رأي للمناقشة 3/3] مواقف الدعاة والمصلحين من المرحلية في الدعوة النبوية وتنزيلها على المجتمعات الاسلامية إثبات التشريع في العهد المكي


رأي للمناقشة 3/3]

مواقف الدعاة والمصلحين من المرحلية في الدعوة النبوية وتنزيلها على المجتمعات الاسلامية

إثبات التشريع في العهد المكي :

> بقلم : ذ. عبد رب النبي عالم

1- شؤون المال والاقتصاد

أرشد القرآن الكريم في آيات كثيرة نزلت بمكة إلى الأصول التي ترتكز عليها حياة المجتمع الاقتصادية والمالية وبين أن ذلك نعمة منه وتفضل (البقرة 29 – الإسراء 70 النحل 10-15) وأن هذه النعمة المبسوطة على بعض والمقبوضة عن آخرين إنما هي ابتلاء وامتحان للإنسان : أيشكر فيومن وينفق أم يكفر فيجحد ويمسك. ونعى على الأغنياء والزعماء والمترفين كثرة تفاخرهم وتكاثرهم بالأموال والأولاد منذرا لهم بأن ذلك كله لن يجديهم في الآخرة نفعا (الأنعام 94 – الكهف 46 – الهمزة – سبأ 35-36 الخ.

وأعطى مبادئ عامة في الانفاق (الإسراء 26-27-29- الفرقان 67) ومدح المنفقين في غير ما آية (سبأ 39- فاطر 29- إبراهيم 31) وقرر أن في مال المؤمن حقا معلوما للسائل والمحروم (المعارج 22-34- الذاريات 19 – المؤمنون 4)، ونعى على الذين لا يحضون على طعام المسكين ويَدُعُّون اليتيم (الماعون، الحاقة 34، المدثر 44 الفجر 18) وبين الأموال المحرمة التي لا يجوز أخذها ولا التصرف فيها كمال اليتيم (الإسراء 34)، وأمر بإيفاء الكيل وبالعدل في الوزن (الإسراء 35)، وحرم الربا فقال : “وَمَا آتَيْتُم مِنْ رِبًا لِتُرْبُوا فِي أَمْوَالِ اَلنَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِنْدَ اَللَّهِ، وَ مَا آتَيْتُمْ مِنَ زَكَاةِ تُرِيدُون وَجْهَ اَللَّهِ فَأُوْلَئِكَ  هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ” (الروم 39).

وكان المسلمون بتوجيه من القرآن الكريم يَدْعُونَ اَلْكُفَّارَ إِلَى الانفاق على الضعفاء والمعوزين فكانت إجابات الكافرين : “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ قَالَ اَلذِين كفروا للذين آمَنُوا : أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اَللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُم إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُبيِنٍ” (يس 47) وأمر المؤمنين بأداء الزكاة والآيات في ذلك كثيرة،(وَأَوْعَدَ اَلْمُشْرِكِينَ اَلذِين لا يُؤْتُون اَلزَّكَاةَ (فصلت 7) وَنَعَى عَلَيْهِم حُبَّ المال وأَكْلَهُم للتُّرَاثِ  (الفجر 18) وَمَدَحَ الذِين يَفُكُّونَ اَلرِّقَابَ وَيُطْعِمُونَ اَلْفُقَرَاء وَ اَلْمَسَاكِين (البلد).

فمن مجموع هذه الآيات التي نزلت بمكة يستفاد ما يلي :

- أن عرض مبادئ الاقتصاد الإسلامي أمرٌ لاَ غُبَارَ عَلَيْهِ بَلْ إِنَّهُ ضَرُورَةٌ وَاقِعِيَّةٌ وواجبٌ شرعيّ حتى في مرحلة الاسْتِضعاف.

- أَنّ رَفْعَ رَايَةِ اَلدِّفاع عن المحرومين والمُعْوزين والضعفاء واجبٌ إِسْلاَميٌّ حتى قَبْلَ قِيامِ دَوْلَةِ الإسْلاَمِ (كالدِّفَاعِ عَنْ حُقُوقِ اَلْعُمَّالِ والحِرَفِيّين الصِّغار وَغَيْرِهِمْ).

- أَنَّ تَأْسِيسَ اَلْمُؤَسَّسَاتِ لِتَحْقِيقِ هَذِهِ اَلْأَعْرَاضِ شَيْءٌ نَبِيلٌ بَلْ وَمَفْرُوض.

ومن هنا يَظْهَرُ خَطَأُ الذين يَظُنُّونَ أَنَّ عَرْضَ مَبَادئِ الإسلام الاقتصاديَّةِ لا مَكَانَ لَهُ فِي هَذِه المَرْحَلَةِ، وَ خَطَأُ الذِين يعْتقدون أن تَبَنِّي قَضَايَا اَلضُّعَفَاءِ وَ اَلْفُقَرَاءِ وَ الدِّفَاعِ عنها هو حَرَكَةٌ فِي سَبيِلِ الخُبْزِ وَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ.

