ذ. عبد العزيز انميرات
إن الحركات الاسلامية المعاصرة بالأساس تعاني من عدة مشاكل في تبشيرها بالمشروع الاسلامي الشامل، لكن أهم مشكلة ينبغي العمل على تكثيف الجهود لحلها ومعالجتها المعالجة الدقيقة والجذرية هي مشكلة جعل الشريعة الاسلامية ممارسة ومطبقة التطبيق المقاصدي، لا الآلي الذي قد لا يخدم مصلحة الانسان ولا يرفع الحرج والمشقة. فتطبيق الشريعة انما يهدف الى تحقيق المصلحة أولا وأخيراً. فالحركات الاسلامية اذ تبشر بهذا المشروع على مستوى عقدي عام، “تقصُر عن أن ترتقي بهذا التبشير الى مستوى فقهي، تقدم فيه البديل الاسلامي في الثقافة والاجتماع والاقتصاد وغيرها من المجالات، والحال أنها تواجه في ساحة الدعوة مشاريع علمانية ويسارية مكينة في الواقع، قوية في أبعادها العملية، ويبدو أن من أهم أسباب هذا القصور في الدعوة الاسلامية الافتقار الى مرجعية منهجية، في اشتقاق المشاريع العملية للأوضاع الراهنة، من الهدي الديني، المتمثل في الاحكام العامة المجردة”(1)، ولذلك فالضرورة تقتضي توفر الامة على مرجعية منهجية تساعد على تجاوز هذا التحدي الكبير. والمقصود بذلك صياغة أدبيات المنهج التطبيقي للشريعة الاسلامية الصياغة التي تحفظ على جانبي التأصيل والواقعية صفة التكامل والتلازم. ذلك أن هذه المشكلة (=مشكلة تنزيل النص على الواقع)، هي أهم واعظم المشاكل التي ما تزال تعترض المنهجية الاسلامية المعاصرة، في عالم له خصوصيات تحتم على المجتهدين الإدراك العميق لفقه التنزيل، ذلك أن العديد من الاسئلة الاجتماعية والسياسية والعقيدية والتربوية والثقافية ما تزال موضوعة للنقاش والتداول، بل وللتأجيل. وهو ما يبين بوضوح أن المشكلة المطروحة لا توجد في الخطاب الشرعي، لانه خطاب مقاصدي واضح وجلي، ولكن المشكلة موجودة في آليتين اثنتين متكاملتين من الناحية المنهجية :
الآلية الأولى : آلية الفهم : فهم الخطاب الشرعي من جهة، وفهم الواقع من جهة ثانية.
الآلية الثانية : آلية التنزيل : تنزيل النص/الخطاب الشرعي على الواقع. ذلك أن التعامل التجزيئي مع المسألة لن يؤدي بالمنهجية الاسلامية المعاصرة الا الى تكرار تجربة الاخفاق الاجتهادي التي لن تسير بالأمة الا الى المزيد من الغياب الحضاري. فالاسلام كخطاب شرعي، دين واقعي بالاساس، وهذا ما يميزه عن باقي الاديان السماوية والفلسفات العقيدية والوضعية الاخرى. فالمشكلة، اذن، بالنسبة للمسلمين في العصر الراهن “ليست في نص الدين، أو في عدم وجود المنهج، وانما المشكلة هي في عدم فقه الخطاب، وتأصيل منهج التعامل معه، وكيفية تنزيله على الواقع البشري، الامر الذي يقتضي فقه الخطاب وفقه الواقع في آن واحد (…) لأن الرؤية النصفية لفهم الخطاب الالهي دون فهم الواقع، وعدم حل المعادلة الغائبة، بين الخطاب الالهي والواقع البشري، وسوف تبقي المسلمين في حالة الغياب المؤرق”(2).
