ما أُصِيبَ المسلمون بالجمود والتخلف والتمزُّق إلا يوم ابتعادهم عن المصدرين الأساسيين للإسلام، وهما : الكتاب والسنة.
وإِدْرَاكاً لهذه الحقيقة فُتِحَ هذا الركن بالجريدة لإحياء روح الثقافة الإسلامية الأصيلة، ورَبْطِ الأمة بروحها الذي أعطاها البُعْدَ الحضاريَّ بين مختلف الحضارات السابقة والحاضرة واللاحقة.
وليس الهدفُ تفسيرَ القرآن من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، فهذا أمر قد تَكَفَّلَتْ بِهِ التفاسيرُ الكثيرةُ المتنوعةُ، ولَكِنَّ المقصودَ هو العَيْشُ مع كتاب الله عز وجل من خلال آيات من مختلف السور، نُقَدِّرُ أَنَّ في تَنَاوُلِها فَائِدةً عظيمةً للقراء الْبَعِيدِينَ عَنْ هذا المَيْدَانِ بفعل ظُرُوفِ العَمَلِ، أو ظُرُوفِ النَّبْعِ الثَّقَافي الذي يُغْتَرَفُ منه، إلى غير ذلك من الأسباب والعوامل.
فهذا الركن ليس للخَاصَّةِ، وإنما هو لِعَامَّةِ الأمة الذين انْسَدَّتْ في وجوههم منابِعُ الثقافة الإسلامية المُيَسَّرَةِ، وعلى رَأْسِها المسجدُ الذي حَفِظَ على الأمة ثقافَتَها عَبْر العُصُور، إلا أن دَوْرَ ه عُطِّلَ في هذا الجانب، فكان لِزَاماً على العلماء والخَاصَّةِ والدُّعَاةِ أَلاَّ يتركُوا الأمة مُهَمَّشَةً تَتَنَاول ثقافتها من الإعلام المُلَوَّثِ. فلهذا السبب كان هذا الركنُ، وركنُ مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووكنُ السيرة النبوية، فإنْ أَصَبْنَا في اجْتِهَادنا فمن الله تعالى وحدَه التوفيقُ، وإنْ أَخْطَأْنا فمِنْ أنفسنا. فَعَلَى القراء الكرامِ توْجِيهُ النُّصْح والإرشاد للجريدة لتَعْمَلَ على أن تكون جريدة كلِّ مسلمٍ ومُسْلِمةٍ في أيِّ مستوىً كَانَ، فذلك هُو هَدَفُنا نسأل الله أن يعيننا على تحقيقه بفضل تَوْجِيهَاتِكُمْ وَ رِعَايَتِكُمْ لَهَا.
>شَهِدَاللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَ الْمَلاَئِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ< (19 سورة آل عمران).
التفسير :
بيّن وأعْلَمَ الله تعالى عبادَه بانفراده بالوحدانية في الربوبية المتمثلة في خَلْقِ الكَوْنِ ورِعَايَتِهِ بالعَدْل والقُسْطَاسِ المستقيم، لا يجُورُ كوكبٌ على كوكبٍ، ولا بَحْرٌ على أرض، ولا يتمَرَّدُ حيوانٌ على إنسانٍ، أو حركاتُ عين أوسمع على نبضات قلب وقوة فكر. بل الكُلُّ يَمْشِي في توازنٍ عجيب يُعْطِي الأدلةَ المحسوسةَ على وَحْدَانِيَّةِ رَبِّ الكون، كما يُعْطِي الأدِلَّةَ العَقْلِيَّةَ على هذه الوحدانية، إِذْ العقلُ لا يُجِيزُ أن يكون للكون إِلَهَانِ أو أَكْثَرُ وَ يَبْقَى قائماً بِدُونِ خَلَلٍ أو فَسَادِ فالتعدُّدُ يَسْتَدعي بَدَاهةً النَّنَازُعُ، والتنازعُ يُؤَدِّي إلى الخرابِ والفسادِ فالله تعالى، من عظيم فَضْلِه، وعمِيمِ رَحْمَتِهِ، يُرْشِد الإنْسَانَ إلى الكَوْنِ ليَتَدَبَّرَهُ ويَعْرِفَ من خِلال التدبُّرِ فيه خَالِقَهُ ومُنْشِئَهُ، ورَاعِيَهُ، ومُنَظِّمَ شُؤُونِه، فإذا مَا اقتنعَ بأنّ للكونِ ربّاً متحكِّماً في كل ذَرَّةٍ من ذراتِهِ، وجُزْئِيَّةٍ من جُزْئياته، جَرَّه ذلك إلى التذَلُّلِ والخُضُوعِ والطاعَةِ للمُهَيْمِنِ والمُسَيْطِرِ على كُلّ ما في الكونِ من سماء وأرْضٍ، وإنْسَانٍ وحَيَوان، وتلك الطاعةُ هِيَ الإقْرَارُ العمليُّ والتنفيذيُّ للَّهِ بالأُلُوهيَّةِ، أيْ اسْتِحْقَاقِهِ سبحانه وتعالى أنْ يَكُونَ هُو مُتَفَرِّداً بالطاعَةِ، لا يشاركُه فيها غيرُه. وإلا كان الإنسان عَاقّاً لِرَبِّه، مُتنَاقِضاً مَعَ نَفْسِهِ، لأنه لا يُعْقَل نهائيا أن يُعْبَدَ مَن لا يَمْلِك نَفْعاً ولا ضرّاً للإنسان، ويُعْصَى من بيده مصيرُه كُلُّهُ في الحياة وبعد الممات، ذلك هو الحُمْقُ والجَهْلُ والعَبَثُ الذي يستَنْكِرُه الإنسان في تعَامُلِه مع أخيه الإنسان، فالإنسانُ يَسْتَهْجِنُ ويَسْتَقْبِحُ تمرُّدَ ابنه، أو بنْتِهِ، أو زَوْجتِه، أو تلميذِه عَلَيْهِ، لأن لَهُ على هؤلاء دَالَّةً ونعمةً ويَداً، فما بَالُك بتمرُّدِ موظفٍ على رئيسِه، أو عَسْكريٍّ على قائدِه، أو وزير على مَلِكِه، فأَهْوَنُ عِقَابٍٍ يَنْزِلُ بهؤلاء المعارضين الطَّرْدُ أو السِّجنُ، أو التَّشْوِيهُ والتَّجْويعُ، وأقْسَاهُ الإعْدَامُ والإعترافُ بهذهِ الحقيقةِ التي من أجْلِهاَ بَعَث اللهُ الرُّسُلَ لِلأقْنَاعِ بِهَا، يُؤَدِّي إلى نَتِيجَتَيْنِ وَاضِحَتَيْنِ :
أولاَهُمَا : أنَّ مَن اعترف باسْتِحْقَاق الله تعالى وَحْدَهُ بالعبادَةِ والطَّاعَةِ، لا يمكن أن نَتَصَوَّرَ مِنْهُ توجُّهاً لِغَيْرِ الله بالطاعَةِ والامتثالِ، والتَّضَرُّعِ والإبْتِهَالِ، سواءٌ كَانَ غَيْرُ الله صَنَماً من حَجَرٍ أو بَشَرٍ أو بَقَرٍ، أو كان صنَماً من الأهْوَاءِ والشهَوَاتِ والقوانين التي يَضَعُهاَ البشرُ لإِسْتِغْْلال أخِيهِ أَسْوَأَ اسْتِغْلاَلٍ.
