هل ثمة جدوى من إجراء الحوار؟


هل ثمة جدوى من إجراء الحوار؟

في الساحة الاسلامية سؤال مطروح الآن بقوة يقول : هل أصبحت هناك جدوى من الحوار مع الآخر؟

الساحة التي أعنيها، هي تلك التي تضم المثقفين الاسلاميين من دعاة التغيير السلمي والديموقراطي، الذين كانوا دائما من أنصار الحوار واحترام الآخر، الذي أعطاه الاسلام شرعيته في نصوص عديدة من القرآن الكريم، حفظت لذلك الآخر حرمته وكرامته، لمجرد كونه انسانا، بصرف النظر عن جنسه أو ملته الدينية أو السياسية.

أما الآخر الذي اقصده فهو بوجه اخص فصائل العلمانيين من بني جلدتنا أولا، وثانيا الغربيون الذين ما برحت جامعاتهم ومراكز بحوثهم تدعونا بين الحين والآخر، ليسمعوا منا، ولا نعرف ان كانوا يختبروننا، أم يتسلون برؤيتنا باعتبارنا كائنات مشاغبة قادمة من صحاري العالم الثالث، تجرأت حتى تمردت على المشيئة الغربية القاهرة!

ادري ان الحوار واجب، واننا بغيره لن نستطيع ان نتعايش مع ذلك الآخر وربما ذكرنا البعض بأن القرآن ذاته هو في الاساس كتاب حوار حافل بالأخذ والرد، وهذا اسلم به ولا اجادل فيه، لكني اقدر ان التساؤل الذي اوردته لايسعى الى مصادرة الحوار ولكنه يعبر عن شعور بالشك في جدواه او في توافر شروطه، في المرحلة الراهنة على الاقل، من ثم فالمعروض علينا في هذا السياق، ليس ما ينبغي عمله، بقدر ما انه اثبات حالة للحاصل فعلا، اي ان كلامنا لا يتناول بطاقة علاج لمشكلة، ولكنه صورة بالاشعة تحاول تشخيص المشكلة.     الحاصل ان حالة الاستقطاب والتخندق قد بلغت احدى ذراها الفريدة في السنوات الاخيرة، منذ برزت الحالة الاسلامية وبدت تهدد هيمنة واحتكار النخب العلمانية لمنابر الثقافة والسياسة، برز ذلك التهديد من خلال اتساع نطاق القواعد الشعبية والمهنية، الامر الذي ادى الى صعود اسهم التيار الاسلامي في كل انتخابات نزيهة وحرة (ضع خطا احمر تحت الكلمتين الاخيرتين) تجري في اي مكان بالعالم العربي ، واذا بدا ان مستقبل تلك النخب المهيمنة اصبح في خطر من جراء ذلك الصعود، فانها لن تتوانى عن شن حملة ضارية وشرسة لتجريح مجمل الحالة الاسلامية ومحاولة تعويق تقدمها واحباط بنيانها بكل وسيلة مشروعة أو غير مشروعة.

ولان تلك الحالة ـ كأي نشاط انساني ـ لا تخلو من سوءات وعورات، فقد غدا هَم هؤلاء هو تكثيف الاضواء على تلك العورات، وابرازها بحسبانها التعبير الوحيد والنهائي عن الحالة الاسلامية، دون نظر فيما اذا كانت استثناء ام قاعدة، وفي تجاهل تام ومتعمد لأي اوجه اخرى لتلك الحالة.

ليس هذا فقط، وانما عمدوا من خلال المنابر التي يتحكمون فيها الى تخويف العالم من الصعود الاسلامي وتحذيره من > الكارثة < التي ستحل بمختلف القيم الحضارية ـ الغربية بالدرجة الاولى ـ اذا قدر للاسلاميين ان يكونوا شركاء في القرار السياسي، او وقعت الواقعة واصبحوا او اوشكوا هم ان يكونوا اصحاب ذلك القرار (كما حدث في الجزائر مثلا)، الامر الذي يعني في نهاية المطاف ان تظل تلك النخب هي البديل الوحيد الذي ينبغي ان يبقى، لكي يعم الاستقرار في المنطقة، ولكي تبقى المصالح الغربية في امان.