ولذلك فان فهم الدين وتمثل حقائقه، “هي المرحلة الأولى من مراحل التدين، ذلك لأن الفهم بالنسبة للمسلم يفضي الى تبني المفهوم على سبيل التصديق والاقتناع، وهو من جهة اخرى فهم وقع تحصيله من أجل أن يكون المفهوم واقعاً في السلوك يوجهه ويهديه(…) وتعتبر مرحلة الفهم المرحلة الاساسية في التدين، باعتبار أنها يتوقف عليها تمثل حقيقة الدين، التي ستصبح عقيدة وسلوكا. فالخلل الذي يطرأ فيها، يفضي الى أن التدين سيكون جاريا على باطل، غير مراد لله تعالى، بقدر ذلك الخلل الطارئ في الفهم، وهو ما يؤدي حتما الى بوار في حياة الانسان”(3). وهذا ما عرفته العصور المتأخرة من تاريخ المجتمع الاسلامي، وهو ما يؤكد أنه بدل أن تكون آليات فهم المراد الالهي أداة تيسير وفهم، انقلبت الى حواجز ومعوقات تحول دون القدرة على الاغتراف من مصادر المراد الالهي للتعامل مع العصر، لأنها اصبحت تجريدات ذهنية بعيدة عن الواقع؛ وأصبح معها التدين مقتصراً على مجرد حفظها وترديدها بدل العمل على إعمالها ولو “أحسنَّا ادراكها -الى جانب حفظها- لتمت النقلة المطلوبة في بيان المراد الالهي لمشكلات الامة وقضايا الواقع، وبَسَطَ الدين سلطانه على الفعاليات المختلفة”(4)،
ان فقه التدين اجتهاد يتعلق بتحقيق المناط، ولا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف. يقول الامام الشاطبي رحمه الله بخصوص هذه المسألة : “معناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، ولكن يبقى النظر في تعيين محله… ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وانما اتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول اعداداً لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في التعيين نفسه، وليس ما به الامتياز معتبراً في الحكم باطلاق، ولاهو طردي باطلاق، بل ذلك منقسم الى الضربين، وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين، فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة، إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب حتى يحقق تحت أي دليل تدخل، فان اخذت بشبه من الطرفين فالامر أصعب”(5).
واذا كان الاجتهاد أحد مصادر التشريع الاسلامي إذ به يمكن صياغة الحلول الشرعية للأوضاع الواقعية المختلفة، بحسب الظروف الزمانية والمكانية ترجيحا أو استثناء أو استحداثا فان على المجتهد أن يحرص على تحقيق قصد المصلحة ودفع المضرة. فهو “لا يحكم على فعل من الافعال الصادرة عن المكلفين بالاقدام أو بالإحجام الا بعد نظرة الى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ فيه، أو لمصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك”(6).
إن الباحث في التراث الأصولي، الزاخر بالتأليفات التأصيلية، سيلاحظ أن علماءنا الاجلاء من السلف الصالح قد اعطوا اهتماما بالغا للبحث في مجال منهج الفهم بالاساس، خاصة والظروف التي عاشوا ضمنها حتمت عليهم التأليف والاشتغال بهذا المجال من الفقه الاصولي المهم. فبدون الفهم الدقيق للشرع والواقع ولمنهجية تطبيق الشريعة، لا يمكن بتاتا الوصول إلى المرحلة الثانية وهي مرحلة تطبيق النص والاحكام في الواقع تطبيقا ملموسا وشرعيا في آن واحد. فمنهج الفهم اذن هو المقدمة والضرورة الأولى في علم أصول الفقه، ويتضح هذا جليا من خلال التعريفات المعطاة لهذا العلم. فهو عند الغزالي، العلم بأدلة الأحكام، الكتاب والسنة والاجماع في طرق ثبوتها، وشرط صحتها، ووجوه دلالتها على الاحكام(7). وهو عند ابن عبد الشكور، العلم بقواعد يتوصل بها إلى استنباط المسائل الفقهية عن دلائلها(8) ويضع الغزالي هيكلا عاماً ينبني عليه هذا العلم، والذي يتقوم بأسس أربعة، وهي بتعبير الغزالي(الاقطاب)، وهي :
أ- الأحكام وهي الثمرة المطلوبة من هذا العمل.
ب- وأدلة الأحكام : وهي الكتاب والسنة والاجماع.
