واقع التداخل بين السياسة والثقافة
قضية الأمازيغية في الجزائر
استطاعت المؤسسات السياسية القبائلية أن تفرض قضية اللغة والثقافة البربرية تحت مسمى “القضية الأمازيغية” على الواقع السياسي الجزائري بعد جهد طويل تأصل منذ بداية الثمانينات، وازداد رسوخاً ووضوحاً مع تفاقم الأزمة التي تشهدها الجزائر منذ تعطيل المسار الانتخابي عام 1991 وحتى اليوم.
ويقف دعاة الأمازيغية بصبغتها السياسية فوق مربع المفرنسين أو الفرانكفونيين الداعين إلى تفعيل اللغة الفرنسية في الواقع الجزائري، وفي المقابل من هؤلاء يقف المعربون فوق المربع النقيض في إطار صراع لايخفى بين دعاة منهجين حضاريين مختلفين ينتمي أولهما إلى المفاهيم الليبرالية الغربية وثانيهما إلى مفاهيم الشورى الإسلامية، مع التأكيد على الفوارق الدقيقة والأصيلة بين كل من الاتجاهين.
ولا يعني -في هذا النطاق- أن كل ناطق بالفرنسية ينحاز بالضرورة إلى الخيار الفرنسي الحضاري، وأن كل ناطق بالعربية ينحاز بالضرورة إلى الخيار الإسلامي الحضاري، إذ هناك استثناءات تتعدى حدود قدرات اللسان إلى واقع الانتماء والقناعة.
بربية متعددة اللهجات :
تكشف الخريطة العرقية للجزائر عن وجود عدة أعراق فرعية تنتمي للعرق البربري الأم وهي : القبائل الكبرى وتتمركز في تيزي وزو وبومرداس والبويرة، والقبائل الصغرى وتتمركز في بجاية وبعض المناطق التابعة لولاية سطيف وغيرها، والشاوية وتتواجد في باتنة وما حولها مثل أم البواق وخنشلة، وبني ميزاب ويسكنون في غرداية، والطوارق ويعيشون جنوبا في الصحراء.
ويثبت د. محمد بوخبزة أن اللهجات البربرية تتوزع بين إجمالي الشعب الجزائري وفقاً للنسب التالية : 11% يتحدثون القبائلية، و6% يتحدثون الشاوية، وأقل من 1% يتحدثون الطارقية والميزابية، وتأخذ الإحصائية التي صدرت عام 1954م أعداد المهاجرين في الاعتبار، ولا يعتقد المراقبون حدوث تغير حاد في هذه الأرقام نظراً لتوازن النمو السكاني بين أبناء الشعب الجزائري.
وكل من هذه الأعراق الفرعية له لهجة مختلفة عن الأخرى، لذلك تضطر التلفزة -على سبيل المثال- إلى بث نشرة الأخبار مرتين على مدار اليوم بغير اللغة العربية إحداهما بالقبائلية والأخرى بالشاوية؛ الأمر الذي يدفع إلى التساؤل عن اللهجة التي يجب الأخذ بها في حال تعميم استخدام لغة بربرية.
النشأة التاريخية :
يكشف الاستعراض التاريخي لحركة مقاومة الاستعمار الفرنسي خلافاً هاماً ساد أوساط هذه الحركة منذ عام 1936م بين مصالي الحاج وعمار عماش، وكان الأول أكثر الرافضين لفكرة “بربرية الجزائر” مصراً على عروبتها، بل إن الأمر يرجع ربما إلى ما قبل هذا التاريخ وتحديداً في عام 1926، حينما ساد نقاش يذهب إلى تأكيد وحدة التراب الوطني الجزائري ثم الوحدة في إطار اللغة العربية والدين الإسلامي. وتبنى حزب “نجم شمال إفريقيا” هذا الطرح وبدا كما لو أنه لم يأخذ منطقتي “الميزاب” و “القبائل” بعين الاعتبار.
ومع قدوم الحرب العالمية الثانية حاول كل من جيلاني وخيذر (من القبائل البربرية الكبرى) إجبار حزب “الشعب” أو “نجم شمال إفريقيا” سابقاً على الانضمام كحليف للألمان ولوحظ أن الحركة الأمازغية بعد عام 1945 أخذت مجرى جديدا معتمدة في ذلك على ثلاث نقاط هامة :
1- النزاع القائم بين مصالي الحاج وجماعة القبائل الكبرى منذ عام 1936.
2- سياسة هجرة سكان القبائل إلى فرنسا وبلورة نزعة جهوية.
