العلاقات العربية الإسرائيلية : من خيار المواجهة إلى مسلسل التسوية والتطبيع. > عبد الرحمان الدويري. لقد شكلت فلسطين منذ أن فتحها المسلمون جزءا مهما من الذاكرة الإسلامية، فهي أولى القبلتين، وثالث الحرمين ومسرى الرسول صلى الله عليه وسلم ورغم أنها كانت منذ ذلك الحين بؤرة من بؤر التوتر، إلا أن مايميزها اليوم هي أنها تعتبر >عقدة القانون الدولي المعاصر< بالإضافة إلى كونها مركز المواجهة بين الجامعتين الإسلامية واللاثينية، غير أن ما يُثير الدهشة، والدهشة بداية التفلسف، هو هذا التنازل الخطير الذي يقدمه العرب على >مأدبة اللئام< للكيان الصهيوني الذي أصبح غُدَّةً سرطانية في جسد الأمة يجب اقتلاعه لانقاذ أمتنا من خطره. ويأتي هذا المقال كمساهمة في تعميق الوعي بهذه القضية من خلال تتبع مسار التسوية والتطبيع، وحتى نفي بالغرض المطلوب من المقال سنقف على بعض المحطات التاريخية والقانونية التي أفرزها الصراع العربي الإسرائيلي لنستنتج في النهاية أن العصابات الصهيونية تهدف إلى تطبيع علاقاتها مع الدول العربية وبالتالي ابدال عقول المسلمين ب>شاشيات اليهود<. ولعل أول ملاحظة يمكن ملاحظتها هو أن هذه المحطات عبارة عن حلقات تشكل سلسلة مترابطة، وكل حلقة تعتبر خطوة مكملة للأولى وموصلة للثالثة، وأن اتفاق >غزة/أريحا< ماهو إلا افراز لتراكمات تاريخية ابتدأت ب>سايكس-بيكو<، وتوجت ب>سلام الشجعان< العرفاتي-الإسرائيلي. فكما هو معلوم أن >سايكس-بيكو< 1916، يُعتبر أول خطوة قامت بها الدول المتصارعة على المنطقة، بعد خلخلة الخلافة العثمانية واستغلال الشريف حسين لذلك، وسيراً مع قاعدة >فرق تسد< التي نهجتها الدول الغربية لاستعمار العالم، فإنه رغم تعارض مصالحها وتناقضها كان لابد من تحقيق نوع من التوافق تتقاطع عنده هذه المصالح لذلك تم توقيع معاهدة >سايكس-بيكو<، وتكمن خطورة هذه المعاهدة في كونها وضعت فلسطين تحت الاستعمار البريطاني الذي سيعلن عن رغبته في تسليمها لليهود مباشرة سنة 1917 من خلال وعد بلفور، فكانت بذلك هذه المعاهدة أول تقسيم عَمَلِيٍّ للمنطقة هَدَفَ من خلاله الغرب الصليبيُّ إلى تغيير الطابع التاريخي والحضاري والسياسي الذي شكل نسيجاً من التراث المتواصل غَذَّتْهُ الثقافةُ الاسلاميةُ لمدة قرون، كما أن هذه المعاهدة مهدت لولادة المشروع الصهيوني. ويأتي وعد بلفور سنة 1917 كثاني حلقة من هذه السلسلة الطويلة، وكأول مكسب سياسي تنتزعه الحركة الصهيونية من بريطانيا التي دفعتها ظروف الحرب إلى تقديم هذه الشهية اللذيذة لليهود كمحاولة لاستمالة الرأي العام اليهودي، واستغلالا للنفوذ المالي والسياسي لليهود للضغط على الولايات المتحدة الامريكية للدخول في الحرب إلى جانب بريطانيا. وهكذا لم تكن سايكس-بيكو فعلا محدودا في الزمان والمكان، فلم تكتف باحداث تغيير في الخريطة السياسية للمنطقة، بل أثرت أيضا في الواقع الثقافي، وعملت على خلق الدولة التابعة لنمط الانتاج الرأسمالي وغيرت مجرى التاريخ بزرع السرطان اليهودي في جسد الأمة الإسلامية، كما أن وعد بلفور يعتبر نتاجا أوليا، وجزءا معدلاً ومكملا لسايكس-بيكو، سرعان ماوجد ترجمته في القرار الأممي 181. ثم بعد هذا نصل إلى حلقة خطيرة لها أهميتها في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وهي القرار 242، فكما نعلم أن إصدار القرار 181، خلف آثاراً سلبية في أوساط الشارع الفلسطيني الشيء الذي أدى إلى نشوب حرب ضروس، انتهت بسيطرة اليهود على معظم أراضي فلسطين، وسقطت الأجزاء التي لم تصل إليها القوات الصهيونية والتي كانت تحت سلطة الأردن (الضفة الغربية) والقوات المصرية (قطاع غزة) وهكذا ظلت الأوضاع حتى احتلال الضفة والقطاع سنة 1967. وفي وسط هذه الأوضاع التي تميزت بتشتت الفلسطينيين جاء إعداد القرار الأممي 242 مستوحي من نظرة >المجتمع الدولي< الذي كان يرى الشعب الفلسطني مجموعة لاجئين عاجزين عن العودة إلى وطنهم، وأن الصراع بين مجموعة دول، طرَفُهُ الأولُ : الدُّول العربية والطرف الثاني : الكيان الصهيوني. هكذا كان المجتمع الدولي ينظر إلى الشعب الفلسطني على أنه مجموعة لاجئين لذلك أكد القرار 242 على ضرورة ايجاد تسوية >عادلة< لمشكلتهم. وتعتبر كَامْب-دِيفِدْ أخطر حلقة عرفتها العلاقات العربية-الإسرائيلية