التقوى قاعدة السُّلُوك الإسلامي
> عبد الحميد العشاق
بِمَعْرِضِ حديثِ القرآن الكريم عن نوعية علاقة الأمة المسلمة بِغَيْرِها من الجماعات والهَيْئَات البشرية، وعمّا ينْبَغِي أَنْ تَنْصَبِغَ به هذه العَلاَقَةِ من انصافٍ للنَّفْسِ، ومُعَامَلةٍ بالمثل، وقَوَامٍ للَّهِ، وشَهَادَةٍ بالقسط، جاء قَوْلُهُ جَل وعلاَ : >وَلاَ يَجْرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بما تَعْمَلُون<المائدة 9). إنَّهَا آيةٌ بالغَة في الدلالة (1) على مكَانِ التقوى من هذاَ الدين، ويستطيع المتدبِّر أن يَسْتشفَّ منْهَا وَحْدَها معنى أَنَّ التقوى أَصْلٌ أصيل في السلوكات والعلاقات الحضارية للأمة المسلمة، وأنها -أي التقوى- هي العنوانُ الدَّال على كُلِّية المبادئ والعَقَائِد والتّعاليم والمقاصد التي يَسْتَنِدُ إليها البِنَاءُ الاجتماعيُّ لجماعةِ المسلمين؛ فَهِي الميزان والصِّبغة والقِيمَة المركزية ضِمْنَ هذا البنيان.
فَلَئِن كَان لكُلِّ أُمَّةٍ ثَوَابِتُ ومُسَلّماتٌ ترجع إليها لاسْتِقاءِ أحْكَامِها واشْتِقَاقِ مَوَاقِفِهَا وخِيَارَاتِها، ومنها تَسْتَمِدُّ أُطُرَ مَعرفتها وخُصُوصَاتِهَا، فإِنَّ الرَّائِد الضَّابط لذلك كُلِّهِ بالنِّسبة للنِّظامِ الإسلامي هُوَ مَايَتَفَرَّدُ به من خصِّيصَة التَّقوَى؛ إِذْ كُلُّ الأوامِر والقِيم والتَّعاليم آيِلَةٌ إلى هذا الأصْلِ، وحَائِمَةٌ حَوْلَه.
ومن هُنَا، تَدْعُو الحَاجَةُ إلى مِثْل هذه الوَقْفَة لاسْتِجْلاَءِ مَعْنَى هذا الأصْل، واسْتِبَانَةِ حَقِيقَتهِ ومَفْهُومِه، وتِبْيَانِ فَضيلَته ومنزِلَته، وتبيان آثارِهِ النَّفسيّة والفكرية والسلوكية في مَنَاشِطِ الفرد والمجتمع.
حَقِيقَةُ التَّقْوَى :
التقوى لغة : مصدر من (اتَّقَى) -(يتَّقِي)، وكَذَا مِن فِعل (تَقَى)- (يَتْقِي)، وأَصْلُ الفِعْلَيْن مَأْخُوذٌ من (وَقَى -يَقِي -وِقَايَةً) ووِقَاءً بمعنى : حفظ الشيء مِمّا يَضُرُّه ويُؤديه، أو جعل النَّفس في وقايةٍ مِمّا يُخَاف، هَذَا تَحْقِيقُه. ثُمَّ صَارَ مَعْنَى التقوى في تَعَارف الشرع حفظ النَّفس عَمّا يُؤْثِم، وذَلِك بتَرْكِ المحظور، وبجَعْلِ الإنسان بينه وبَيْن ما يَخَافه ويَحْذَرُهُ وِقَايَةً تَقِيه مِنه : وهو فعل طاعته وترك مَعَاصِيه (2). والتقوى والتُّقَى بمعنى واحِد كما ذكره صاحِب مختار الصِّحَاح، وتقوى اللَّه هو اتِّقَاءُ سَخَطِه وعقابِه، قال تعالى : >هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ المَغْفِرَةِ<المذثر 55] أي هو سبحانه أَهْلٌ أنْ يُخْشَى، وَيُهَابَ، ويُجَلّ لمَا له من صفاتِ الجَلاَلِ والعظمةِ والكبرياءِ.