3- الأخطاء التي ارتكبها حزب “الشعب” في منطقة القبائل والتي استغلتها فرنسا.
ويمر الحزب بتجارب متفاوتة أفرزت صراعاً أسفر عن وجه عرقي، وفي عام 1948 أسس رشيد علي يحيى في مؤتمر تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه “الحركة الشعبية الأمازيغية” بمساعدة بناي وعلي وعمار ولد حمودة. ويصل الخلاف مداه عند إعلان 28عضواً من إجمالي 32 عضواً في اللجنة الفدرالية للحزب؛ رفض فكرة “الجزائر عربية مسلمة” منادين بالجزائر جزائرية. وحينما يفتح الحزب باب التطوع للحرب في فلسطين يعارض رشيد علي يحيى الفكرة في السياق المعرض لعروبية العمل. وفي مؤتمر “الصومام” في العشرين من آب/أغسطس عام 1956 وضعت المسألة البربرية جانباً تحت شعار “كل مشاكل الجزائريين توضع بين قوسين إلى ما بعد الاستقلال”.
ولوحظ دخول مصر على الخط مع فترة المد القومي العربي الناصري حينما بث صوت العرب إذاعة الجزائر من القاهرة، وانطلق صوت المذيع يعلن “لقد عادت الجزائر إلى العرب”، ودأب أحمد بن بيلا -ثاني رئيس للجزائر بعد يوسف بن خدة- إلى عدم ترك المجال لطرح القضية الأمازيغية سواء قبل الاستقلال أو بعده.
المشكلة عقب الاستقلال :
لم يمض وقت طويل عقب الاستقلال حتى ظهر الانشقاق في صفوف ثوار جبهة التحرير الوطني مع التطرف إلى الاديولوجيا وتحديد الهوية الجزائرية، وبدا التباين عميقاً بين الجمهورية الجزائرية العربية المسلمة أو الديمقراطية العلمانية، وأسفر هذا الواقع عن تمرد المنطقة الجزائرية الثالثة واعلان الانفصال عن مجلس الثورة، وتم تأسيس “جبهة القوى الاشتراكية” وفي القلب منها أحد أهم مؤسسي جبهة التحرير حسين آيت أحمد (بربري)، واعتبر تأسيس الأخير للجبهة الجديدة رداً على سياسة الاعتقالات التي اتبعها الحكم وما نسب إليه من اتهامات بالاغتيال والاختطاف. وقد انضم إلى آيت أحمد، صديق أولحاج وعلي يحيى عبد النور من “الاتحاد الوطني للعمال الجزائريين” المنحل آنذاك، واستمر الصراع ما بعد الانقلاب الذي قاده وزير الدفاع هواري بومدين على الرئيس أحمد بن بيلا في 19 حزيران/يونيو 1965.
ومع مضي الوقت أصبح انحياز المؤسسات الحزبية السياسية البربرية لمقولة “جزائرية الجزائر” أوضح وأقوى بمواجهة شعار “الجزائر وطننا والإسلام ديننا والعربية لغتنا” الذي أطلقه رئيس “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين” الإمام عبد الحميد بن باديس وقت الاستعمار. والغريب أن بَن باديس أشهر شخصيات العمل الإسلامي الجزائري في القرن العشرين؛ هو من البربر، وهو الذي قال في شعره :
شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب
وترجع أهمية هذا الطرح إلى فعالية الطرح الإسلامي في استيعاب الطرح البربري إلى الحد الذي لا يلغي ذاته، وإنما يجعل من الإنتماء إلى العربية الأصل والوعاء الجامع المصبوغ بالإسلام والمُشكل بتعاليمه. لذلك يعتبر الكثيرون من دعاة النهج السياسي البربري وجود الإسلام فاعلاً في الحياة اليومية للشعب الجزائري، عائقاً أمام انتشار الهوية الأمازيغية التي يمكنها أن تواجه عصبية عربية عرقية ضيقة، بينما تفقد القدرة الموضوعية على ذلك أمام مظلة الإسلام التي تتجاوز العرق إلى الانتماء العقيدي.
وفي كل الأحوال لم تمنع صرامة بومدين في التعامل مع دعاة الأمازيغية من استمرارها سرا على مستوى الكوادر إلى أن وقع إضراب 16 نيسان/أبريل 1980 في منطقة القبائل وأدى إلى تشكيل الحركة الثقافية الأمازيغية. وكان عقد السبعينات قد شهد عدة محطات ملفتة على الطريق ذاته حينما تأسست في فرنسا الأكاديمية الأمازيغية منذ عام 1967 إلى عام 1975. وفي عام 1972 تم تأسيس “المجموعة الحرة للعمل” في جامعة باريس والتي تشدد على أن الجزائر عربية إسلامية وأن الثقافة الأمازيغية ما هي إلا من صنع الفرنسيين.
