الحلال بين والحرام بين لمن أراد الإستبراء لدينه 2/2


الحلال بين والحرام بين

لمن    أراد الإستبراء لدينه 2/2

قوله صلى الله عليه وسلم : >لا يعلمهن كثير من الناس< لفظ ابن ماجة لا يعلمها كثير من الناس وهو أرجح عند أهل العربية لأن الأولى في جمع ما لا يعقل أن يعامل معاملة المفرد المؤنث، أي لا يعلم حكمها من التحليل والتحريم، ومفهومه أن القليل من الناس يعلمها ولا تشتبه عليهم وهم الراسخون في العلم.

وقوله صلى الله عليه وسلم : >فمن اتقى الشبهات< من التقوى وهي لغة قلة الكلام والحاجز بين الشيئين واصطلاحا التحرز بطاعة الله عن مخالفته، وامتثال أمره واجتناب نهيه. و>الشبهات< جمع شبهة وهي : ما يخيل للناظر أنه حجة وليس هو كذلك في واقع الأمر، والمراد به هنا : المشتبه.

>فقد استبرأ لدينه وعرضه< أي بالغ في طلب البراءة. من قولهم استبرأ الجارية إذا علم براءة رحمها من الحمل. وإنما شرعت عدة المطلقات والمتوفى عنها ليعلم براءة أرحامهن من الحمل.

استبرأ لدينه : أي طلب البراءة لدينه مما يشينه ويقدح فيه، و>العرض< لغة : رائحة الجسد طيبة كانت أو منتنة وقد يطلق العرض على الجسد، وجاء في وصف أهل الجنة : >إنما هو عرق يسيل من أعراضهم< أي : أجسادهم. وأما في الإصطلاح  :فهو موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو سلفه أو أهله.

وقوله صلى الله عليه وسلم : >ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام< فسر بمعنيين :

1ـ أن من أكثر من تعاطي الشبهات صادف الحرام وهو لا يشعر.

2ـ يعتاد التساهل ويتمرن عليه ويروض نفسه على التعامل بالشبهات تدريجيا فينتقل من الصغيرة إلى الكبيرة، ومن الكبيرة إلى الكفر، ولهذا الوجه الثاني شواهد من القرآن والحديث نذكرمنها على سبيل المثال :

1ـ قوله تعالى : >تلك حدود الله فلا تقربوها< البقرة/187] نهى عن المقاربة خوفا من المواقعة؛ فقليل الشرب يدعوا إلى كثيره، والخلوة بالأجنبية تدعو إلى الزنا، والقبلة للصائم تدعو إلى الوطء.

2- قوله صلى الله عليه وسلم : >لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ ويَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعَ يَدُهُ<رواه البخاري ومسلم].

وقوله صلى الله عليه وسلم : >كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه< الحمى : مصدر أطلق فأريد به إسم المفعول : أي المحمي، والحمى هو المكان الذي يحميه الملوك ويمنعون غيرهم من قربانه. وقد جعل إبراهيم مكة حمى محرما لا يصاد صيده ولا يقطع شجره، ومثل ذلك فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حمى المدينة المنورة. وحمى عمر وعثمان أماكن ينبت فيها الكلأ لأجل إبل الصدقة.

والله تعالى حمى هذه المحرمات ومنع عباده من قربانها وسماها حدوده فقال : >تلك حدود الله فلا تقربوها< وهذا فيه بيان أنه حد لهم ما أحل لهم وما حرم عليهم. فلا يقربوا الحرام ولا يعتدوا الحلال، ووجه التشابه في هذا المثال الذي ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم هو استحقاق العقوبة لكل من المشبه وهو الواقع في الشبهات، والراعي وهو المشبه به : الواقع في الحرام ينال حقاب الله، والراعي ينال عقاب الملك.