وبِالجُمْلَةِ، تردُ التقوى في اسْتِعْمالات القرآن الكريم والسنة النبوية كَلَفْظٍ جَامِعٍ للدَّلاَلَة على فِعل الطاعات واجْتِنَابِ المحظورات. وغايَةُ التقوى وثَمَرَتُهَا : التَّحَلِّي بالوَرع، يَقُول “مُحْتَسبُ العُلماء والأولياء” الشيخ أحمد زَرُّوق (ت 899هـ) : >غَايَةُ اتبَاعِ التقوى التَّمَسُّك بالورع وهُو تركُ مَالاَ بَأَسَ بِهِ مِمّا يَحِيكُ فِي الصَّدْرِ حَذَراً مِمَّا بِهِ بَأَسٌ كَمَا صَحَّ : “لاَيَبْلُغُ الرَّجُلُ دَرَجَةَ المتَّقِين حَتَى يَتْرُكَ مَاحَاكَ في الصَّدْرِ” قال : “ومِنْ كَمَالِ التقوى وُجُودُ الاستقامة، وهي حَمْلُ النفس على أَخْلاَقِ القرآن والسُّنّة لِقَوْلِهِ تعالى : “خُذِ العَفْوَ وامُرْ بالعُرْفِ وَأَعْرِض عنِ الجَاهِلِينَ”<(3).
يَنْتَظِمُ لَنَامن هذا أَنَّ التقوى حَالَةٌ تَقُومُ بالقلب (4)، تُوَرِّثُهُ حَيَاءً شَدِيداً، وخَشْيَةً باَلِغَة، وحَيَاةً دائِبَة تجعله في صُورَةِ حَذَرٍ وتَحَرُّج من أي حركة يرتكبها؛ وهذا السلوك يُعَبِّرُ عن قِمَّة الوعْيِ بالذاتِ، واستشعارِ المسؤوليّة، وحُضُور الذِّهْن!
يُوَضِّح هذا المعنى الصحابي الجليل أبو هريرة بمثال عملي وَقد سُئِل مَا التقوى؟ فقال : أَمَا مَلَكْتُم طَرِيقًا ذَا شَوْك؟ قَالوا : بلى، قال : فكيف صَنعْتم؟ قالوا : إِذا رأينا الشوك عَزَلْنَا عَنْهُ أو جَاوَزْنَاهُ أَوْ قَصَّرْنَا عَنْهُ، قال رضي الله عنه : فذلك التقوى< بمعنى هِيَ تلك >الحساسِية في الضمير، والشفافية في الشعور، والخَشْيَةُ المستمرة، والحذر الدائِم، والتَّوَقّ لأشواكِ الطريق.. طريقِ الحياةِ التي تتجاذَبُهُ أشواكُ الرغائِب والشهوات، وأشواكُ المطامِعِ والمطَامِحِ، وأشواكُ المخاوفِ والهواجِسِ، وأشواك الرجَاءِ الكاذِبِ ممّن لا يملك إجابَةَ رَجَاءٍ، والخَوْْفِ ممّن لا يملك نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا…<(5)، وهذا تعريف بالثّمَرَة، وبأَخَصِّ لَوازِمِ المُعَرَّف ولَيْسَ حدًّا لَهُ.
التَّقْوَى فِي المصطلح القرآني :
حينَما نَسْتَنْطِق النّص القرآني عن حقيقة التقوى ومَفْهُومِها من خلال مَا أَبْرَزَه مِن مَعَاِلِمِها ودَلاَئِل الطريق إِليها، نَجِدُ أَنَّ الحَقَّ سبحانه وتعالى قد أَغْنَى في تَبْيينِ المُرَادِ من هذاَ اللفظ، وَكذا في التدليل على أَمَارَاتِه، وصِفَاتِ أَهْلِه، وذلك بمَوَاطِنَ مُحَدَّدَة من كتابه : بمَوْطِنَيْن من سُورة البقرة، وموطنين من آل عمران، وفي مَوْطنٍ من الأنبياء، وفي موطن من الذاريات، بالإضافة إلى تعريفَات أخرى مُكَمِّلَة لعناصِر التّعريف الواردة في المواطِن السِّتّة المذكورة؛ ويمكن سَردُ آيات التعريف القرآنية للتقوى كالآتِي :
1- >الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين] الذين يومنون بالغيب ويُقيمون الصّلواة ومِمَا رزَقْنَاهُم يُنفِقُون والذين يُومنون بما أُنزل إليك ومَا أنزل من قبلك وبالآخرة هُم يوقنون أولائك على هدى من ربِّهم وأولائك هُم المفلحون<البقرة 1-5].
