الدلالات السياسية لإقالة الشرفي


الدلالات السياسية لإقالة الشرفي

أجري تعديل وزاري جزئي يوم30 ماي من الشهر الفارط تم بموجبه إقالة وزير التربية والتعليم محمد الشرفي المعروف بتوجهاته الفرنكوشيوعية بعد ما يقارب الخمس سنوات من توليه هذه المهمة على إثر الإنتخابات التشريعية لشهر أفريل من سنة 1989 والتي أفضت إلى اختلال واضح في ميزان القوى لصالح التيار الإسلامي الذي أصبح القطب الرئيسي في عملية الإستقطاب السياسي بحيث لم يعد السياج الوقائي للتجمع الدستوري وريث الحزب الدستوري الذي انفرد بحكم تونس منذ سنة 1956 قادرا على ضبط حدود اللعبة والتحكم في مساراتها.

وقد انتهت صدمة الإنتخابات هذه إلى إعادة فرز وتركيب مفردات الساحة السياسية والثقافية ضمن محاور تكتل جديدة سمحت بتشابك المواقع والمصالح بين بعض نخب اليسار والحزب الحاكم. وهو تحالف أملته جملة من المصالح المشتركة أهمها الحرص على الحفاظ على الإرث العلماني للدولة البورقيبية الذي أصبح عرضة للنقض من طرف التيار الأسلامي الصاعد ثم إدارة معركة ضد خصم سياسي وإديولوجي مشترك في وقت أرادت فيه هذه النخب التي أحبطتها التحولات الهائلة للمعسكر الشيوعي أن تجعل من الدولة قاعدة أمامية ورأس حراب في مواجهة التيار الإسلامي مقابل وضع خبراتها السياسية وأرصدتها الرمزية والفكرية تحت تصرف الآلة الأمنية لتفكيك الغام الملف الإسلامي.

ولكن يبدو أن ما بين سنتي 49 و94 قد حصلت متغيرات سياسية وأمنية داخلية وأخرى إقليمية ودولية هائلة أهمها أن المرحلة الأولى التي سمحت بإدارة لعبة توزيع المواقع ومد يد العطايا والغنائم قد تغيرت معطياتها في وقت أبدى فيه بن علي نزوعا تاما نحو التنميط وفرط الإنضباط الأمني على الجميع بما في ذلك داخل أجهزته ووزرائه خاصة بعد تداعيات سقوط الخيارالديمقراطي في الجزائر وفي وقت تعاظم لديه الشعور بأنه أصبح قادرا على فرض الإجماع حول شخصه طوعا وكرهاوبنسبة 99.99% دون حاجة إلى وسائط أخرى.

يمكن تفسير الإقدام على الإقالة في هذا الوقت بالذات بظهور بعض المؤشرات السياسية ذات الدلالة لعل أهمها تزايد مخاوف الجنرال من تضخم حجم وزيره خارج إطار الخطوط الحمراء المسموح بها بسبب اتساع أنسجة خيوط ارتباطاته بدوائر سياسية عديدة خاصة مع الديبلوماسية الفرنسية التي باتت تنظر إليه بعين الرعاية باعتباره الرصيد المتبقي لتثبيت المصالح الثقافية والسياسية الفرنسية في وقت بدأت تفقد فيه حلقات امتدادها التقليدية الواحدة تلوى الأخرى.

أما العامل الثاني الأكثر بروزا فيعود إلى تخوف بن علي من إمكانية بروز بعض النتوءات في الدوائر المحيطة به من طاقم أجهزته ورجاله خصوصا بعد العريضة التي أمضاها عدد من الجامعيين والعمداء تطالب برفع الحظر عن حرية الصحافة الداخلية والخارجية والتي تلت عريضة سابقة تحمل إمضاء117 إمرأة من جمعية “النساء الديمقراطيات” محذرة من مخاطر تضييق الحريات العامة على “مشروع الحداثة والتقدم” والتي تعد من الجهات المعروفة بارتباطاتها الوثيقة بوزير التربية، وهو ما يفسر المسارعة بإلغاء هذه التناقضات بشكل مبكر خشية أن تتحول إلى مجال اختراق وشروخ عميقة داخل أنسجة النسق الذي حرص بن علي على إحكام غلق كل منافذه وأبوابه. يضاف إلى ذلك سبب آخر يعود إلى طبيعة الإختلاف في ترتيب الأولويات بين الرجلين فما هوغاية عند بن علي لا يعدو أن يكون سوى وسيلة عند الشرفي والعكس صحيح.

فإذا كان الأول بحكم تكوينه ومزاجه العسكري قد جعل من الدولة وتحديدا أجهزتها الأمنية والإستخبارية  مركز اهتماماته ورهاناته ولم ير في نخب اليسار التي أحاطته سوى إحدى قطع جهاز يمسك دواليب التحكم فيه وقادرا على إعادة تركيبه أو تفكيكه قطعة قطعة وفي الوقت الذي يشاء. فإن الثاني يعتبر آلة الدولة أداة ووظيفة لمواجهة الخصم الإسلامي مرحليا ثم الأهم من كل ذلك هو الحفاظ على ثوابت الإرث العلماني اللائكي والعمل على تجذير أسسه من خلال برامج التربية والتعليم والملف الثقافي عموما. ولكن من المهم أن نلفت الإنتباه هنا بأن الآلة الأمنية تظل كتلة صماء لا تعرف التمييز بين الحدود والفواصل وتنزع نزوعا جامحا نحو التهام كل من يقف أمامها بما في ذلك الأصدقاء بعد حسن توظيفهم واستخدامهم وهي منهجية معروفة غالبا ما تلجأ إليها الدكتاتوريات في معرض مواجهتها لخصومها وذلك من خلال العمل على لف بعض الأطراف حولها إلى غاية استنفاد أغراضها ثم الإلقاء بها جانبا أو فتح أبواب السجون والمعتقلات أمامها وتجربة عبد الناصر مع الشيوعيين أثناء صراعه مع الحركة الإسلامية ليست عنا ببعيدة.

بقلم رفيق عبد السلام

عن نشرة “تونس الشهيدة” عدد 6

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>