لكونها حَوَّلَتْ مسار القضية، باستبدالها خيارَ المواجهة بمُسَلْسَلِ التسوية والتطبيع، ذلك أن كامب-ديفد التي وقعها النظام السياسي المصري في شخص الرئيس السادات مع الكيان الصهيوني وبرعاية الولايات المتحدة الأمريكية، لم تكن مجرد عقود وبنود مجردة، بل كانت تحمل تصوراً سياسيا للعلاقات العربية-الإسرائيلية، يتمحور في إطارين أساسيين وهما : الاطار المصري والإطار العربي، ففي الاطار الأول -أي على المستوى المصري- تم توقيع هذه الخيانة في مارس 1979، وكانت بمثابة صيغة قانونية وسياسية للعلاقات الثنائية المصرية-اليهودية، والتي بموجبها تم انهاء الحرب بين الكيان الصهيوني، وأكبر دولة عربية ظلت تشكل طرفا نقيضا للكيان الغاشم في معادلة الصراع، وبموجبها أيضا تم الاعتراف بالكيان الصهيوني. وهذا أول مكسب سياسي ظفر به اليهود منذ احتلالهم لفلسطين، ناهيك عن الترتيبات الأمنية التي اتفِقَ عليها خلال المعاهدة والتي تتمثل في وجود مناطق محدودة التسليح في الأراضي المصرية بنوع خاص وعدم السماح للقوات المصرية أن تتعدى 58 كلم شرق قناة السويس، هذا بالإضافة إلى منع مصر من اقامة قواعد أو موانيء عسكرية في المنطقة، والأدهى من هذا كله تم الاتفاق على عدم دخول مصر في أي التزام يتعارض مع مضمون المعاهدة، والذي يعني خروج مصر عن الإجماع العربي، وفي المقابل وبموجب المعاهدة استفادت >اسرائيل< أمنيا وسياسيا الشيء الذي أدى إلى تعزيز المكانة الاستراتيجية للكيان الصهيوني في المنطقة. وإذا كان السادات يهدف من ا لمعاهدة إلى توفير >الأمن والرفاهية< للشعب المصري كما كان يدعي، فإنه في ظل سياسة التطبيع التي دخل فيها، نشطت المخابرات الاسرائيلية (الموساد) والذي تمظهر في نشوب الصراع بين المسلمين والأقباط. وفي الاطار الثاني -أي على المستوى العربي- فقد اعتبر الصهاينة كامب ديفد إطارا للسلام في الشرق الأوسط بل وجدته اطارا مناسبا للسلام ليس فقط بينها وبين مصر، بل سحبته على باقي الاطراف العربية، حيث بدأت سياسة التطبيع تسير في شوارع العالم العربي. ولكي نفهم أكثر تراجع سيناريو المواجهة وتطور مسلسل التسوية السلمية والتطبيع لابد من الوقوف على نقطتين اساسيتين : النقطة الأولى وهي عبارة عن مقارنة بين مخلفات القرار الأممي 242 وسياسة كامب ديفد، حيث نلاحظ التنازل الخطير الذي يقدمه العرب لاسرائيل، فإذا كانت الدول العربية رفضت التسوية عام 1967 بشكل ثنائي بمافيها مصر رغم الهزيمة، فإن سياسة كامب-ديفد استندت إلى مبدأ الثنائية في التسوية. وإذا كانت الدول العربية رغم الهزيمة اثناء صدور القرار 242 لم تعترف باسرائيل، فإن كامب ديفد اعترفت اعترافا كاملا بها، هذا بالإضافة إلى أن القرار 242 تعامل مع الفلسطينيين كلاجئين ودعا إلى ايجاد حل لهم، في حين اتجهت كامب ديفد إلى معالجة قضيتهم فقط في الضفة والقطاع عبر تطبيق الحكم الذاتي. النقطة الثانية هو أن كامب ديفد نقلت القضية الفلسطينية من عهد منظمة الأمم المتحدة إلى الولايات المتحدة بفعل الدبلوماسية القوية لكيسنجر بعد حرب 73، حيث أن الاتفاقية تمت تحت اشراف الدبلوماسية الأمريكية التي بينت ومنذ ذلك الحين وبشكل ملموس عن رعايتها لمصالح >اسرائيل< وهذا الذي تأكد خلال مؤتمر “السلام” بمدريد في أكتوبر 1991، ونقلت الصراع -أي كامب ديفد- من خيار المواجهة الذي رأيناه بين 1917 و1973 إلى خيار التسوية والتطبيع الذي بدأنا نعيشه منذ 1978 إلى يومنا هذا. وهنا لابد أن نشير إلى أن كامب ديفد اعتمدت القرار الأممي 242 كأساس للتسوية لنلاحظ الارتباط الوثيق بين حلقات الاستراتيجية الصهيونية الذي أكدناه سابقا، والتي تهدف اساسا إلى التطبيع كما أن صيغة الحكم الذاتي التي نعيشها اليوم هي من بنود كامب ديفد التي رغم الاجراءات الأمنية والسياسية لم تتمكن من انجاز التسوية السلمية على باقي الواجهات نتيجة تقدم العمل الكفاحي المسلح الذي تقوده الحركة الإسلامية داخل وخارج فلسطين. إن فلسطين تحترق وإن خيار المواجهة لابديل عنه لاسقاط مؤامرة التطبيع والتعايش مع العدوان الصهيوني، ولاخيار سوى ايجاد استراتيجية متكاملة تستوعب الماضي، وتفقه الحاضر، وتستشرف المستقبل وتحسن فن التعبئة والإعداد، وفن المواجهة والمراجعة من أجل اكتساب المناعة ضد فيروس التطبيع اليهودي.