2- >ليس البر أن تُوَلُّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البرمن آمن باللَّه واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين وءاتى المَال على حُبه ذوي القربى واليتامى والمساكينَ وابْنَ السّبيلِ والسائلِينَ وفي الرِّقاب وأقام الصلاة وءاتى الزكاة والمُوفُونَ بِعَهْدهم إذا عَاهَدُوا والصّابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولائلك هُم المتقون]<البقرة 177].
3- >قل أونبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا] عند ربّهم جَنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من اللّه والله بصير بالعباد الذين يقولون ربّنا إنّنا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصّادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار<آل عمران 15-16-17].
4- >سَارِعُوا إلى مغفرة من ربّكم وجَنة عرضها السماوات والأرض أُعِدّت للمتقين] الذين ينفقون في السراء والضرّاء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحِشَة أو ظَلَمُوا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلاّ الله ولم يُصِرُّوا على مافَعَلُوا وهُمْ يَعْلَمُون<آل عمران 133-135].
5- >ولقد ءاتَيْنَا مُوسَى وهَارُون الفرقان وضِيَاءً وذكراً للمتقين] الذين يخشون رَبَّهُم بالغيب وهُم من الساعة مشفقون<الأنبياء 48].
6- >إن المُتَّقِينَ] في جَنّاتٍ وعُيُون ءاخذين مَاءاتاهم ربُّهم إِنَّهُم كانوا قبل ذلك محسنين، كانوا قليلا من الليل مايهجعون وبالأسحار هُمْ يستغفرون وفي أموالهم حَقٌّ للسّائل والمَحْرُوم<الذاريات 15-19].
بناء على الآيات السابقة وتتبُّعًا وَتَصَفُّحًا لِمَدْلُولاَتِهَا، وَأَخْذًا بِمَنْهَجِ تَفْسِيرِ القرآن بالقرآن، لنا أن نَسْتَخْلِصَ الأبعاد والدلالات الشامِلة لحقيقة التقوى على نحو مَا يُرَادُ بِهِ في القرآن الكريم بِحَسَب الوجوه الثلاثة الآتية :
- الوَجْهُ العَقَائِدِي : تعني التقوى -مِنْ هَذا الوجه- الإيمان باللّه وبالغُيُوبِ عُمُومًا، >والذي جَاء بالصِّدق وصَدَّقَ بِه أُولائك هُمُ المتَقُون<الزمر 39]، فلا تَقْوى بمعيار القرآن الكريم إلاَّ بالتوحيد الخالص، واليقين الصَّادق >وَأَلْزَمَهُم كَلِمَةَ التَّقْوَى وكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا<الفتح 48]، قال مُجاهد : كلمة التقوى كلمة الإخلاص “لاَ إله إلا الله”، ونَظِيرُ هذه الآية، قوله تعالى : >أولائك الذين اسْتَحْسَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُم للِتَّقْوَى< أيْ للإخلاص والإيمان، وقوْلُه : >ذَلِك وَمَن يُعَظِّم شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ<الحج 22] قال الإمام القرطبي في تفسيرها : >في الآية إِشَارَةٌ لطيفَة وذلك أنَّ أَصْلَ شِرَاءِ البُدن رُبَّمَا يُحْمَلُ على فِعْلِ مَالاَ بُدَّ منه، فَلاَ يَدُلُّ على الإخلاص< وأَضَافَ التقوى إلى القلوب لأَنَّ حقيقةَ التقوى في القَلْب<(6). – الوَجْهُ التَّعَبُّدِي : تَعْنِي التقوى من هذه الناحية تَوْفِيّة حَقِّ الدِّيانة في الصلاة والزكاة والذِّكر والخشية والدعاء والإنفاق والورع، والجدّ في التقرب بالقَوْل والعمل، وبالظاهر والباطن، >كانوا قليلا من الليل مايَهْجَعُون وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُون<، >الذِّين يخشون ربَّهم بالغيب وهُم من السَّاعة مُشفقون<، ولذلك رَادَفَ ابن القيم مَنْزِلَةَ التقوى بمنزلة الإشفاق في المَدَارِج باعتبار تَسْمِيَة مُقْتَضَى الشّيء بمُقْتَضِيهِ، والمُقْتَضَي بمُقْتَضَاهُ. وكذلك فَعَلَ ابْنُ جُزي المغربي الغرناطِي في الجامع حِين قال : >بَابٌ في المأمورات المتعَلِّقِة بالقُلُوب : (الأَوَّلْ) الخوفُ من اللَّه تعالى وهُو اللِّجَامُ القَامِعُ عن المعَاصِي وسَبَبَهُ معرفةُ شِدَّةِ عَذَاب اللَّه ويُسَمَّى خَشْيَةً ورَهْبَةً وتَقْوَى<(7).
