كيف نتعامل مع القرآن (1)


كيف نتعامل مع القرآن (1)

قام الدكتور أحمد حسن فرحات بإلقاء هذه المحاضرة في مدينة فاس يوم 21/11/1993. وهو يدرس حاليا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية/قسم الدراسات الإسلامية بجامعة الإمارات العربية المتحدة.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شكر واعتراف بالجميل :

انا مدين في تكويني ودراساتي إلى المغرب الشقيق. فلقد جئت لأول مرة في سنة 1972م باحثاً عن مكي بن أبي طالب القيسي، والذي وجدت معظم آثاره في الرباط وفي فاس وفي غيرها من مدن المغرب، وهذا ماجعلني أتردد على المغرب لعدة مرات بحثاً عن هذا العالم الكبير الذي ولد في القيروان وتوفي في قرطبة، ثم جاءت آثاره إلى المغرب مع آثار القادمنين من الأندلس . وفي الحقيقة ما أشار أليه أخي وزميلي الدكتور الهراس من مؤلفات مكي التي كتبتها أو التي حققتها، فأنا مدين بها للمغرب وقد كتبت في مقدمة كتابي شكراً للمغرب وللحفاوة التي لقيتها فيه، وكذلك للرعاية التي كنت أجدها في الخزانة العامة بالرباط وفي غيرها من مكتبات المغرب الشقيق، ففي الواقع هذه بضاعتكم ردت إليكم، وماعندي وما كتبته وماحققته إنما هو منكم وإليكم. فلست بجالب سلعة من المشرق وإنما أنا أتحدث بما وجدته في المغرب وبما تعلمته من المغرب وبما لقيته في المغرب، والإعتراف بالفضل لا بد منه دائما وأبداً وهذا من الوفاء الذي ينبغي أن نلتزم به وأن نشعر أننا نؤدي كذلك خلقا من الأخلاق التي يطلبها منا الإسلام.

أثر القرآن وتحويله للأمة من حالة الى حالة :

القرآن الكريم هو كتاب هذه الأمة الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله (ص)، وإذا أردنا أثر هذا الكتاب في هذه الأمة فلنذكر فيما كانت عليه الأمة قبل القرآن وفيما صارت إليه بعد القرآن. هذا التحول الذي حصل في هذه الأمة يعود إلى القرآن بالدرجة الأولى، كنا قبل القرآن أمة أمية، والذي يحسن فينا القراءة والكتابة كان قليلا حداً، وبعد القرآن أصبحت الأمة أمة علمية لها من المؤلفات ومن الكتب مالا يحصى، مانشر من مخطوطات هذه الأمة، يعادل 1/10 من مجموع هذه المخطوطات 9/10 التراث الإسلامي مازال مخطوطا ينتظراليد الحانية، التي تعمل على تحقيقه ونشره وإظهاره للناس لكي يستفيدوا منه، ولاغرابة في ذلك، فإن أول آية في القرآن نزلت هي “إقرأ باسم ربك الذي خلق” .

فمن أمة أمية لا يكاد يذكر فيها عدد الكاتبين والقارئين إلى أمة علمية من الطراز الأول، ومن أمة مجهولة في التاريخ في ذلك الوقت إلى أمة في مقدمة الركب بعد القرآن الكريم، في خلال أقل من 100 سنة كانت الدولة الإسلامية تمتد من أندونيسيا شرقا إلى جنوب فرنسا غربا أقل من 100 سنة على نزول القرآن.

السيادة التي كانت في العصرالجاهلي للعرب كانت محصورة في نطاق الجزيرة العربية، حتى أطراف الجزيرة العربية كانت تدين إما للمناذرة وإما للغساسنة وهم طبعا عملاء إما للروم أو الفرس. السيادة أصبحت للدولة الإسلامية التي خرجت من الجزيرة العربية وامتدت ذلك الإمتداد الشاسع، كل هذا تم بفضل القرآن الكريم، فما الذي حصل؟ ما الذي فعله القرآن بهذه الأمة؟

الذي فعله هو أنه أحيا هذه الأمة “ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم”، “وكذلك أوحينا روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان” فالقرآن روح، والقرآن حياة. هذه الحياة قلبت الناس رأسا على عقب من أمة أمية جاهلية إلى أمة إسلامية علمية، من أمة تكاد لا تظهر سيادتها على أرضها إلى أمة معلمة سائدة تنقل الخير إلى الناس في المشرق والمغرب وفي كل مكان، هذا التحول الكبير لا يمكن أن يتم إلا بكلمات الله الموحية المحركة التي تجعل الحياة تدب في الموات من الناس. وأحسن تعبير في القرآن ماعبر الله به “وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ماالكتاب ولا الإيمان”، يكفي أن تعلموا أن امرأة كالخنساء كانت تبكي أخاها صخرا الذي فقدته وتقول فيه قصائد طويلة. ثم بعد أن دخلت الإسلام تتحول إلى امرأة أخرى غير تلك المرأة. يُقتل أولادها الأربعة في معركة واحدة فلا تزيد على أن تقول >الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجوا من الله أن يجمعي بهم في مستقر رحمته<.