وفي الخامس من تموز/يوليو 1975 أصدرت الحكومة الجزائرية قرارين اثنين أولهما الإعلان عن الميثاق الوطني الذي يقر بعروبة الجزائر، وثانيهما إقرار القرار العالمي لحقوق الأقليات والطوائف.
مظاهر التوتر :
تواصلت مظاهر التوتر في المجتمع الجزائري، ففي 1982 وقعت مشادات وحدثت مبادرات لإحياء ذكرى إضرابات عام 1980 التي أطلق عليها “الربيع الأمازيغي” الذي امتدت آثاره إلى الجزائر العاصمة نفسها وتمت اعتقالات كثيرة، كما وقعت تظاهرة ثقافية بربرية عام 1986 قامت بها الحركة الثقافية الأمازيغية.
ومع مظاهرات تشرين الأول/أكتوبر 1988 أثناء حكم الرئيس الشاذلي بن تتمة ……. ص 10 جديد أسفرت الحركة الأمازيغية عن وحه سياسي محض بتأسيس “التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية” وعاود حزب “جبهة القوى الاشتراكية” إلى الظهور، وتأسست كذلك جمعية “الحركة الثقافية الأمازيغية”. وعلى عكس الأغلبية الساحقة من أبناء البربر سواء الكوادر أو العامة الذين يتحدثون العربية باللهجة المحلية، فإن رجلاً مثل د. سعيد سعدي رئيس حزب “التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية” لا يجيد سوى الفرنسية والقبائلية، وحينما شارك باسم حزبه في ندوات سياسية على هامش الانتخابات النيابية الملغاة عام 1991، كان يتحدث إلى ملايين المشاهدين بالفرنسية التي لا تجيدها الأغلبية الساحقة من الجزائريين، وذهب الحزب ذاته إلى خطوة أبعد في الخامس والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 1993 لينظم ما أطلق عليه “التجمع من أجل الجمهورية” وهي تسمية تتطابق تماما مع اسم الحزب الفرنسي الحاكم “التجمع من أجل الجمهورية الفرنسية” فيما عدا الكلمة الأخيرة منه.
الأمازيغية في المواثيق الرسمية :
يُظهر استعراض نصوص الدولة الجزائرية قبل وبعد الاستقلال الموقف من الأمازيغية وتطوراته، ففي الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1954صدرت أول وثيقة للدولة القادمة بعد الاستقلال، وذكر البيان من بين أهدافه “إقامة دولة جزائرية ذات سيادة ديمقراطية اجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية”، ومن بين أهدافه الخارجية “تحقيق وحدة شمال إفريقيا في إطارها الطبيعي العربي والإسلامي”. وأشار ميثاق مؤتمر “الصومام” عام 1956 إلى وحدة الشعب الجزائري باعتبار أن شخصية الشعب نابعة من مصدر واحد، وشعبية الثورة بمشاركة العمال والفلاحين. أما أول دستور للجزائر فقد صدر عام 1963 بعد الاستقلال متطرقاً إلى انتماء الجزائر الجغرافي ثم الأبعاد العرقية، حيث جاء في المادة الثانية منه : “الجزائر لا يتجزأ من المغرب العربي والعالم العربي وإفريقيا”، وورد فيه أن “الدولة تضمن حرية ممارسة الثقافة”، وقال عن اللغة : “اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية”. والمثير للدهشة أن كامل الميثاق صدر بالفرنسية فيما عدا “القسم الرئاسي” الذي كتب باللغة العربية ولم تتم ترجمته حتى اليوم.
وفي عام 1964 صدر ميثاق الجزائر، وفي تعريفه للجزائر قبل وقوع الاحتلال الفرنسي عام 1830 قال : إن “الشعب الجزائري شعب عربي مسلم، والواقع أنه منذ القرن الثامن أعطى الإسلام والتعريب لبلدنا الوجه الذي حافظ عليه حتى اليوم”. وعرّف الميثاق الجزائر على أنها “بلد عربي إسلامي، ولذا فإن هذا التحديد ينفي أي رجوع إلى مقاييس عرقية ويتعارض مع كل انتقاص من الإسهام السابق على الفتح العربي”، أي أن الميثاق حدد هوية الجزائر العربية والإسلامية.