- الوَجْهُ السلوكي الإجتماعي : لم يُؤَكّد كتابُ اللَّه في هذه الجِهَة على شَيْء مِثْلَمَا تَلاَحَقَت تَوْكِيدَاتُهُ وقَوَاطِعه على أنَّ التَّقوى هِي صِنْوُ العَدْل، وشقيقُ القُوّةِ والالتزام والأمَانَة، >وَتَعَاوَنُوا على البِرّ والتّقوى ولاَ تَعَاوَنُوا على الإثم والعدوان<المائدة 3]، >اعْدِلُوا هُو أَقْرَبُ للتَّقْوى<المائدة 9].
>ياأيها الذين ءامنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالاثم والعدوان ومعصية الرسول، وتناجوا بالبر والتقوى، واتَّقُوا الله الذي إليه تُحْشَرون<المجادلة 9]، >أرآيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى<،
<<<= تتمة …..ص 7 فالتقوى في منطوق هذه الآيات ومَفْهُومِها يُرَادُ مِنها إقامة العَدْل، واستعمار الأرض بالخَير، والجهادُ بالحقِّ، والسَّعْيُ في إصْلاَح البلاد والعباد، والتزام الإستقامة في الوظائف، ونُشدانُ النَّفْع والبِرّ في مَا نَرُوم ونُحَاوِل، وعلى هذا، طابَقَ القرآن الكريم بين “البرّ والتقوى” في مَوَاضع عِدّة من سُوَرِه، وهُو ما يُفسّره الإمام القرطبي بقوله : >البرّ والتقوى لفظان بمعنى واحد، وكُرِّر باختلاف اللفظ وتأكيداً أو مُبَالغة، إذْ كُلُّ بِرّ تَقْوَى، وكُلّ تَقْوَى بِرّ، قال ابنُ عطية : وفي هذا تَسَامُحٌ مَا، والعُرفُ في دلالة هذين اللفظين أَنَّ البِرَّ يَتَنَاوَلُ الواجبَ والمندوبَ إليه، والتقوى : رِعَايَةُ الوَاجب، قال الماوردي : نَدَبَ اللهُ سبحانه إلى التَّعاون بالبِرّ وقَرَنَه بالتقوى، لأنّ في التقوى رِضَا الله، وفي البِرّ رِضا الناس<(8). ومعلومٌ أَنَّ البِرّ هُو اسم جامِع يَدُلُّ على جميع مَعَانِي الخير والمعروف وقيم الإصلاح والصَّبْر والتضامن القلبي والوفاء بالعهد ومَكارم الخُلُق، وحقيقةُ التقوى تستوعِبُ كُل هذه المعاني وزِيَادَة، ولذلك لم تزل قيمَةُ التقوى في الفَضَاء الإسلامي الحضاري تُعْتَبَرُ رَافِداً حَيّاً لاَ يَنْضُبُ لتَثْبِيتِ قيمِ العَدْلِ، وحفظِ مَوازين الاستقامة والأَخْلاَق.
