تمهيد :
إذا تأملت في رسالة الاسلام فإنك واجد من بين أهدافها الكبرى إيقاظ العقل البشري، وتنبيهه، وذلك من أجل أن يعود إلى رشده، ويثوب إلى وعيه باستمرار فيرى نفسه والحياة من حوله على الحقيقة فيقف من ذلك موقفا جادا دافعا إلى القيام بالمسؤولية .
والقرآن الكريم يزخر بالالفاظ الدالة على الوعي والانتباه كالعقل والعلم والفكر والتدبر والذكر والفهم وغيرها مستعملة بصيغ وأساليب متنوعة . والآيات في هذا المجال كثيرة جدا . فمن ذلك قوله تعالى : >إن في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الالباب..< (آل عمران : 190-191) وقال سبحانه يصف القرآن الكريم : > وما هو إلا ذكر للعالمين < ( القلم : 52 ) وقال أيضا : > كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آ ياته وليتذكر أولوا الالباب < ( ص:29 ) ،إلى غير ذلك من الآيات التي تنبه على فضيلة التفكر في الكون والتدبر في القرآن حيث الشواهد والدلائل التي لاتحصى على حقيقة وجود الله تعالى وصفاته العليا وما يتفرع عنها من الحقائق . فإذا ما تأملنا في حقيقة ذلك الوعي الذي تهدف إليه رسالة الاسلام، فإنا نجد من العمق بحيث ينتبه به الانسان إلى الفكرة الصغيرة تخطر بالبال، والكلمة الواحدة ينطق بها اللسان، والحركة البسيطة التي تصدر عن جارحة من جوارح الانسان، فهو يقف عند كل ذلك ليزنه بما يوزن به الذهب الخالص النفيس !، هي درجة رفيعة من الوعي حقا، لايمكن أن يصل إليها إلا من وفقه الله عز وجل، غير أن القرآن الكريم يعلمنا أن علوها ينبغي أن يكون دافعا إلى المسارعة إليها لا أن يكون سببا في اليأس من بلوغها . ولعل مما يبشر في هذا المقام -ويهون تكاليف السير والارتقاء- قوله تعالى : > والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين <( العنكبوت: 69) وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل :>إذا تقرب العبد إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة<
خطورة الفلتات اللسانية :
ونريد في هذا المقال أن نقف مع القارئ الكريم وقفة نتحدث فيها عن درجة رفيعة من الوعي الذي يهدف الاسلام إلى تحقيقه في الشخصية المسلمة وذلك من خلال هذا الحديث الشريف الذي أخرجه الامام البخاري في صحيحه ( كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان…حديث رقم:6478) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: >إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم<.
إن أول مايلاحظ في هذا الحديث أنه يركز على بيان حالة من الاحوال التي لايكاد يسلم منها أحد، وهي حالة اللامبالاة التي تصاحب كثيرا من الكلام الصادرعن الانسان، حتى ان الناس وضعوا في ذلك أمثالا، كقولهم: >اللسان مافيه عظم<، وهو مثل شائع عندنا، نشير به إلى شدة تفلت اللسان وعدم استقامته على وضع منضبط كما أننا نستشهد به في تبرير الكلمة الطائشة والقول الذي خلف جرحا عند السامع محاولين من خلال ذلك بيان الفرق بين القصد الدفين في القلب والمعنى الذي دل عليه الكلام المغلوط، عسانا بذلك نرمم ما انهدم من المودة في علاقاتنا الاجتماعية.
ولا أظن أن لهذا المثل أساسا متينا في الشرع، لانه يبرر حالة اللامبالاة التي تصبغ كثيرا من الكلام الرائج بيننا. والحديث الذي بين أيدينا يركز أساسا على بيان خطورة تلك الحالة. وذلك أن الاشارة إلى كلمة الرضوان-في الحديث-إنما جاءت عرضا وليست هي المقصودة أساسا، والسياق يدل على أن المقصود هو بيان عدل الله عز وجل في محاسبة الانسان كما يدل في نفس الوقت على موقف سلبي صادرمن الانسان الذي لايعي ما يقول. وبالنسبة لهذا المعنى الاخير فانه يظهر من خلال تكراره صلى الله عليه وسلم لقوله:>لايلقي لها بالا< في وصف الحالتين.
قال ابن حجر في شرح هذه العبارة:>أي: لايتاملها بخاطره ولايتفكر في عاقبتها ولايظن أنها تؤثر شيئا، وهو من نحو قوله تعالى ( وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم)<.
وهذا الحديث وإن كان ينص على عدم تاثير اللامبالاة في الكلمة الطيبة حيث يثبت بها الاجر، إلاأنه لاينبغي أن يفهم منه تبرير اللامبالاة، وذلك أن الغالب على الانسان نزوعه إلى الزلل إلا أن يتعهد نفسه بالتربية.
