نـقـطـة الفصــل بـيـن
التـغـريــب والتـعـريــب
> الدكتور أمل
إن الكلمتين التغريب والتعريب لا يفصلهما شكلا إلا نقطة… لكن النقطة البسيطة تلك لكفيلة أن تغير المضمون كله رأسا على عقب بكيفية جوهرية… قد تؤثر على حياة الفرد والأسرة بل الجماعة والأمة…
إني أرى الكلمتين على النقيض… متجاوزا شرحهما اللغوي المعجمي لأتناول مفعولهما الاجتماعي والسياسي والعقائدي…
يدل فهم التعريب عندي في واقع الأمر أن أكتب باللغة العربية من اليمين إلى اليسار وأن أفكر مثل أصحاب اليمين… وأن أتخاطب باللغة العربية لغة أصحاب اليمين ولا أبغي عنها بديلا…
لكن إذا ما نقطة الفصل سطت فوق عين التعريب واستبدت بجوهر الكلمة فتحولت إلى التغريب : جاز أن نقول أننا نصير ننعق كالغربان ونغترب فنصبح “غرباء” لا نحن من أصحاب اليمين ولا من أصحاب اليسار. فيرتكك لساننا بالعجمة والتلتين ويتدبدب تفكيرنا ويتأرجح إذ اجتثت جذوره العربية الإسلامية فضل الطريق وهو يبحث له عن مصير مجهول متقمصا شخصية في أحضان حضارة على نقيض حضارتنا أخلاقا وسلوكا.
وأرى أن هذا التصرف لا يليق بأمة عريقة لها حضارتها المتميزة وأسلوبها في الحياة وعوائدها الأصيلة. إن بعض البلاد العربية بفعل الاستعمار ورواسبه ارتمت في أحضان الغرب قلبا وقالبا، ومن أبنائها من أراد أن يقطع كل صلة بينه وبين لغته الأم ونمط الحياة العربية الإسلامية.
نحن لا نرفض التقدم العلمي والتكنولوجي الذي صار ملكا للحضارة المعاصرة بقطع النظر عن مصدره. فالحضارات مد وجزر وأخذ وعطاء… بل علينا أن نأخذ من الحضارة الغربية المعاصرة محاسنها ونعرض عن أخلاقها إذ لا أخلاق لها (باعتراف بنيها أنفسهم)!
… لقد تقدمت الانسانية ماديا لكنها خلقيا وأخلاقيا فإنها لم تزد قيد شعرة على العهود الإسلامية المشرقة بل تأخرت وتدنت إلى الحضيض… لقد انجرفت الدول الإسلامية التي كانت بالأمس مستعمرات غربية بحكم التبعية المطلقة باستسلام (وكأنه المصير المحتوم) للقيادة الغربية؛ لا حول لها ولا قوة ولا تملك لنفسها أي حرية اقتصادية أو فكرية. بل تخضع لشروط دول الغرب وما تمليه عليها. فأخذ الطابور الاستعماري المتغطرس يسلط من “الويلات المتحدة”! على البلاد الإسلامية ما يندى له الجبين باسم الشرعية الدولية أو النظام العالمي الجديد… ولكن هل حرك هذا من ساكن! لقد دوت صيحات وامعتصماه! من أفواه الآلاف من النساء والشيوخ والأطفال بالبوسنة… فلم تجد منا ردا… فالنخوة العربية صارت نخوة غربية وقد سطت نقطة الفصل كما سبق وبينت على عين التعريب فتحولت إلى تغريب ثم كتبت بعد ذلك الغين خاء فأخذت مسارها إلى التخريب.
هكذا فعلت تلك النقطة المشؤومة فعلها بدأ بلغتنا ثم تفكيرنا فعقيدتنا وهي تفتك وتقوض عرى العروبة والإسلام… حتى صرنا ننكر أنفسنا… وصارت مقدسات الإسلام غريبة بين بنيه أنفسهم مصداقا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “سيعود الإسلام غريبا كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء”.
فالتغريب… قد يؤدي إلى تجسيد معسكرين في البلاد الإسلامية معسكر يدين بالفكرة الإسلامية ومعسكر يدين بالفكرة الغربية؛ فيحدث هذا انقساما لاسامح الله في جسد الأمة مما تخشى عقباه! وهذا ما حدث ويحدث على أعيننا في عدد من البلدان الإسلامية…
في هذه الآونة تتعالى صيحات جسم الأمة المريض مستغيثا وا لغتاه! وا إسلاماه!… وأين من مجيب. لقد صك الآذان مدياع الغرب… وتضخمت “نقطة الفصل” وتمردت فوق سطوح المنازل تبث وتنفث سمومها إلى عقر البيوت تعبث بعقول الناشئة…
يالهول الموقف!…
… العز كل العز بالإسلام وبمناصرة لغة القرآن والخذلان كل الخذلان والهوان والذل بالتنكر لهما وابتغاء العزة في غيرهما. وما النكسة التي أصابت العرب والمسلمين إلا بالابتعاد عن المحجة البيضاء ليلها كنهارها مصداقا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من زاغ عنها هلك وهو يوصي بالقرآن ومن ثم بلغة القرآن.
وعلينا أن نأخذ دروسا من “أبناء عمومتنا” اليهود… إنهم أحالوا العبرية المكانة الأولى في نفوسهم وواقعهم المعيش من إدارة وتعليم على مختلف مستوياته ولم يستصعبوا ذلك ولم يروا فيه عائقا عن التقدم أو التطور الحضاري. بل نهجوا قرارات تدين بموجبها وتعاقب من يستعمل لغة غير لغتهم القومية، ولم يمكن “أبناء عمومتنا” نقطة التغريب من السطو على عين عبريتهم… وكانت لهم الغلبة علينا… فماذا فعلنا نحن العرب بلغة القرآن؟…
أسأل الله العلي القدير أن يتداركنا بألطافه ويرحمنا رغم الزلل ويطهر قلوبنا وعقولنا من فعل نقطة الفصل التغريبية تلك! ويقينا ويحصننا من مفعولها. آمين والحمد لله رب العالمين.