ج- وطريق الاستثمار : وهو وجوه دلالة الادلة
د- والمستثمر : وهو المجتهد الذي يحكم بظنه.(9)
كما عرفت التأليفات الاصولية جوانب من القضايا المتعلقة بمقتضيات التطبيق، ومثال ذلك ما بحثوه من جوانب تشريعية لها صلة بالواقع كالاستحسان والمصلحة المرسلة وسد الذرائع والعرف، ولذلك كان الفقيه، كما يقول الاستاذ مصطفى الزرقا، يلجأ إلى قاعدة الاستصلاح لاحداث احكام جديدة ذات صبغة تنفيذية لأوامر الشريعة(10).
ونظراً لما لحق الامة من تدهور وانحطاط حضاري عام؛ ابتعدت خلاله عن الشريعة بالتدريج وما لحق الفكر الاسلامي من تراجع، تبعا لانحسار النوازل التعميرية؛ فقد عرف مجال البحث في (فقه التنزيل) وتأصيل منهجية فهم الاحكام الشرعية بحسب مقتضيات الظروف المستجدة تراجعا اضفى على الاجتهاد في هذا الباب نوعاً من الركود والجمود طوال قرون عديدة، باستثناء بعض المحاولات المجددة نذكر منها على الخصوص كتاب الامام ابو اسحاق الشاطبي (ت790هـ)(الموافقات) والشيخ محمد الطاهر بن عاشور (مقاصد الشريعة). وقد ظلت الشريعة واحكامها مطبقة في مختلف مجالات الواقع بما يناسبها من الهدي الشرعي. ومع توالي انحطاط الامة وبروز الدويلات الاسلامية وما خلفه الاستعمار من آثار التبعية الثقافية والايديولوجية عرفت المجتمعات الاسلامية تعطيلا للاحكام الشرعية، خاصة تلك المتعلقة بالنواحي الاجتماعية والاقتصادية، وظل تطبيق الاحكام مقتصراً على مجالات ضيقة من الحياة الفردية والاسرية. وقد نشأ هذا التعطيل بسبب الابتعاد عن الاصول التشريعية من جهة، وشيوع التعامل بالقوانين الوضعية من جهة اخرى، بالاضافة إلى تراجع الفكر الاسلامي الاجتهادي، الذي يبتكر من حين لآخر آليات فهم الخطاب الشرعي وآليات تطبيق الشريعة في الواقع الملموس من جهة ثالثة. وقد ساهمت العوامل الاجتماعية والحضارية المنحطة في تكريس هذا الواقع، حيث انحسار حركة التعمير الحضاري، فلم تعد هناك مستجدات اجتماعية جديدة تحمل الفقه الاسلامي على ممارسة الاجتهاد. فشيوع التدهور الحضاري وتفشي ظواهر التقليد والاتباع زادت من جمود الحس الاجتهادي في الامة، خاصة في جانبه التنظيري، الامر الذي زكى شيوع آليات الفهم دون آليات التطبيق إلا لماما، فكانت الغلبة للجانب الأول قرونا عديدة، اللهم الا بعض المبادرات التنظيرية القيمة من مثل (الموافقات) للشاطبي، وظلت بذلك الوضعية على ما عليه الا بعض الكتابات التي تحاول اعادة التأليف في المسألة الفقهية بالمنهجية الاصولية، وظلت، بالتالي، الاحكام الشرعية تمارس بالتطبيق في مختلف مجالات الواقع الاسلامي.
——————-
1- عمر عبيد حسنة : تقديم كتاب (في فقه التدين) ج 2 ص : 69-70.
2- عمر عبيد حسنة ج 2 ص 8.
3- عبد المجيد النجار. م س ج 2 – ص 15.
4- عمر عبيد حسنة. م س ج 1 ص 11.
5- انظر الموافقات للشاطبي 4/57 وما بعدها.
6- نفسه ص 127.
7- الغزالي – المستصفى 1/5.
8- محب الله عبد الشكور- مسلم الثبوت 1/15.
9- الغزالي – م. س 1/8.
10- مصطفى الزرقا- الاستصلاح والمصلحة المرسلة ص 44.