إِنَّ اَلْقُرْآنَ اَلْكَرِيمَ كَمَا رَأَيْنَا قَدْ حَمَلَ حَمْلَةً شَعْوَاءَ عَلَى اَلْكُبَرَاءِ وَ اَلزُّعَمَاءِ الذِين لاَ يُبَالُونَ بِاَلْفَقِيرِِ وَ المُحْتَاجِ ويَسْتَغِلُّونَهُ وَ يُعَامِلُونَهُ بالربا وَلاَ يُعْطُونَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِذَا احْتَاجَ، وَلاَ يُطْعِمُونَهُ إِذَا جَاعَ، فَإِنْ فَعَلُوا مَرَّةً فَلِأَغْرَاضٍ دنِيئَةٍ.

2- قضايا الحكم والسياسة والنقابة :

ارتباط القيادة بالقاعدة  ارْتِبَاطٌ عَقْدِيٌّ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ  آيات سورة الأنعام (51-53) والكهف (28-29) تُلْهِمُ أَنَّ أَىَّ مُحَاوَلَةٍ لِفَكِّ هَذَا الارْتِبَاطِ يَنْبَغِي إِجْهَاضُهَا وَاَلامْتِنَاعُ مِنَ اَلاسْتِجَابَةِ لَهَا، وَأَنَّ كَلَّ مُحَاوَلَةٍ لَكَسْبِ مَنَافِعَ دُنْيَوِيَّةٍ عَلَى حِسَابِهَا هُوَ ضَلاَلٌ وَغَيٌّ، وَأَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي اَلتَّأَثُّرُ بِعُرُوضِ الظَّالِمِينَ اَلْمُغْرِضِينَ وَإِغْرَاءَاتِهِمْ، وَأَنَّ تَرْبِيةَ اَلْمُسْتَجِيبِ مِنَ اَلضُّعَفَاءِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى دَعْوَةِ اَلْكُبَرَاءِ حَتَّى وَلَوْ ظَهَرَ مِنْهُمْ بَعْضُ اَللِّينِ (عبس) إِذَا كَانُوا يَرْغَبُونَ فِي طَرْدِ هَؤُلاَءِ اَلضُّعَفَاءِ، فَتَرْقِيَةُ  اَلْقَرِيبِ أَوْلَى مِنْ دَعْوَةِ اَلْبَعِيدِ.

هَذَا وَلَقَدْ أَرَادَ اَلْقُرْآنُ اَلْكَرِيمُ أَنْ يَنْزِعَ مِنْ قُلُوبِ اَلأَتْبَاعِ من ضُعَفَاءِ اَلْمُشْرِكِينَ تِلْكَ اَلْهَالَةَ التي تحيط بزُعَمَائِهِم وتلك الرَّهْبَةَ التي تملأُ صدُورَهُمْ منهم؛ فَقَدَّمَ صُوَراً ناطِقَةً تكرّرَتْ مَشَاهِدُهَا في سُوَرٍ كثيرةٍٍ من القرآن بها فُصُولٌ نَاصِعَةٌ من المُحَاجَّةِ بين اَلزُّعَمَاءِ والضعفاء في النار؛ فنبّهَتْ بذلك هذه الفئَةَ إلى عجْزِ هؤلاء الكُبَرَاءِ عن نصْرِهِمْ يوم القيامة وفي هذا إثارةٌ للسَّوادِ على الزُّعَمَاءِ وتحْرِيضٌ على عِصْيَانِهِمْ فيما يأمُرُونَهُم به من عَدَمٍ الاستجابَةِ إلى الدَّعْوَةِ كما فيهِ تهوينٌ لِشَأْنِهمْ كَمَا هُوَ واضِحٌ.

ولقد كان الدِّفَاعُ عن المظْلُومِ -ولو كان كافِرًا- من الخِصَالِ التي حَثَّ عليها القرآن الكريمُ وطَبَّقَهَا النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمَكَّةَ فقد أورد ابنُ اسحاق قِصَّةَ الرَّجلِ اَلْإِرَاشِي الذي بَاعَ أَبَا جَهْلٍ إِبِلاً فَمَطَلَهُ بِأَثْمَانِهَا فَدُلَّ عَلَى الرسول عليه الصلاة والسلام فَقَامَ مَعَهُ حَتَّى أَخَذَ حَقَّهُ مِنْ أَبِي جَهْلٍ (ابن هشام 2 : 27). ولَقَدْ تَأَسَّسَ حِلْفُ الفُضُولِ في الجَاهِليَّةِ وَشَارَكَ فِيهِ الرَّسُولِ قبل البِعْثَةِ وَمَدَحَهُ بَعْدَهَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الدِّفَاعِ عَنِ اَلْمَظْلُومِينَ فِي أَيِّ مَرْحَلَةٍ كَانَتْ دَعْوَةُ الاسلاَمِ، إِذْ تَأَسَّسَ هذَا الحِلْفُ لِنُصْرَةِ المظلوم ورَدِّ الحُقُوقِ إلى أَصْحَابِهَا (سيرة 1 : 123) (وسيرة ابن كثير 1 : 257).