ثانِيهِمَا : أَنَّ مَنْ عَرَفَ هَذهِ الحقيقة -حَقِيقَةَ اسْتِحْقاقِ الله وَحْدَه العِبَادَة- هُوَ في مِيزَانِ اللَّهِ تعالى العَالِمُ الحَقُّ الذي شَهِدَ شَهَادَةَ الحَقِّ بِأَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ سُبْحَانَهُ وتعالى، وبذلك استحَقَّ أَنْ يَرْفَعَهُ الله إلى دَرَجَةِ مَقَامِ الشَّهَادَةِ مع اللهِ والمَلاَئِكَةِ، وأَعْظِمْ بِهَا دَرَجَةً يَسْتَحِقُّ بِهَا الرِّعَايَةَ في الدُّنيَا، والفوزَ في الآخرةِ، لأَنَّهُ حقَّقَ في نفسِهِ العُبُودِيَّةَ لِلَّهِ، ومَنْ وَصَلَ إلى دَرَجَةِ العُبُودِيَّةِ كَفَاهُ الله تعالى كُلَّ هَمٍّ، وكَان مِنَ العُلمَاء العامِلين، والدُّعَاةِ المُتحرِّكِينَ، والأَوْلِيَاءِ المقرَّبِينَ، والأبْرَارِ المُكَرَّمِينَ.
ولا فَرْقَ في هذا الميزانِ بين قارئٍ وأمّيٍّ، وبيْنَ حَامِلٍ أعْلَى الشهادات وعَاطِلٍ عن أيّة شَهادةٍ، فَمَا يَفُوزُ بالجنةِ حَمَلَةُ شهادَةِ الكُفْرِ والطُّغْيانِ، والباطِلِ والعُدْوان، ولكنْ يَفُوزُ بها حَمَلَةُ شهادَةِ الإيمان باللّه ربّاً وبالإسلام دِيناً وبمحمدٍ نبيّاً ورسُولاً، فَهؤُلاء في ميزان الله تعالى هُمْ العُلَمَاءُ، وأولئك هُمْ الجُهَلاَءُ، انظُرْ إلى قول الله تعالى >هُوَ الذِّي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهِمْْ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ والحِكْمةَ وإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِىنٍ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وهُو العَزِيزُ الحَكِيمُ< (سورة الجمعة). وتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ اللهُ تعالى مِن هَؤُلاءِ الأمِّيِّينَ خَيْرَ أمَّةٍ أُخْرِجَتْ للِنَّاسِ وقَارِنْ بَيْنَ حَالَتِنَا الغُثَائِيَّةِ -على مَا عِندَ الأمَّةِ مِنْ مَلاَيِين الشَّهَادَاتِ العُلْيَا- ومَا وَصَلَتْ إلَيْهِ الأمَّةُ المَشْهُودُ لَهَا بِالخَيْرٍيَّةِ فِى ظَرْفٍ وَجِيزٍ، تَعْرِفْ أنَّ شَهَادَاتِنَا الْيَوْمَ تَحْتَاجُ إلى الْعِلْمِ الذِي يَدْفَعُ الإنْسَانَ إلى مُرَاجَعَةِ الْقِرَاءَةِ لِلْكَوْنِ وَ النَّفْسِ بِاسْمِ رَبِّ الْكَوْنِ والإِنْسَانِ، وإِلاَّ كَانَ الإِنْسَانُ فِي خُسْرٍ مُبِينٍ.
مما يستفاد من الآية :
1) من خصوصيَّة الرُّبُوبيَّة الحقَّة ولوازمِها : القدرةُ الشاملةُ، والعلمُ المُحيطُ بكل شيء، والحياةُ الدائمة، لأن القيام برعاية الكون يستدعِي ذلك بالضّرُورَة، ووُجُودُ الكون قائما بدون خلل يُعْطِي الدَّليلَ على أن وَرَاءَهُ خالقاً مدبِّراً متصفاً بالصفاتِ المتقدّمَة وغيْرِها، فهل تَسْتَطيعُ الأحجارُ المعبُودَةُ، والأضرحَةُ المُقدَّسةُ ، والبَشرُ المُصَنَّمُ أن يفعَلَ شيئاً من ذَلِك؟! فالأصنامُ الحجريّةُ التي كسَّرَها ابراهيم عليه السلام لم تَسْتَطِع مُجْتَمعَةً أو مُنْفَرِدَةً أن تُدافِعَ عن نفسِها، والنَّمْرُودُ الذي قال : > أنا أُحْيِى وأُمِيتُ< أهلكَهُ الله تعالى وأماتَهُ بِبَعُوضَةٍ دَخَلَتْ َدِمَاغَهُ فَصارَ يَضْرِبُ على دِمَاغِهِ حتَّى مَاتَ، وفِرْعَوْنَ الذي قال : >أنا رَبُّكُمُ الأعْلَى< كان جَاهِلاً بِمَصِِيرِهِ في البحر!!.