التيقظ يقي المزالق:
إن النبي صلى الله عليه وسلم ينبه على نوعين من الكلمة. أما النوع الاول فهو وإن كان طيبا إلا أن عدم المبالاة يحرم صاحبه من معرفة فضله وقيمته مما يعتبر دافعا إلى الاكثار منه حتى يزداد ارتفاعا في درجات الرضوان. وأما النوع الثاني فلاشك في دلالته على قبح الغفلة واللامبالاة وخطورتهما بما تسببانه من الهلكة والخسران.
ولذلك فقد عنون الامام البخاري الباب الذي أورد فيه هذا الحديث بقوله:>باب حفظ اللسان، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، وقوله تعالى(ومايلفظ من قول إلا لديه رقيب)<، إشارة منه -رحمه الله-إلى وجوب التيقظ ، وتوطين النفس على اختيار الموقف المحمود في مسألة الكلام، واصطفاء الكلمات ووزنها، والتنبه إلى ما فيها من الخير أوالشر. وقد أخرج البخاري في هذا الباب أيضا عن ابي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :> إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها ، يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق<. فهي دعوة نبوية الى التبين. والتبين عملية تحتاج الى علم وبصيرة واناة ، قال ابن حجر:> ( ما يتبين فيها ) أي: لايتطلب معناها، أي لا يثبتها بفكره، ولايتاملها حتى يتثبت فيها فلا يقولها إلا إن ظهرت المصلحة في القول<.
وعندما نقف امام عبارات نبوية من مثل قوله صلى الله عليه وسلم >يهوي بها في النار سبعين خريفا<، >يزل بها في النار ابعد مما بين المشرق< مع أن هذه الكلمة” لم يلق لها بالا” و”لم ير بها بأسا” و “ما يظن أن تبلغ ما بلغت ” ، عندما نقف امام كل ذلك نستشعر خطر الكلمة، ونحن نشهد في الواقع ما يدل على ذلك ، فكم من كلمة طائشة فرقت بين المرء وزوجه ، وكم من كلمة تخرج بالشخص من دائرة المروءة وهو غيرمبال، وكم من كلمة تافهة تسببت في عداوات وضغائن…هي انواع واشكال من الجرائم والقبائح كان السبب فيها مجرد كلمة . إن الكلمة السيئة قد تسري في الناس فتحدث من الدمار مالايحدثه شيء آخر، ولا أدل على ذلك من ذلك المشهد المفزع الرهيب الذي يرسم صورة لشخص وهو يهوي بسرعة مهولة ولمدة طويلة جدا في مكان سحيق في النار. فإذا كان هذا هو حال من ينطق بالكلمة وهوغيرملق لها بالا، فكيف يكون حال من يفكر ويقدر ويتأمل وينظر ثم يرمي بالكلمة في العالم المسموع لا يعلم إلا الله عز وجل ما يمكن أن تتركه من أثر سيء في البلاد وفي العباد. إن النبي صلى الله عليه وسلم- بما أوتي من خصائص التربية الحكيمة- يريد من المسلم أن يرتقي في درجات الوعي، فينتبه إلى كل كلمة قبل أن ينطق بها، فإن كانت شرا أمسكها، وإن كانت خيرا أرسلها في الخلق هادية إلى الحق تتسرب إلى القلوب لتزهر وتنبت الخير والفلاح. وقد ذكر ابن حجر أقوالا عدة في تحديد نوع الكلمة التي هي من رضوان الله والتي هي من سخطه، وهي أقوال تتعلق بنوع خاص من الكلام مثل قول ابن عبد البر :>الكلمة التي يهوي صاحبها بسببها في النار هي التي يقولها عند السلطان الجائر، وزاد ابن بطال: بالبغي أو بالسعي على المسلم فتكون سببا لهلاكه، وإن لم يرد القائل ذلك ، لكنها ربما أدت إلى ذلك فيكتب على القائل إثمها <. غير أن الامام ابن حجر نقل في الاخير عن العز بن عبد السلام قال :> هي الكلمة التي لايعرف القائل حسنها من قبحها، قال : فيحرم على اللسان أن يتكلم بما لا يعرف حسنه من قبحه<.
وهذا الذي قال العز شامل لكل أنواع الكلام وعام فيها من حيث الحسن والقبح. ويظهر أنه أقرب في الدلالة على مقاصد الحديث. ولذلك فقد ساق الامام النووي تلك الاقوال في سياق التمثيل فقال:> كالكلمة عند السلطان وغيره من الولاة وكالكلمة تقذف أو معناه كالكلمة التي يترتب عليها إصرار بمسلم ونحو ذلك وهذا كله حث على حفظ اللسان كما قال صلى الله عليه وسلم : > من كان يؤمن بالله واليوم الآخرفليقل خيرا أو ليصمت<. وينبغي لمن أراد النطق بكلمة أو كلام أن يتدبره في نفسه قبل نطقه فإن ظهرت مصلحته تكلم وإلا أمسك<.
وهكذا يتبين من هذا الحديث حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيقاظ العقل المسلم ليبقى في حالة من الوعي الدائم والانتباه المستمر، وهي حالة تنعكس نتائجها الطيبة وتظهر آثارها الحسنة على اللسان ثم بعد ذلك على سائرالجوارح .