هذاالتحول في النفس الإنسانية تحول كبيرجدا لا يمكن أن يقاس، ولا يمكن أن يقارن بين ما كان عليه وضعها في الجاهلية وبين ما أصبح عليه وضعها في الإسلام إذاً تأثير القرآن في الواقع كان تأثيرا هائلا جدا، وما تزال إلى اليوم آلاف والملايين من المسلمين في كل مكان يعكفون على القرآن يتلونه آناء الله وأطراف النهار، يشعرون فيه بالراحة، ويشعرون فيه بالروحانية، ويشعرون بأنهم يعيشون مع الله حينما يتلون القرآن الكريم، لكن الذي ينبغي أن نقوله هنا أن تأثير القرآن في نفوس الناس تأثير قليل إذا ماقيس بتأثيره في عقل الصحابة والتابعين والرعيل الأول من الأمة الإسلامية. فما هو السبيل إذا؟ لماذا كان القرآن يأثر قديما أكثر مما يأثر الآن؟

التلقي الحسن للقرآن هو سر التحول :

القرآن لم يتغير هو هو. ولكن طريق التلقي طبعا طريقة فهم القرآن، طريقة التعامل مع القرآن هي التي تغيرت، كان العرب على مقدرة في لغتهم وعلى فهم مفرداتها وأساليبها وكانوا يستطيعون أن يتدوقوا القرآن على الرغم من أنهم كانوا يعادونه ولا يرغبون فيه لأنهم كانوا يتصورون أن معركتهم مع الإسلام معركة مصالح لكنهم مع ذلك لما كانوا يسمعون القرآن كانوا يتأثرون وهم على شرك، وكان يوصي بعضهم بعضا بأن لا يستمع مرة أخرى حتى لا يأثر فيه، “ويقولون لا تسمعوالهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون”، إذ القضية قضية غلبة، قضية مصارعة، قضية معركة هذا الذي كان يدفعهم إلى عدم الإستماع خوفا من التأثر الذي يمكن أن يؤدي إلي الإسلام. وكلنا نعرف قصة إسلام عمر وقصة تولي الوليد بن المغيرة حينما سمع القرآن ومع ذلك اعترف بأن فيه “لحلاوة وأن عليه لطلاوة وأنه ليعلو ولا يعلى عليه”.

هذه كلها تدلنا على دالة تأثير القرآن في ذلك الوقت، نحن الآن لغتنا العربية ضعيفة، ولما نريد أن نقرأ القرآن في كثير من الأحيان لا نتدوق النص القرآني، ولا نفهم المراد به. وقد شاع عندنا أن قراءة القرآن وحدها كافية. وأن في كل حرف عشر حسنات، وهذا صحيح من الناحية الأجر عند الله تعالى. لكن القرآن الكريم حينما أمرنا الله بقراءته وتلاوته لم يأمرنا به لمجرد القراءة والتلاوة، وإنما القراءة والتلاوة ينبغي أن تؤدي إلي الفهم، والفهم ينبغي أن يؤدي إلى العمل، ولذلك نجد كثرة الأمر بقراءة القرآن لهذا الغرض، لكي نفهم ولكي نعتبر ولكي نستخرج الأحكام والعبر والدلائل في القرآن الكريم “أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها”، إذا هناك أمر بالتدبر، هناك أمر بالعقل بالفهم، ينعي القرآن على الذين يقرأون ولا يفهمون وعلى الذين لا يتدبرون القرآن. ويستغرب بعض السلف كيف يمكن للإنسان أن يقرأ القرآن بدون فهم، ثم بعد ذلك يشعر باللذة وبالسعادة والتأثر، ويقول أحد السلف أيضا >نزل القرآن ليعملوا به فاتخذوا قراءته عملا<. إذا القراءة وسيلة إلى الفهم والفهم وسيلة إلى العمل، فنزل القرآن ليعملوا به فاتخذوا قراءته عملا. وهذا ولا شك مسخ للحقيقة وللوظيفة التي من أجلها جاء القرآن الكريم. فلذلك نجد الشاعر محمد إقبال مثلا حينما كان صغيرا كان والده يقول له : يابني اقرأ القرآن، فيذهب فيقرأ ثم يعود، فيقول له يابني أقول لك اقرأ القرآن فيقول : لقد قرأت، ثم يقول له اقرأ القرآن، حتى ضاق ذرعا بهذا الكلام، وقال له ماذا تريد؟. قال له : >أردت أن أقول لك اقرأ القرآن كأنه نزل عليك< يعني افرض نفسك أنك نزل عليك القرآن، ومطلوب منك أن تبلغه إلى الناس. فهنا لا يمكن أن تُبلغه للناس إلا إذا فهمته ويقول >منذ ذلك اليوم بدأت أتفهم القرآن وأقبل عليه فكان من أنواره مااقتبست ومن بحره ما نظمت<.

إذن أن يقرأ القرآن بهذه الطريقة لأنه مكلف بأن ينقله إلى الناس، وحتى ينقله إلى الناس لابد أن يكون فاهما له، وحتى يكون فاهما له لابد أن يتدبر فيما يقرأ وأن يعمل على دراسته وفهمه. ليبلغه بعد ذلك إلى الناس حَيًّا يُرى ويُسمع.

شهادة الأمة تطلب الفهم :

ومعروف أن هذه الأمة هي آخر الأمم، ومعلوم أنه بعد النبي (ص) ليس هناك نبي وأن هذه الأمة تنوب مناب النبي. ولذلك قال الله تعالى : “كنتم خير أمة أخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله”.

إذن نحن نريد أن نقدم بهذه الأمور، نريد أن ننقل هذا القرآن للناس، وأن نخرجهم به من الظلمات إلى النور، وحتى ننقله لابد أن ننقل أنفسنا أولا إلى هذا الأمر، ويكون ذلك بالعكوف علي القرآن بدراسته، بفهمه ثم بالعمل به.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>