليم الأصيل. وإذن فالمسؤولية عامة يتحملها خريجو هذا التعليم كما تحملها شيوخنا وشيوخهم من السلف الصالح ونجحوا فيها، ويتحملها العلماء في إطار رابطة علماء المغرب، وجمعية العلماء خريجي دار الحديث الحسنية كما تتحملها وزارة التربية الوطنية ممثلة في المصالح التي لها ارتباط بتعليمنا الأصيل، وطبعا تأتي في المقدمة مديريتنا مديرية التعليم الأصيل. وهنا أقول : -وهذه شهادة عشتها منذ سنوات- إن مديرية التعليم الأصيل قدمت مقترحات في مختلف المناسبات وبالخصوص في تقاريرها لمخططات المسار الثلاثة الأخيرةمن شأنها -لو طبقت-أن تقيل عثرة مدرستنا الأصيلة، ولكنه إلى الآن لم ينفذ منها إلا القليل، ولو نفذت لكانت أحوال تعليمنا الأصيل أحوالا أخرى. -ولتدارك الموقف، ورد الإعتبار إلى تعليمنا الأصيل الذي أثبت جدارته على مر السنين وتقلبات الظروف والذي له من الصفات ما نتمكن به من الثبات والصمود أمام الغزو الحضاري الذي يستهدف أبناء المسلمين -أقول : لتدارك الموقف ورد الإعتبار يجب أن تحقق المطالب الآتية، وهي مطالب ليست مستحيلة ولا صعبة المنال إذا صلحت النيات : أولها : أن يوجه إلى التعليم الأصيل الأطفال الذين وصلوا إلى سن التمدرس ليتابعوا دراستهم فيه منذ البداية ببرامج خاصة تؤهلهم للتدرج في أطواره بنجاح. ثانيهما : أن يوجه إليه حفظة القرآن الذين فاتهم سن التمدرس، وتقل أعمارهم عن أربعة عشر سنة، والذين كانوا دائما يلتحقون بالتعليم الأصيل ويثبتون جدارتهم. ثالثها : أن تخصص في كل الأقاليم أقسام لصالح التعليم الأصيل بالمدارس العصرية في الطرين الأساسيين وفي الثانوي، أو تبنى له ليسهل التحاق الراغبين في التعليم الأصيل بها، ولا يحتاجون حينئذ إلى المنح ولا إلى الداخليات. رابعهما : أن تكون هناك من التعليم العصري إلى التعليم الأصيل على الأقل في الظروف الراهنة ابتداء من سنوات الطور الأساسي الأول، فسنوات الطور الثاني، فالثانوي، وَفْقَ مواصفات تحددها المذكرات الوزارية، على غرار ما عندنا فعلا منها. حتى تسير الأمور في وضوح وشفافية ودقة. خامسها : أن تفتح في التعليم الأصيل الشعب التي لا توجد فيه إلى جانب الشعب الثلاث الموجوبة به، حتى يتجه كل تلميذ إلى الشعبة التي يتفاعل مع موادها، وحتى لا تقل أمامه السبل والفرص، مع الحفاظ على ما يُعَدُّ من المقومات فيها جميعها وأن يكون التوجيه إلى مختلف الشعب في وقت واحد. سادسها : أن تتكلف وزارة التربية وجهات أخرى كالأوقاف، والمجالس الممثلة للأمة، والمحسنين الأغيناء بالمنح والمأوى لمن هم في حاجة إليها لفقرهم، ولبعدهم عن أوليائهم سابعها : أن تشارك المجالس البلدية والقروية ومجالس العمالات وباقي الهيآت والجهات التي تساهم عادة في شؤون المدرسة والتمارس بكل ما من شأنه أن يجعل هذا التعليم يتغلغل بين طبقات الأمة ويخدم مصالحها كما فعل طيلة تاريخنا المجيد. ثامنها : -أضيف أيها السادة- إلى هذا وذاك من المطالب أن يتخذ قرارٌ سياسيٌّ واضح من الجهات المسؤولة العليا عن التعليم لصالح تعليمنا الأصيل، وقد حان وقته، وتأكد صدوره، نظرا لما نشاهده من الإنحلال، والإنحراف، والإستلاب ، وهي انحرافات خطيرة ومدمرة ما كنا لتعيشها لو كانت مدرستنا الأصيلة متمكنة بين طبقات شعبنا بمثلها وقيمها وأخلاقها الإسلامية النظيفة ويحتل المتخرجون فيها المناصب والمسؤوليات التي لها تأثير في توجيه الرأي العام لدى المواطنين. إذ بصدور ذلك القرارالسياسي الواضح، والذي يُفرض احترامُه على الجميع، لا يبقى لأي جهة، أو مسؤول مجال من التهرب من القيام بما يلزم وإلا فإن مستقبل التعليم الأصيل سيبقى غامضا ومعرضا لمثل ما تعرض له من قبل من المعوقات والأزمات، وهولا يدري مسببها ولا من لهم ضلع فيها، وإن اكتوى بحريقها ويصدق عليه المثل : “ألقاه في اليم مكتوفا وقال :إياك أن تبتل بالماء” -ومع تمنياتنا بالتوفيق والنجاح لجمعيتنا في أعمالها وتوجهاتها وللنشيطين فيها والمدعمين لها. ودعائي بالسداد والهداية مصداقا لقوله تعالى : (والذين جاهدوا فيها لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.<