وفي ميثاق عام 1976 تم التأكيد على الهوية الوطنية الجزائرية وتقويتها وتحقيق التنمية الثقافية بجميع أشكالها، وذكر الميثاق أن المحاور الرئيسية للهوية الوطنية هي الإسلام واللغة العربية. وفي الدستور الصادر في العام نفسه تم التأكيد على تعميم استعمال اللغة العربية في المجال الرسمي مع تحقيق التوازن الجهوي كسياسة أساسية تستهدف محو الفوارق الجهوية. وسعى ميثاق عام 1986 إلى نفس التوجه باعتبار اللغة العربية -أي اللغة الوطنية- مطلوبا تكريسها كلغة تعبير عن مظاهر الثقافة. وفي دستور عام 1989 تم اعتبار العربية من التوابث الجزائرية غير المتغيرة.
ومع توالي ملامح الأزمة بدأ الحديث رسميا يقل عن ثوابت الهوية، ففي ندوة الوفاق الوطني والمرسوم الرئاسي الصادر عنها في التاسع والعشرين من كانون الثاني/يناير الماضي لم يرد من قريب أو من بعيد أي كلام عن المشكلة الثقافية الجزائرية، بينما أعلن وزير التربية الوطنية عمر صخري أن “القضية الأمازيغية سوف تدرس بشكل جدي وفعال وعلى أعلى المستويات”.
نموذجان للأمازيغية :
يلاحظ وجود أغلبية قبائلية غير مكترثة بتحرك القادة الحزبيين القبائليين لاعتبارات تاريخية أثناء مقاومة المحتل الفرنسي ومنذ القدم، حيث امتزجت العربية والإسلام وبات كل منهما شاهداً على الآخر. ويروى عن كهول القبائل غضبهم الشديد إذا ما وصفوا بأنهم غير عرب، إذ كان ردهم الفوري “يعني أنا كافر!”، وقد تجاوزت العروبة عندهم معالم اللغة إلى الدين ذاته، لذلك انفجرت مشكلة الأمازيغية مع تغلغل الاحتلال الفرنسي ومحاولته عزل منطقة القبائل وصبغها بصبغته الحضارية الثقافية.
والمثير للانتباه أن مناطق القبائل في عموم الجزائر خاصة قرب جبال الأوراس -معقل مقاومة الفرنسيين وسكانها من فرع الشاوية- من أكثر الجزائريين عداوة للفرنسيين، ومقاومتهم العنيفة على مدى عشرات السنين شاهد على ذلك. وهم في الإطار ذاته من أكثر المتحمسين للعربية التي مثلت تحدياً حقيقياً للاستعمار، ولا يكاد هؤلاء يكترثون بدعوات الأمازيغية في مناطق القبائل الصغرى. ويبرز اسم عثمان سعدي (شاوي) باعتباره رئيس “جمعية الدفاع عن اللغة العربية” وله كتاب مهم في هذا المجال تحت عنوان “التعريب في الجزائر كفاح شعب ضد الهيمنة الفرانكفونية” صدر في تشرين الثاني/نوفمبر 1992.
ويمثل د. سعيد سعدي نموذجاً مغايراً من داخل البربر حيث يصدر حزبه بياناً يعرب فيه “عن عزمه على محاربة قانون تعميم استعمال اللغة العربية الذي يتجاهل اللغة الأمازيغية ويسيء للعربية الذي يجعل منها أداة للقمع”. أما حزب حسين آيت أحمد فينظم مسيرة في السابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر 1991 ضد القانون نفسه مطالباً بأن “تعاد للغة الفرنسية مكانتها في منظومتنا التعليمية بدون أي مركب نقص…”.
ويتساءل البعض إزاء هذين الطرحين عما إذا كانت فرنسا يجب أن تدعمهما سياسياً وإعلامياً وثقافياً!؟ وتأتي الإجابة في الاحتفاء الإعلامي اللافت للانتباه عبر استضافة آيت أحمد في برنامج 7/7 الأسبوعي الذي تقدمه المذيعة التلفزيونية الشهيرة آن سان كلير، كما استضافت سعيد سعدي على صفحات كبريات الصحف الفرنسية بطريقة تدعو للتفكير أكثر من مرة، ثم وبعد ذلك كله.. اهتزاز الإعلام الفرنسي لاختطاف المطرب القبائلي معطوب لوناس أحد قادة “الربيع الأمازيغي” والحركة الثقافية الأمازيغية!!!
عن قضايا دولية ع 255