تعليمنا الواقع والمبتغى محمد بالعربي
منذ القدم كان العلم والتعلم من الركائز الأساسية التي تستند إليها أمة من الأمم في إبراز مقوماتها الثقافية والحضارية. والعلم لسان الأمم، صلاحه يدل على صلاحها وفساده يفضي إلى فسادها. وبحسب العلم المكتسب في دولة من الدول يتم تصنيفها إما في إطار الدول المتخلفة أو المتقدمة.
واليوم أصبح البحث العلمي والتدريس بصفة عامة من الوسائل التي لا غنى عنها إطلاقا لكل دولة أرادت مسايرة ركب التقدم المدني ومعالجة بوائق ومشاكل المجتمع السياسية والإقتصادية والثقافية وغيرها. لهذا كانت معظم الدول التي أدركت قيمة العلم والبحث العلمي تعمل على تطويره انطلاقا من مقوماتها الحضاريةواعتمادا على ثوابتها. وجعله وسيلة لخدمة المجتمع. فأين نحن من ذلك كله؟!
إن جهاز تعليمنا ومؤسساته عرفا تغييرات جذرية جعلت منهما في أعم الأحوال وكرا للفساد والإفساد ومركزا لتكوين الوصوليين ذوي المصالح الذاتية فحسب، لا تهمهم المصلحة العامة في شيء ولا يعيرونها أدنى اهتمام ما لم تكن لهم فيها مصلحة. أضف إلى ذلك أن النظام التعليمي أمسى قالبا لتركيب العقلية المستلبة التي تتهافت على جديد المدنية الغربية وتكيف ذاتها كي تتأقلم مع هذا الجديد، حتى ولو كان فيه ما فيه من إذلال وإهانة وهدر لمقومات الأمة وهدم لركائزها الإقتصادية والإجتماعية والسياسية و… والذي زاد الطين بلة هو كون مؤسساتنا التعليمية أصبحت حقلا للتجربة ـ فئران التجربة فيه المتعلمون ـ فأي منهجية لفظت أنفاسها أو كادت في الغرب وتلاشى دورها هناك يؤتى بها إلينا بغض النظر عن ظروف نشأتها وأبعادها ومخلفاتها ونتائجها. فإن فشلت أوتي بأخرى وكأن شيئا لم يقع وهكذا….
أين الخلل؟ وما الدور الذي يجب على مؤسساتنا القيام به كي تؤدي رسالتها؟
إن المتتبع لمسار التعليم في بلادنا يدرك بالملموس أن الخلل في البدء.
أسبابه كثيرة ومتنوعة، أدت إلى وضعية متردية، ولهذه الأسباب مجتمعة مصادر، لها بالغ الأثر فيما حدث ويحدث نذكر من بينها :
1 ـ ابتعاد المناهج التعليمية عن هوية الأمة :
الحقيقة أن مناهج التعليم ابتعدت بشكل خطير عن مباديء وأعراف الشعب التي ترعرع عليها وقدم في سبيلها الكثير. هذا الإبتعاد يظهر بشكل جلي في مقررات التعليم الثانوي بالخصوص رغم عموميته. إن الحصص المخصصة لتدريس ثوابت الأمة ومبادئها، والتي كان من أولى أولوياتنا الاهتمام بها. لدقة المرحلة التي يمر بها المتعلمون ـ مرحلة المراهقة والطيش ـ لم يخصص لها إلا النزر القليل من الزمن. ورغم قلة حصصها فمضمون ما يدرس فيها بعيد كل البعد عن المبتغى، فموادها لا تهدف إطلاقا إلى بناء الفرد الصالح وصياغته صياغة إسلامية. ناهيك عن كون المواد الأخرى وضعت برامجها على النحوالذي يجعل المتعلم بعيدا عن عقيدته، فعلى سبيل المثال لا الحصر، هذه مادة الطبيعيات الغنية بآيات الله في الكون والنفس والمجتمع تدرس على أساس أنها ـ الآيات ـ ظواهر طبيعية أو بشرية لا صلة لها إطلاقا بصانعها ومبدعها، في الوقت الذي ينتظرمنها أن تكون وسيلة لتعميق الإرتباط بين الإنسان وخالقه وترسيخ العقيدة في نفسه. كما هو الشأن بالنسبة لليهود الذين أدركوا قيمة الدين فسعوا لغرزه في نفوس أبنائهم وعقولهم. أو كاليابان التي كانت إلى زمن قريب دولة متخلفة فاستطاعت أن تتسلق سلم الرقي المدني حتى أصبحت من أقوى الدول اقتصاديا وصناعيا. ولم يمنعها ذلك من الحفاظ على تقاليدهاوأعرافها بل كانت هذه الأخيرة سببا لرقيها وتقدمها.