هناك كثيرون من الغربيين جاهزون لتسلم الرسالة والحفاوة بها، فحساسيتهم تجاه الاسلام واهله قائمة في الوعي او اللا وعي منذ رحلة الحروب الصليبية، ثم انهم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي يبحثون عن > عدو < يحشدون ضده الحشود ويجيشون الجيوش، وكان الاسلام هو الاوفر حظا لشغل ذلك الموقع، وقد زكاه بعض اخواننا العرب، ممن لم يقصروا في اقناع الجميع بأن الاسلام هو ـ حقا ـ > امبراطورية الشر< الجديدة.

لعب الاعلام دورا خطيرا في تعزيز الهواجس وتأجيج المخاوف، ومن ثم تعميق الفجوة بين الطرف الاسلامي وذلك الآخر باختلاف مستوياته، بعدما ألح على تثبيت فكرة ان الارهاب هو الاصل، وان الحالة الجزائرية هي التعبير النموذجي عن الحالة الاسلامية (لاحظ انهم لا يشيرون الى أي نجاح للمشاركة السياسية الاسلامية في الاردن أو اليمن أو الكويت، ولا يذكرون نجاح الاسلاميين في ادارة النقابات المهنية بمصر)، وان الاسلام ليس قيمة محفوظة في كتاب الله ولكنه افعال شواذ الخلق وحمقاهم.

في مقال >سابق<…اشرت الى ماكتبه احد المثقفين ممن اعتبروا الحالة الاسلامية كلها تطرفا ، من جبهة الانقاذ في الجزائر الى جماعة >الجهاد< المصرية، الى الجماعة الاسلامية في باكستان، وكان اقصى مافتح الله به عليه من معارف تتعلق بتلك الحالة ان شبابها يسرقون محلات الذهب ويعملون في تزييف العملة وتهريب المخدرات وانهم يحرمون الصور والمذياع، وقد تقاتل بعضهم مع بعض بسبب بعوضة وحين حاول ان يفهم الظاهرة او يفسرها فانه استنكر تأثير الظروف البيئية الاقتصادية والسياسية ولم يجد لها تفسيرا علميا الا فيما اسماه بسيكولوجية العصابة!

هذا الكلام نموذج واحد لكتابات بلا حصر تتدفق كالسيل في زماننا، ولا ترى في الحالة الاسلامية الاما هو بائس وتعيس، وقد تفنن اصحاب تلك الكتابات في نحت اوصاف التحقير للاسلاميين، فصاحبنا الذي اشرنا اليه توا سماهم >المتمسلمين<، بينما >اجتهد< آخر واطلق عليهم >المتأسلمين< وفي مذهب ثالث اطلق عليهم وصف >الاسلامويين< الى غير ذلك من اساليب اللعب بالالفاظ التي تعمد الى التنطح اللغوي باكثر مما تحاول طرح موضوع للبحث والمناقشة.

في اكتوبر الماضي جرت بمصر مناقشة حول مسألة الجبهة الوطنية وشارك بعض كتاب اليسار في المناقشة، وفيما دعا احد عقلائهم الى اشتراك الاسلاميين في تلك الجبهة، فان احد غلاتهم اعترض على الفكرة التي اعتبرها بمثابة تحالف مع >الشيطان< (!) وكتب في جريدة >الاهالي< (عدد 2010)الناطقة باسم حزب التجمع اليساري منتقدا فكرة المشاركة وقائلا عن صاحبها : ماذا يقول للشعب عندما تدوسه اقدام >التتار المتاسلم<؟ وماذا يقول للديموقراطية عندما تعتبر بدعة نصرانية؟ وماذا يقول للاقباط عندما تفرض عليهم الجزية، يدفعونها وهم صاغرون؟ وماذا يقول للمرأة عندما تعتبر عورة كلها أو بعضها؟… وماذا يقول للنقابات عندما تحل وللاحزاب عندما تلغى والبرلمان عندما يعتبر كفرا لانه يشرع..وقيام البشر بالتشريع حرام بل كفر؟!

هذه صورة اخرى نموذجية لاغتيال الحالة الاسلامية في اسطر قليلة، حيث تبدو جيشا تتاريا ينقض على المجتمع بكل قيمه ومؤسساته، لا تسأل اين هؤلاء الذين يتحدث عنهم الكاتب، ولا ما هو وزنهم، لان الرجل لايريد ان يراهم الا على تلك الهيئة المزرية!