وقوله صلى الله عليه وسلم : >ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه< جملة مستهلة بألا وإن لتحقق وتأكيد وقوع ما بعدهما وتفخيما لشأن مدخولها كما هو معروف عند أهل العربية. فقد خاطبهم صلى الله عليه وسلم بما كانوا يعلمون من أن ملوك العرب كانوا يحمون لمراعي مواشيهم أماكن خصبة يتوعدون من رعى فيها بغير إذنهم بالعقوبة الشديدة. فمثل لهم بما هو مشهور لإدراك المعنى المقصود. وقوله صلى الله عليه وسلم : >ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب<. المضغة قطعة لحم بقدر ما يمضغ لكنها وإن صغرت في الحجم عظمت في القدر والمرتبة ومن ثم قال : > إذا صلحت< هذه المضغة وامتلأ هذا الوعاء بالإيمان والعلم والتقوى …(صلح الجسد كله) بالعمل والإخلاص والأحوال والمقاصد. (وإذا فسدت) بالكفر والنفاق والإرادات الفاسدة (فسد الجسد كله) بالفجور والطغيان والجور، وأنتجت سلوكا منحرفا مع الله ومع العباد. والقلب يطلق على الفؤاد، قال الأخطل :

إن الكلام لفي الفؤاد

وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا.

ـ ويطلق على العقل كما في قوله تعالى : >ألم نشرح لك صدرك< الشرح/1]

ويطلق على الصدر كما في قوله تعالى : >أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ< الشرح /1]

ـ ويطلق على العقل كما في قوله تعالى : >إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب< ق/37]

لماذا جعل القلب مصدر الصلاح والفساد؟

لأنه مبدأ الحركات البدنية والإرادات النفسية؛ الصالحة منها : كالحب والرحمة والتواضع…. والفاسدة : كالحسد، والغلظة، والخيانة…..

ولذلك قيل : إن القلب هو أشبه بالملك والجوارح هي أشبه بالجند فإذا صلح الملك باتباع شرع الله والإحتكام إلى شريعة السماء صلح الجند بتحقيق النصر والظفر على عدو الله من شياطين الجن والإنس. وأن القلب أشبه بالأرض والجوارح أشبه بالنبات الخارج من هذه الأرض. >والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا< الأعراف/58]

فليحرص المؤمن على إصلاح قلبه، وتطهيره مما يدنسه من الأدران والأوبئة التي لا تلبث أن تطفو على السطح، فتنخرالقلب والقالب : >فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منساته< سبأ/14] واعلم أخي المسلم -وفقني الله وإياك- إلى أن سلامة قلبنا وقالبنا من هذه الدابة وهذه الأرضة لا يوجد في غير هذه الوصفة الطبية التي كتبها أحد العارفين بالله فقال دواء القلب في خمسة أشياء : >قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين<.

والذي يمكن أن نلفت إليه النظر هنا هو أن من الجوارح ما حظي باهتمام يعادل الإهتمام بالقلب؛ ومن ذلك وجوب إصلاح اللسان. ويروى عن لقمان أنه كان غلاما وطلب منه سيده أن يذبح شاة ويأتيه بأطيب ما فيها. ففعل فأتاه بقلبها ولسانها. ثم طلب إليه مرة أخرى أن يأتيه بأخبث ما فيها ففعل فأتاه بقلبها ولسانها. فتعجب السيد وقال كيف ذلك يا غلام؟! فقال :يا سيدي ما أطيبهما إذا طابا وما أخبثهما إذا خبثا. وقد ترجم هذا المعنى زهير ابن أبي سلمى في حكمه فقال :

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده

ولم يبق إلا صورة اللحم والدم

وفي الحديث الشريف ما يعضد هذا المعنى : >لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه<. رواه الإمام أحمد في مسنده]

والذي يجب أن نخلص إليه في النهاية هو أن المسلم مطالب بالحرص على كل ما يصلح قلبه والتأكيد على فعل الحلال واجتناب الحرام والإمساك عن الشبهات، والإحتياط للدين والعرض، وعدم تعاطي الأمور الموجبة لسوء الظن والوقوع في المحظور، وبالله التوفيق.