2 ـ ارتجالية التخطيط ـ “التخطيط الكارثي”ـ
إن معظم ما حدث من تغيير على النظام التعليمي في بلادنا كان عبارة عن ردود أفعال. فعندما تقع الطامة الكبرى إذ ذاك نقوم للإصلاح. فالنظام الجديد للبكالوريا كان ردة فعل على هزالة النتائج المحصل عليها فيما سبق، فقد كان هذا التغيير دواءا لغير دائه لأنه لم يسبق بفحص ودراسة لمعرفة أسبابه وإدراك أعراضه، فكان عكس ما وضع لأجله، فقد تدنى مستوى التلاميذ ـ هزالة التحصيل الدراسي عندهم ـ وانتشرت ظاهرة الغش في الإمتحانات واستفحلت إلى درجة عجز معها المسؤولون في الجهاز التعليمي عن إيجاد حل لها رغم ما صدر من توصيات ومذكرات تنص على محاربتها، وكل ما حدث في الثانوي إنما جله رواسب لمراحل سبقت. وستزيد الوضعية التي يعرفها التعليم استفحالا إذا علمنا أن الثانوي إنما هو ثمرة للتعليم الأساسي، وأن ما طرأ في التعليم الإبتدائي بإحداث السلك الأساسي بشقيه الأول والثاني، لا يعدو سوى صورة أخرى لما حدث في الثانوي. فالتغيير الذي أحدث كان ذا بعد إقتصادي أكثرمنه تربويا. فإضافة فصل إلى السلك الأول من التعليم الأساسي وحذفه من السلك الثاني من التعليم الأساسي وفر العديد من المناصب المالية. فمعلم واحد أصبح يقوم بمهام ثلاث أساتذة فما فوق بأجرة تقل عن أجرة الأستاذ الواحد. وفي المقابل لم يزد الوضع إلا تأزما. فتدنى المستوى التعليمي بشكل يدعوللريبة فمعظم التلاميذ لا ينجحون عن جدارة واستحقاق وإنما يصعدون من فصل إلى فصل أعلى بمعدل يقل أحيانا على 3/10 وذلك لأن الخريطة المدرسية حددت عدد التلاميذ الواجب تدريسهم في الفصل كذا. فعلام يدل هذا؟!
إن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن وضعية تعليمنا ستستمر على ما هي عليه، أو تنحدر إلى أسفل ما لم يتدارك الأمر وبشكل جدي بعيداً عن كل أشكال المجاملات. وهذا لن يتأتى ما دامت مناهجنا التعليمية تابعة للغرب تأخذ من منابعه دون تمحيص، وما دام المشرفون على هذه العملية لم يدركوا جوهر ما قاله منقذ البشرية فيما معناه >الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها<
إن التعليم اليوم لفي أشد الحاجة إلى إعادة النظر الدقيق في مناهجه ووسائله انطلاقا من وضع سياسة متكاملة شاملة تعطي صورة واضحة لمراحل هذا التعليم ولأهدافه ومراميه والتي يجب أن تكون أهدافا ومرامي محصنة ، بانية لا مهدمة، أهدافا تشحذ الفعاليات، وتضع الأمة الموضع اللائق بها. إننا لفي أمس الحاجة لتغيير يحمل معه بذور الخلاص من الوضعية المزرية التي يتخبط فيها تعليمنا فتصبح مؤسساتنا التعليمية مركزا لتخريج الإنسان الصالح الذي يتنكر لذاته من أجل المصلحة العامة، والذي يسعى لتحمل المسؤولية ويبذل في سبيلها الغالي والنفيس. ومصنعا لصنع رجال الغد الأقوياء والأمناء الذين ينطلقون من إمكانياتهم الذاتية كي يجعلوا من بلدهم سيد البلدان فلا يمدون أيديهم لغيرهم إن كان فيه إذلال وإحتقار وإملاء شروط. ويدركون ثقل المسؤولية وعظمتها فلا يهنون أمام الصعاب ولا يخضعون لسياسة الأمر الواقع. ويجعلون بناء صرح الأمة أمانة في أعناقهم يكدون ويجتهدون من أجله.
إننا في حاجة إلى مؤسسات تعمل على خلق عقلية الإبداع عند المتعلمين، وتنمية هذا الميول لديهم بنشر الثقافة الجادة. وتعمل على رفع مستوى الوعي لدى الجماهيرالشعبية، الرافض لكل تبعية عمياء، الرافض لكل استحمار أيا كان مصدره ووسيلته وحتى لو عرض في أزهى صوره.
إن هذا كله يتطلب الرجوع إلى الأصل والرجوع إلى الأصل أصل.