رأي للمناقشة (2/3)
مواقف الدعاة والمصلحين من المرحلية في الدعوة النبوية وتنزيلها على المجتمعات الاسلامية
> عبد الرب النبي عالم
العلل الكامنة وراء التوجهين الأولين :
ونعود لمحاولة كشف العلل التي كانت وراء تكوين أصحاب التوجّهين الأولين لتصورهم فنجملها فيما يلي :
1- فَهِم هؤلاء أن الدولة والمجتمع بانسلاخهما من نظام الاسلام أصبحا بمثابة المجتمع المكي الذي قام فيه رسول الله بالدعوة إلى دين الله. وتأسيساً على هذا الفهم رأوا أنه ينبغي سلوك نفس المراحل التي مرت بها الدعوة الاسلامية في عهده صلى الله عليه وسلم فما كان في المرحلة المكية فهو يناسب مرحلة ماقبل الدولة في عصرنا، وماكان في المرحلة المدنية فإنه يناسب قيام دولة الإسلام.
2- وفهموا كذلك أن العهد المكي خال من التشريعات؛ فحصروا خصائص المرحلة المكية في العقيدة والأخلاق والعبادة. وبنوا على ذلك أن الدعوة ينبغي أن تكون كما كانت في العهد المكي -حسب فهمهم- دعوة إلى العقيدة وإلى الاستسلام لمنهج الله أولاً ثم يكون التشريع بعد قيام الدولة، وبناء على ذلك فلا حاجة لعرض أنظمة الاسلام وشرائعه على الناس قبل ايمانهم واستسلامهم لهذا المنهج الذي جاء به الدين.
إن هذا التصور للأمور وللعهد المكي فيه كثير من الأخطاء وسنحاول أن نبين ذلك في مجموعة من النقاط :
1- إن تنزيل “المرحلية” التي عرفتها الدعوة الاسلامية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم على مجتمعاتنا الاسلامية الحالية فيه كثير من الزلل؛ إذ المجتمعات الحالية مجتمعات مسلمة والمجتمع المكي كان مجتمعاً كافراً مشركاً. فالمسلمون في عصرنا لم ينكروا أن الشريعة الاسلامية هي التي ينبغي أن تسودهم وتحكمهم، ولم يرفضوا حكم الله، ولا كفروا بالله ورسوله -إلا القليل من الملحدين المرتدين وهو نادر، والنادر لا حكم له- ولكنهم انحرفوا عن الجادة واتبعوا الشهوات تحت تأثير عوامل كثيرة يدخل فيها الجهل والهوى ومكر الأعداء وقعود العلماء وأثر الاستعمار وغيرها. فالحكم الصحيح الذي ينبغي اطلاقه بشأن المجتمع هو أنه مجتمع مفتون. وحتى إن أطلقنا عليه صفة الجاهلية فلا ينبغي أن يراد بها الكفر والارتداد. أما السلطة الحاكمة فقد يصدق عليها حكم الارتداد عندما تعلن صراحة علمانيتها وعدم رضاها بحكم الاسلام وتستهزئ به وبأحكامه أو تنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة. وأما الأفراد فالحكم الصحيح في حقهم هو أنهم أصناف؛ فمنهم المسلمون الملتزمون، ومنهم المسلمون العصاة، ومنهم المنافقون ومنهم المرتدون. وأما الهيئات السياسية والإجتماعية والفكرية فبحسب ما تتبناه من مناهج وماتدعو إليه من آراء يُحكم عليها؛ إما بالانحراف والعصيان، أو بالإرتداد والكفران، أو بالإسلام والإيمان.
2- إن الاستفادة من “المرحلية” في الدعوة النبوية التي حاولها أولئك المفكرون والدعاة وفهموها على غير وجهها الصحيح ينبغي أن تكون في كيفية تنزيلها على الواقع. فالمرحلية مبدأ هام وفطري وشرعي، فهي لازمة وضرورية عند دعوة الأفراد وهو المعروف بالتدرج كما يدل عليه مارواه مسلم في كتاب الايمان (1 : 196 بشرح النووي) >أن معاذاً قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فادْعُهم إلى شهادة أن لاإله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعْلِمْهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتُردُّ في فقرائهم..<
وهذا التدرج لا يعني اطلاقاً دعوة الفرد وتربيته على العقيدة مدة من الزمن دون أن يقوم بالواجبات الأخرى فهذا غير صحيح؛ إذ هو مخاطب بكل التكاليف الشرعية ومطالب بها، ولكننا نرفق به في التنفيذ فلا نكلفه إلا بالفرائض مع التركيز على معاني الإيمان حتى يرسخ قدمه فيه ويثبت ليسهل عليه تنفيذ التكاليف الشرعية الأخرى. والمرحلية مطلوبة كذلك في تغيير المجتمع واصلاحه إذ يقتضيها منهج القرآن في تنزُّله وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته وطبيعة الواقع في تحوّله.
3- إننا حتى عند مراعاة المرحلة المكية والدعوة إلى العقيدة والأخلاق والتركيز عليهما لن نكون متناقضين مع هذه الدعوة ولا مخالفين لطبيعة المنهج القرآني إذا ضممنا إلى ذلك الدعوة إلى أنظمة الاسلام وشرائعه. فالدعاة يدعون إلى الاستسلام لمنهج الله وحكمه ويدعون كذلك وفي نفس الوقت إلى تشريعاته وأحكامه ولا تعارض بين الاثنين.
4- الرسول عليه الصلاة والسلام وهو بالمدينة عندما كان يعرض الاسلام على الراغبين فيه كان يعرض إلى جانب العقيدة كثيراً من تشريعاته وأحكامه كما فعل مع أهل الطائف بعد استسلامهم، وهؤلاء الراغبون في الاسلام كثيراً ما كانوا يعلمون قدراً كبيراً من أحكامه قبل اسلامهم بل إن بعضهم كان ينفَّر من الاسلام بمثل هذه الأحكام. فهذا ضمام بن ثعلبة يسأل النبي عن شرائع الاسلام فيعددها له فيسلم ويعود إلى قومه داعياً إليها (السيرة النبوية لابن كثير 4 : 117) وغيره ممن أسلم كان يعرض عليه كثير من شرائع الاسلام فيعود ويدعو إلى نفس ماالتزم به وتعهد بالعمل به.
5- إن نصوص القرآن في العهد المكي كافية في الرد على من يزعم أن القرآن المكي لم يتناول إلا العقيدة والأخلاق وأنه لم يكن في ذلك العهد دعوة إلا إلى هذه العقيدة دون تشريعات الدين وأحكامه. ولتوضيح هذا الجانب الذي أغفله كثير من الباحثين والدعاة والمصلحين يحسن تقديم بعض الأمثلة على ذلك في مجالات متعددة.
في الحلقة المقبلة اثبات التشريع في العهد المكي.