فالتقوى، إذن بمقتضى هذا الوجه، لاَتَعْني العُزُوفَ عن هُمُوم النَّاس، وإيثارِ مَسَالك العُزْلَة، والانكماش على النَّفْسِ، والانقطاع لمحضِ العِبَادة، وممارسة التّرَهُب الأَعْجَمي كلاّ! بل التقوى -بالمقصود القرآني- تِيَّارٌ اجتماعي جَارِف، مُعَانق لِهُمُوم الناس وحَاجَاتِهم، ومُلْتَصِقٌ بِنُتُوءَاتِ الواقع اليوميِّ ومُشْكلاَتِهِ، وذلك بِهَدَفِ الدَّفْعِ والجَذْبِ،والتَّصْحيح والترشِيد، والإهْدَاءِ والتربية >ولولا دِفَاعُ الله الناسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لفَسَدَتِ الأرضُ<البقرة 249]، فالتقوى لها ارتباط وتيق بالكيان المجتمعي ومَسَاسٌ بِكَافَّة الجَوَانب والمناشِط الحضارية التي ينخرطُ فِيها الإنسان المُكَلّف؛ فالتّقِيُّ هوَ المُحسن في مُعَاشرة أَهْله في الاجتماع والإفتراق، والتقي هو مَن يُقاوم الظلم ويَمْقُتُه، والتّقِيّ مَنْ يُسَخِّر مَاأتاه الله مِن مَالٍ وعلْم لِصَالِحِ قُوّة المسلمين وشوكتهم، والتَّقيّ من يَمْشِي في حَوَائِج المسلمين مُحْتَسِبًا ومُصَابراً، والتَّقِيُّ، أَيْضًا، من تَتَأَجَّجُ في نفْسِهِ إرَادَةُ التَّحَرُّر مِن >القابلية للإسْتِعْمَارِ< ووضْعِ النِّهَايَةِ والعَجْزِ.
وانطلاقاً من هذا المفهوم، اعتبر الإسلام التقوى قاعِدة الدين ومَقْصِدَهُ ومبْنَاهُ، والمرجعَ المعياري للاتجاهات والسلوكات والإختيارات المجتمعية والفكرية والسياسية والإقتصادية والإستراتيجية للأمة الإسلامية؛ فهي مقياسُ الأكْرَمية، وميزان القَبُول والرّد : >إِنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم<الحجرات 13]، وهِي خَيْرُ الزَّادِ الذي يتزوّد به الإنسان إِذَا أَقْبَلَ على مَوْلاَه : >وتَزَوَّدُوا فإنّ خَيْرَ الزاد التَّقْوَى<البقرة 197]، وهي سِرُّ الولاية التي تَتَشَرَّفُ بالإضافَةِ إليه سبحانه : >إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إلاَّ المتقون<الأنفال 34]، وهي، خِتَاماً، شرطُ ورَاثَةِ الأرض ومَدَارُ العَاقِبَةِ الحَسَنَةِ : >إِنَّ الأَرض للَّه يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ من عبادِه والعَاقِبَةُ للمُتَّقِين<الأعراف 128]، وعندي أن التقوى في مِثل هذه الآيات يُرَادُ بها المفهوم الذي تُكَوِّنُهُ مَعَانِي الجهَاتِ الثلاثِ مُجْتَمِعَةً؛ فحيثما جاء لَفْظُ التَّقْوَى على نَحْوٍ منَ الشُّمُول والإطْلاَقِ، فَهُو يُومئُ إِلى ذَلِكَ المَفْهُومِ الجَامع الكُلِّي الذي فَصَّلْنَاه على أَسَاس الجِهَاتِ المذكورة (الاعتقاد -العبادة -الفعل الإجتماعي والحضاري).
- خَوَاتِم :
يَسْتَنْظِمُ النّاظِرُ ممّا سَبَق أَنَّ حَقِيقَةَ التَّقْوَى -بالإصطلاَحِ القرآني- تتلاحم في تحْديدِهَا وتَصَوُّرِهَا ثَلاَثَة مُكَوِّنَاتٍ رَئِىسَةٍ :
- أولاها : صِحَّةُ الإعتقاد، وتَمْحِيضُ الإخلاص للّه تعالى.
- ثانيها : اسْتِيفَاءُ حَقّ الدِّيانة، والمُوَاظبة والجدّ في العبادة.
- ثالثها : التّكفُّلُ بتَكَالِيفِ الإسْتِخْلاَفِ، والنُّهُوضُ بوَاجِباتِ الوَقت، والسَّعْي في إصْلاَحِ الأمَّة ومَنْفَعَتِها.