وتَرْسِيخُ مَبْدَإِ الشُّورَى بَيْنَ المُسْلِمِينَ مِنَ المَسَائِلِ التي عالَجَهَا القرآن المَكيُّ وأَكَّدَهَا القرآن المدني. فخصائصُ الجماعة المسلمة كما بيَّنَتْهَا آياتُ سورة الشورى -وهي مكية- (الآية 38) تَجْعَلُ مِن الشُّورَى رُكْنًا ركيناً ومَعْلَمًا بَارِزًا خَاصَّةً وَ أَنَّهَا جُعِلَتْ بَيْنَ الصَّلاَةِ والإِنْفَاقِ، فلا مَفَرَّ مِنْ إِشَاعَتِهَا بَيْنَ المسلمين وتَبْيين رَكَائزِهَا وَ أُسُسِهَا وآدَابِهَا و فَوَائِدِهَا، أَمَّا السُّكُوتُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لاَ يُنَاسِبُ اَلْمَرْحَلَةَ فَهَذَا من قَبيلِ كَتْمِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِبَيَانِهِ للنَّاسِ.

وأما السلطة التشريعية فقد حُصِرَتْ في العهد المكيِّ في الوحْيِ وفُوِّضَ للرسول عليه الصلاة والسلام أن يُبَيِّنَ للنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم، وَهَذَا يَسْتَدْعِي إلغَاءِ سُلْطَةِ اَلْبَشَرِ فِي التحليل والتحريم، ورفَضَ كُلِّ دَعْوَى يَدَّعِيَهَا اَلْبَشَرُ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا أو حَلَّلوا بإذن من الله افتراءً عليه، كما يزْعُمُ بعض الحكَّامِ أنهُمْ يحكمون بالشريعةِ، وهم إنما يحكمون بأهوائهم، فهذا مما ينبغي إِثَارَتُهُ وتَوْضِيحُهُ للنَّاسِ وإِظْهَارُ خُطُورَةِ التحليل والتحريم التي يتزعَّمُهَا الواضِعُونَ للقَانُونِ، وخُطُورَةُ اتِّبَاعِ تلك القوانين. فالسُّكوتُ عن ذلك لا يجوز بحال من الأحوالِ.

ومن هنا يخطئ الذين يظنون أن اسْتِصْدَارَ الأحكام الفقهية من العلماء المسلمين في مجتمع لا يطبق فيه حكم الإسلام هو من قبيل العبث، وأن هذه الأحكام ينبغي ألا يبحث فيها إلا بعد قيام الدولة ؛ فالعهد المكي الذي لم تكن فيه السلطة السياسية بيد المسلمين قد نزلت فيه أحكام تشريعية كثيرة بل وطالبت حتى المشركين ببعضها كالزكاة والإنفاق، وأسس علماء الأصول على ذلك قضية معروفة وهي : هل المشركون والكفار مخاطبون بالفروع أم لا كما هم مخاطبون بالأصول؟

ذهب الأكثر من العلماء إلى أنهم مخاطبون بالفروع كما هم مخاطبون بالأصول قال النووي في شرح مسلم (1 : 198) : “أعلم أن المختار أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهي عنه هذا قول المحققين والأكثرين”. إذا كان هذا في حق الكفار فكيف ودعوة المصلحين في عصرنا موجهة إلى المسلمين؟ أليسوا مخاطبين بهذه الفروع؟! بلى ولذلك يجب بيانها لهمْ، وعدم كتمها عنهم، وينبغي دعوتهم إلى الالتزام بها والاستسلام لأحكامها. فإذا كان في المجتمعات الإسلامية كفار ملحدون ومرتدون -وهم قلة- فالواجب كذلك مخاطبتهم بشرائع الإسلام لكن بالكيفية التي تناسبهم ولا تنفرهم.

هذه محاولة أردنا من ورائها إثارة هذا الموضوع الشائك الذي ثارت حوله آراء كثيرة، وتبنت كثير من الجماعات القائمة بعض هذه التوجهات التي سبق ذكرها. فلبيان خطأ بعض هذه التوجهات، ولتقديم الدليل الشرعي لبعضها الآخرسطرنا هذه الكلمات. فإن كان الصواب حليفها فهو فضل من الله، وإن كان ثمَةَ خطَأٌ، أو أَخْطَاءٌ فهو من نفسي ومن الشيطان وأرجو كل من قرأها أن ينصح صاحبها بما ظهر له -فهذه اجتهادات وآراء قابلة للمناقشة والأخذ والرد. والله من وراء القصد والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>