عندماتتكرر هذه اللغة ويصبح صوت اولئك الغلاة من العلمانيين هو الاعلى، ويختفي البعض بذلك الخطاب باعتباره يخدم اجواء المواجهة الراهنة بين عدد من الحكومات وبين الحالة الاسلامية، عند ذلك هل يبقى ثمة امل في نجاح حوار من أي نوع مع ذلك الاتجاه؟

هذا الحاصل عندنا يحدث نظير له على مختلف المنابر الاعلامية الغربية، حتى ليذهل المرء من كتابات تحفل بها الصحف الغربية تتفنن في ابراز كل عورات الظاهرة الاسلامية، وتبني عليها ما شاءت من مخاوف تصل الى حد الترويع، وهي في ذلك لا تتورع عن الاختلاق والتغليط، فانت تجد مثلا كاتبة محترمة مثل السيدة فلورالويس تكتب في صحيفة >نيويورك تايمز< (عدد 99) محذرة من نشاط الاصوليين الذي هو >اشد خطورة على حرية وسلام العالم< وتدعى ان عالما جليلا مثل الشيخ محمد الغزالي قال في شهادة له ان >العلماني يمثل خطرا على المجتمع والدولة يجب التخلص منه، وانه من مسؤولية الحكومة ان تقتل ذلك العلماني (وهو مالم يقله الشيخ). بغير حصر تلك الكتابات الغربية التي تتحدث عن الاسلاميين بحسبانهم >الخطر الاخضر< بديلا عن الخطر الشيوعي الاحمر، و >حزام الشر الزاحف< و >البرابرة القادمون<، و >عتاة الارهابيين<، و >قاطعوا الايدي< وهي صفات تروجها الصحف وتلح عليها البرامج التليفزيونية، الامر الذي يثير في النهاية ذات السؤال : هل هناك جدوى من الحوار؟

احيانا يتسرب اليأس الى اعماق المرء، ويستعيد الآية القرآنية التي تقول بأن اليهود والنصارى لن يرضوا عنا الا اذا اتبعنا ملتهم، ويبدو ان ذلك دأب المخالفين جميعا، بمن فيهم العلمانيون الذين لن يرضوا بدورهم الا اذا نفضنا ايدينا مما نحن عليه، واتبعنا ملتهم.

يجد المرء بعض السلوى والامل حين ينتبه الى ان الاصوات الاعلى ليست بالضرورة هي الاصوات الاصدق، وربما كانت الاكثر انفعالا وغوغائية، وان السنابل الفارغة هي التي تبدو دائما منتصبة العود وظاهرة للعيان، اما المليئة فعادة ما تكون منحنية وخافية.

لقد دعوت من قبل الى التفرقة بين المعتدلين والغلاة من العلمانيين، وقلت اننا نقر بأن ذلك التصنيف قائم بين الاسلاميين، لكن البعض يظن ان معسكر العلمانية مبرأ من كل داء، وان عناصره كائنات نموذجية فوق اي شبهة، وهو منطق يشكل حاجزا آخر يحول دون استمرار اي حوار فضلا عن انضاجه.

اننا لن نستطيع ان نقيم سلاما حقيقيا مع غيرنا الا اذا اقتنع الجميع بأن الغلاة موجودون على الجانبين، وان الكارثة الحقيقية ستقع اذا ما ظلت ساحة المواجهة حكرا على الغلاة في هذا الطرف او ذاك، بينما طوق النجاة الحقيقي يتمثل في تقدم المعتدلين من الفئتين واخذهم مكانهم في الساحة، فهؤلاء وحدهم المؤهلون للحوار، اما من عداهم فقد ثبت انهم يفسدون ولا يصلحون ويقطعون ولا يصلون.

اما اذا ظل صوت الاعتدال محجوبا او محبوسا، فالكلام عن الحوار سيظل من قبيل التغني بقيمة لا تتوافر لها شروط النهوض او الإحياء.

وفي هذه الحالة فلا يلام احد اذا انصرف عن الحوار بحثا عما هو اجدى!   عن الشرق الأوسط ع 5459

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>