فالتقوى الحقيقية والكاملَة هُو هذا المجْمُوعُ كُلُّه، وهي، لذلك، جَعلتها الشريعةُ قاعدة البناء الإسلامي الحضاري، وصِمَاماً وسِيَاجاً للسُّلُوك التاريخي لِلأمة مِن نَزَعَاتِ الزَّيْغ، وتخَبُّطَاتِ الإنحراف.
ولذلك، نجد القرآن الكريم دَائِماً حين يتحدث عن مُهمّة التأسيس التي تُمَثِّل مَرْحَلَةً حَرِجَةً وحَاسِمَةً في حياة الجَمَاعات ومَصِيرِها ومُسْتَقْبَلِهَا، يُلِحُّ على أَهَمِّيَةِ الوَعْي بِرَكِيزَةِ التّقوى >لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ على التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فيه<التوبة 108]، >أَفَمَنْ أُسِّسَ بُنْيَانُه على تَقْوَى من الله ورضْوانٍ خَيْرٌ أم مَّن أُسِّسَ بُنْيَانُهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانْهَارَ بِهِ في نَارِ جَهَنَّم<التوبة 109]، فالآيتان تَلْفِتَان الإنْتِبَاهَ على سَبيل الإيمَاءِ والتَّلْميحِ إلى أنَّ أَيَّ تَخْطِيطٍ يُقْتَرَحُ لإِعَادَةِ بِنَاءِ التَّصْمِيمِ الحَضَارِيِّ لِلأمَّةِ يَسْتَهْدِفُ إِصْلاَحَهَا، ويتَوَخَّى تَقَدُّمَها وتَجْدِيدَها، لَمْ يَرْعَ قاعِدَةَ التقوى ولم يَعْنِه التَّوَافُقُ مَعَ التِزَامَاتِها ومُقْتَضَيَاتِها، لابُدّ أَنْ يَرْجِعَ بالأَمَل الخَائِبِ، وإنَّهُ لَمُجَازِفٌ بمقدّرَات الأمة ومَصيرِها لاَمَحَالَةَ. فَكُلُّ بُنْيَانٍ لَمْ يَقُمْ على تَقْوَى من الله وَرِضْوانٍ في مَنَاحِي الاعتقاد والفَهْمِ والدِّيَانَةِ والإسْتِعْمَارِ والسُّلُوكِ، بُنيانٌ هَشٌّ لَنْ يَصْمُدَ طَوِيلاً أَمَامَ دَوَاهِي >صدمة المستقبل<.
الهوامش :
(1) ذكر المفسرون في تأويل هذه الآية : >أن الله تعالى نهى أمة الإجابة عن أن يَحْمِلَهَا البغضاءُ على ترك العدل، بل المطلوبُ منهم استعمال العدل في كل أحد صديقا كان أو عدوّا، ثم استأنف فصرّح لهم بالأمر بالعدل >اعدلوا-الآية< تأكيداً وتشديداً، ثم استأنف فذكرلهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله تعالى : >هو أقرب للتقوى< وإذا كان وجوب العدل مع الكفار بهذه الصّفة من القوة، فما الظنّ بوجوبه مع المؤمنين الذين هُم أولياؤه؟ (انظر تفسير النسفي : 1/274، وتفسير ابن كثير : 2/31).
(2) انظر معجم مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، ص : 568، وانظر أيضا : جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي، ص : 172.
(3) أنظر قواعد التصوف، للشيخ أحمد زروق، تحقيق : عثمان الحويمدي، الوحدة، تونس، 1987، ص : 38-39.
(4) لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة : >التقوى هَاهنا< وأشار إلى صدره ثلاث مرّات، والحديث رواه مسلم في صحيحه.
(5) سيد قطب، في ظلال القرآن : 1/32.
(6) جامع أحكام القرآن العظيم للإمام القرطبي : 12/56، وانظر “المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز” لابن عطية الاشبيلي، طبع وزارة الأوقاف الرباط : 12/47.
(7) القوانين الفقهية لابن جزي الأندلسي : ص : 371.
(8) جامع أحكام القرآن العظيم للقرطبي : 12/57.