وإذا كانت هذه الأصنامُ والأوثانُ عاجزةً، جَاهِلَةً، فَانِيَةً، أفَتَسْتَحِقُّ أن تُعْبَدَ من دُونِ اللهِ تعالى؟! لاَ يَشْهَدُ بِذَلِكَ إلا الجُهَلاَءُ.
2) الإقرار بالألوهيَّة لِلَّهِ تعالى وحْدَهُ يَتَمَثَّلُ أساساً في تنفيذِ ما أمرَ اللهُ بِه، ونَهَى عَنْهُ، سواءٌ في مجال العقيدة، أو العبادة، أو المُعَامَلات، أو الأخلاقِ. وما يَليقُ بأمةٍ أن تُجَزِّئَ أوامر الله تعالى ونواهِيَهُ، ولا أن تُوزِّعَ وَلاَءَهَا، فَتُطِيع الله تعالى في الصلاة والصيام مِثلاً، وتُطَبِّقَ القوانين البشريَّة فيما عَدَا ذلك، لأن رَحْمَة الله تعالى تَتَجَلَّى في أنَّهُ شَرَعَ لِلنَّاسِ ما يُصْلِحُ نُفُوسَهُم ويُزَكِّيهَا، وشَرَعَ لَهُم أَيْضاً ما يُنَظِّمُ شُؤُونَ حَيَاتِهِم بالتَّشْريع الحكيم العادِل، فأَخْذُ جَانِبٍ وتَرْكُ جَانِبٍ يُعْتَبَرُ شِرْكاً وكُفْراً بنعمةِ الرَّحمَة التَّشْريعيَّةِ للإنسان العَاجِزِ.
3) وجُودُ العُلَمَاءِ الشَّاهدِين لله تعالى بالألوهيَّة سُنَّةٌ من سُنَنِ الله تعالى في الكَوْنِ، لأن الله تعالى أرْسَلَ الرُّسل لإِقَامة الحُجَّة على الناس، وبما أن النُبُوَّة خُتِمتْ بمحمد عليه السلام، فالعلماءُ هُمْ ورَثَة الأنبياءِ في إقَامَةِ الحُجَّة، وتطبيق الدِّين، والدَّعْوة إليه، والجِهَاد في سَبيلِه، وما يليقُ بأُمةٍ تحتَرِمُ نَفْسَها ودِينَهَا وضَمِيرَهَا أن تَتَآمرَ مع أعْدَائِها على دُعَاتِهَا، وهُمْ صَفْوَتُهَا ورُوحُهَا النَّابِضُ.
4) وبما أن الله تعالى يَشْهدُ لنَفْسِهِ، ومَعَهُ الملائكة، والعُلَمَاءُ بأنَّهُ هُوَ القائمُ بالقِسطِ والعَدْلِ في مُلْكِهِ، فَمِن تَمامِ الاعتراف بالألُوهِيَّةِ الاعترافُ لِله تعالى بالكَمَالِ في عَدْلِهِ وتَشْرِيعِهِ، وهذه البَشَرِيَّةُ في مَسِيرَتِهَا التارِيخِيَّةِ لم تَجَدْ أعْدَلَ منْ حُكْم اللَّه، ولاَ أكْملَ من تَشْرِيعِهِ، مِمَّا يُعْطِي بُشْرَى للمُسْلمِينَ بأنَّ البَشَرِيَّةَ سَتَنْقَادُ إلى حُكْمِ الإسْلامِ طَوْعاً واخْتِيَاراً إذَا وُجِدَ في الأمَّةِ الدُّعَاةُ الصَّالِحُونَ.