ما يستفاد من الحديث :

1ـ يستفاد من الحديث أن الحلال البين لا حرج في فعله، وأن الحرام البين لا رخصة في إتيانه في حالة الإختيار. وهناك منطقة بين الحلال البين والحرام البين هي منطقة الشبهات التي يلتبس فيها أمر الحل بالحرمة على بعض الناس. وقد جعل الإسلام من الورع أن يتجنب المسلم هذه الشبهات حتى لا يجره الوقوع فيها إلى مواقعة الحرام الصرف.

2ـ هذا الحديث أصل في سد الذرائع والتي تتلخص في أن ما يؤدي إلى الحرام فهو حرام. فإذا حرم الإسلام الزنا مثلا حرم كل مقدماته ودواعيه من تبرج جاهلي، وخلوة آثمة، واختلاط عابث، وصورة عارية، وأدب مكشوف، وغناء فاحش.

3ـ تستفاد منه كثير من القواعد الفقهية تندرج في قاعدة سد الذرائع كذلك : كتحريم القليل مما يسكر كثيره، وتحريم صلاة النافلة بعدالصبح وبعد العصر وعند الزوال سدا لذريعة الصلاة عند اقترانها بالشمس في هذه الأوقات، وغير هذا كثير.

4ـ أصل في دفع الشبهات التي تقدح في الأعراض وتلصق العيب بالبرءاء عن أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت : >كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيت أزوره ليلا قحدثته ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبني(تعني : ليردني)، فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : على رسلكما إنها صفية بنت حيي. فقالا : سبحان الله يا رسول الله. فقال : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا، أو قال : شيئا<رواه البخاري ومسلم].

5ـ فيه الحث على معرفة الحلال والحرام بالتفقه في الدين وعدم الإقدام على عمل إلا بعد معرفة حكم الله فيه لتأتي أعمال العباد موافقة لما يريده الله من عباده في امتثال أوامره واجتناب نواهيه.

قال الحسن رضي الله عنه : ما ضربت ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بطشت بيدي، ولا نهضت على قدمي حتى أنظر أعلى طاعة أو على معصية؟ فإذا كانت طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت.

6ـ فيه ضرب المثل وهو من الأساليب التربوية الرفيعة لمعلم البشرية، والحريص على هداية النفوس إلى طريق الخير بتصوير المعاني الخفية وتشبيهها بما هو مألوف ومعروف لقياس الغائب على الشاهد.

7ـ في هذا المثل نفسه التأدب مع الله تعالى عند إثارة العلاقة التي تربط بين عبد خائف هو الراعي وبين سيد مهاب الجانب هو الملك لتتفطن النفوس كما تتفطن في علاقتها مع الأكابر فكما أن الملك يحظى من الرعية بالمهابة والقدسية والجلال، فإن الله أحق وأولى بالإجلال والتعظيم من كل ما خلق. وذلك هو مقام العبودية الحق.

8ـ فيه دليل على أن طلب البراءة للعرض ممدوح كطلب البراءة للدين. ولهذا ورد : >كل ما وقى به المرء عرضه فهو صدقة<. وإن من يرتكب شبهة يعرض نفسه للطعن، ولقد قال بعض السلف : >من عرض نفسه للتهم فلا يلومن من أساء به الظن<.

9ـ فيه تعظيم للقلب على سائر أعضاء الجسد لذلك فأن كل إصلاح وبداية كل تغيير يجب أن تبدأ من إصلاح القلب وأما إذا اقتصر الإصلاح على الظاهر دون الباطن فإن ذلك بناء لا يلبث أن ينهار مهما بدا على جدرانه من براعة في الزخرف والإبداع، ومهما كان حسن الأحدوثة عند أمهر الصناع.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>