الهجرة في الاصل هي انتقال من مكان لايستطيع المسلم فيه ان يقيم الدين في نفسه واسرته ومجتمعه، ولايستطيع الدعوة لدينه بحرية…الى المكان الآمن الذي يوفر له اقامة الدين باوسع معانيها، واشمل مدلولاتها. ولهذا قال الله تعالى لعباده المحاصَرِين بمكة {ياعبادِيَ الذين آمنُوا إنَّ أرْضِي واسِعَةُ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}-سورة العنكبوت 56- وروى الإمام أحمد بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : {البِلاَدُ بِلادُ اللَّهِ، والعِبَادُ عِبَادُ اللَّه، فحَيْثُمَا أَصَبْتَ خَيْراً فَأَقِمْ}، من خلال هذين النَّصَّيْن يظهر بجلاءِ أن الدين هو القِيمَةُ الغَالِية التي يحِقُّ للإنسان، أن يحرص عليها أشد الحرص، ويُضَحِّيَ في سبيلها بكل شيء، لان منها تَنْبُع جميع القيم، وبها تُوزَن، واليها تَتْبَعُ، وبها يُقَرَّرُ مصِيرُ الإنسان، فَهِمَ المسلمون هذه الحقيقة، وتَفَاعَلُوا مَعَهَا مَيْدَانيَّا، فانتقلوا طواعية وبشوق عَارِمٍ من مكة إلى يَثْرِبَ مُضَحِّينَ بِكُلِّ ما يربط الإنسان بالأرض مِنْ وَلَدٍ، وأهل، ووطن، وعشيرة، ومَنْصب اجتماعِيٍّ… مُبْتَغِين شيئاً واحداً هو: (إِقَامَةُ الدِّينِ) الذي يقوم على أسس ثلاثة رئيسة هي:
حُبُّ الله والرسول والدين.
هكذا كانت هجرة المهاجرين لله ورسوله، وهجرة المجاهدين في سبيل إقامة الدين لتغيير مفاهيم الهوى، والاسترقاق النفسي والشعوري الذي كان يسود العالم، وتحويل مجرى التاريخ البشري المتسم بالزيف، والخداع، والكذب، والاستبداد.
وجاء عصر المهرولين على ميعاد مع التخلف العربي والإسلامي، وعلى ميعاد مع الهبوط والتشتت، وعلى ميعاد مع الانسلاخ من الذات والتبرُّؤ من الجلد واللحم والدم والجنس والروح، وعلى ميعاد مع الانبهار، والانهيار، وعلى ميعاد مع التقديس للجلاد والجزار والارتماء بين أحضان سوطهما وسكينهما… فأصبحنا نرى :
1- الشلل التام في العشيرة العربية، فلا حق لرؤسائها في الاجتماع بدون أخذ الإذن من عند أرباب النظام العالمي.
2- الاهتمام بالجلاد والجزار، إلى درجة تعليق الآمال والمتمنيات على فوز هذا أو ذاك من الجزارين الذين لافرق بينهم إلا أن بعضهم يذبح بالسكين، والبعض يجهز على ضحيته بالصعق الكهربائي، وإلى درجة الفرح باقتطاع أجزاء من جسمه وترابه، ليبني على أشلائه الدولة الكبرى.
3- التشطيب التام على لغة الكتاب والسنة، ولغة التجمع على أساس الاعتصام بحبل الله المتين، فلا مؤتمرات اسلامية، ولا قمم اسلامية، ولا ثقافة اسلامية، ولا أسواق اسلامية، ولا تجمعات اسلامية لدراسة مشاكل الأسرة المسلمة، أو لدراسة كيفية ابراز الميزة الإسلامية، فبينما يقول المُخْلص لدينه من الملّة الأخرى : (إن صلاة : “إذَا نَسِيتُكِ يَاقُدْسُ فَلْتُصَبْ يَدِي اليُمْنَى بِالشَّلَلِ” رَافَقَتْنِي طُولَ حَيَاتي، وسَتَظَل القدسُ عاصمةً لإسرائيل إلى الأَبدِ)، يجيبه المهرولون بلسان الحال والفعال : إن القدسَ رمز التطرف والإرهاب، فاغْنَمْها، واقْطَعْ دَابِرَ الإرهاب الخَطير على مستقْبَلِنَا ومُسْتَقْبَلِكُمْ.
5- أن الذي يصنع من نفسه قُنْبلَةً بشرية يُعتبر في عرف المهرولين من المنتحرين.
6- أن الدولة التي ترفع شعار الإسلام تصَنَّفُ في خانة الإرهاب، فيُسَلِّطُ عليها النظام الدولي الجديد سيْف الحصار، وَسَطَ مُبَارَكَةِ المهرولين وتصْفِيقَاتهم وشماتتهم.
7- أن عَدُوَّ الأمة وخَصْمَهَا لا يَأخُذ شيئا من جسم الامة وكيانها إلا بمشاورة مواطنيه الذين لهم الحق في أن يَرْفُضُوا القدر الذي لا يكفيهم ويطالبون بالمزيد، بينما المهرولون يوقعون اتفاقات التنازل عن الأرض، والكيان، والحياة، والمقدسات، والسيادة.. بدون الرجوع للشعوب، كأن الشعوب وقَّعت لهم على بياض.
8- أن تقديم الدَّم العربي والإسلامي ثمنا للنجاح والفوز في الإنتخابات يستقبله المهرولون بالرزانة وضبط الأعصاب، والإضراب التام عن الاستنكار الفعال، والاحتجاج العملي بالخطوات الايجابية المؤثرة.
هذه بعض الخطوط العريضة لهجرة المهرولين الى الشيطان وأوليائه، وهي هجرة ماضية سوف لا توقفها إلا الهجرة الباقية الى يوم القيامة التي قال فيها صلى الله عليه وسلم (لاَهِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ ولَكِنْ جِهادٌ ونِيَّةٌ).