رسالات الهدى الـمنهاجي في سورة “الذاريات”(11)
قال الله جلت حكمته : {هل اتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تاكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذالك قال ربك إنه هو الحكيم العليم قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين فأخرجنا من كان فيها من المومنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه وقال ساحر او مجنون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم وفي عاد إذ ارسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء اتت عليه إلا جعلته كالرميم وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فعتوا عن امر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين}.
الرسالة الخامسة : في أن وجود المؤمنين ـ ولو قل عددهم ـ في بيئة ما، يرفع عنها عذاب الله بإذن الله، ما داموا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وقد تواترت النصوص بذلك. كما تضافرت الآيات في أنه ما من عقاب ينزل بالطغاة إلا ويكون أهل الإيمان الخُلَّص بمنجاة منه، رحمة من الله وفضلا. وهو أمر مطَّرِد مشهور، منذ حَدَث الطوفان في عهد نوح، وإغراق الكفرة من قومه إلا أهل السفينة. وقد قال تعالى في حق هود \ ومن آمن به : {فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطع دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مومنين}(الأعراف : 72)، وكذلك الأمر جرى مع مؤمني بني إسرائيل عند إغراق فرعون وجنوده. ثم قال عن أصحاب السبت من بني إسرائيل : {فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بيس بما كانوا يفسقون}(الأعراف : 165).
وقد نص القرآن في غير ما موطن على أنها قاعدة مطردة في المؤمنين بإطلاق، قال تعالى : {ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين}(يونس : 103)، وقال سبحانه : {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}(هود : 116- 117). ولا ينقض ذلك حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول : “لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه” -وحلق بإصبعه : الإبهام والتي تليها- قالت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : “نعم إذا كثر الخبث“(1)، لأن الهلاك هنا إنما يقتصر على الصلاح السلبي، وهو الذي لا يأمر صاحبه بمعروف ولا ينهى عن منكر، فهو صالح في نفسه وليس بمصلح لغيره. وأما الصلاح الإيجابي فصاحبه آمن بإذن الله، وهو الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدل عليه ما رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم”(2).
وآية سورة هود ـ قبل ذلك ـ نص في إطراد نجاة أهل الإصلاح مطلقا، وهي قاضية على كل ما خالفها، تقيده وتخصصه. أعني قوله تعالى : {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}(هود : 117).
وقد قال الله تعالى في حق كفار قريش قبل الفتح : {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما}(الفتح : 25).
فمنع الله ـ سبحانه ـ العذاب عن كفار قريش، بسبب أن بينهم مؤمنين مستضعفين مستخفين بإيمانهم. قال الإمام الطبري رحمه الله :(وقوله : {لو تزيلوا} يقول : لو تميز الذين في مشركي مكة، من الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات، الذين لم تعلموهم منهم، ففارقوهم وخرجوا من بين أظهرهم، {لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما} يقول : لقتلنا من بقي فيها بالسيف، أو لأهلكناهم ببعض ما يؤلمهم من عذابنا العاجل)(3)، والله جل جلاله قدير على تمييزهم عند العقاب لو شاء، ولكنه عَلِم سبحانه ما سَبَقَ في قَدره، من أن كثيرا من الكفار هنالك سوف يسلمون بعد حين، فأرجأهم ليؤمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ووهب لهم النجاة برحمته. وقد أهلك طواغيت الكفر منهم في غزوة بدر وغيرها. والآية ـ على كل حال ـ شاهد قوي على أن للمؤمن حرمة عظيمة عند الله جل جلاله، يحفظه من عقاب الدنيا وعذاب الآخرة.
وأما تعرض الدعاة للتعذيب والتقتيل، في سياق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه لا يعتبر عذابا ولا عقابا، كلا وحاشا. وإنما هو تكريم لهم من الرحمن وتشريف، ورفع لدرجاتهم عند الله جل جلاله. وإنما المنفي عنهم أن يعمهم الله بعذاب منه، مما يسلطه على الكفار من الهلاك العام، في الدنيا قبل الآخرة، من مثل ما وقع لعاد وثمود وغيرهما. فأما هذا فقد كتب الله لهم النجاة منه. كما قررناه بشواهد.
الرسالة السادسة : في أن خلو مدينة، أو دولة، من الدعاة إلى الخير -مهما قلوا- الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر حقيقة، على مقتضى مقام الإخلاص، والتجرد الكامل لله، وعلى ميزان قواعد الشرع وحِكَمه، يعني أنها مدينة أو دولة معرضة لعذاب الله وانتقامه الشديد، نسأله تعالى العفو والعافية. ونصوص الرسالة السابقة كلها دالة على هذا. ويكفي أن نعيد التدبر لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكرناه : “والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم“(4).
الرسالة السابعة : في أن جميع ما نراه اليوم مما يسمونه ب”الكوارث الطبيعية”، إنما هو استمرار لسنة الله الجارية، في الانتقام من أهل الفسق والفجور، والظلم والطغيان، المتمردين على شريعة الله. وأنه لا قوة مدمرة من ذلك، إلا ووراءها طائفة من ملائكة الرحمن، تسلط العذاب على من شاء الله من أعدائه، سواء كانت تلك القوة إعصارا، أو زلزالا، أو خسفا، أو بركانا متفجرا، أو بحرا غاضبا، أو عاصفة مدمرة، أو صاعقة قاتلة، أو حريقا زاحفا مستعصيا عن الإطفاء… إلى غير ذلك مما نشاهده كل سنة من حوادث العالم.
ذلك أن سنة العقاب الإلهي لم تنقطع قط، فمنذ أن نزلت بقوم نوح في التاريخ القديم، وهي مستمرة في الأرض، تقع على أهلها في صور مختلفة، وأماكن مختلفة، وأنها ستبقى ثابتة حتى تقوم بها الساعة على شرار الخلق. ففي كل حين تصيب طرفا من الناس، في رقعة من الأرض، لتجدد النذارة بيوم الدين، وأنه حق يقين، وتطرق بقوة على قلوب الفاسقين والغافلين، أن : فروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين. قال تعالى بما يدل على الثبات والاستمرار : {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد}(الرعد : 31). وكفى بهذا دليلا على ما أصلناه.
الرسالة الثامنة : في أن الأدب عند مشاهدة شيء من الكوارث والنوائب ولو كان يسيرا، أن يجأر المؤمن إلى ربه بالدعاء والاستغفار. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هبت العاصفة كَرِبَ لذلك وارْبَدَّ وجهُه، فلا يستبشر حتى تمطر أو تفتر. فعن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال : “كانت الريح الشديدة إذا هبت عُرف ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وسلم“(5)، وأوضح منه حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سُرَّ به، وذهب عنه ذلك. فقالت : يا رسول الله أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا، رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفْتُ في وجهك الكراهية؟ فقال : “يا عائشة ما يُؤَمِّنُني أن يكون فيه عذاب؟ قد عُذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا : {هذا عارض ممطرنا}(الأحقاف : 24)”(6).
كما أنه صلى الله عليه وسلم كان كلما مر في سفره بآثار الأمم الهالكة من عذاب الله وَجِلَ قلبه لذلك واهتز رهبا، ووعظ أصحابه مذكرا إياهم بأيام الله، والتخويف من عذابه الأليم، حاثا إياهم على التفكر في مصارع القوم، بما يستوجب البكاء والاعتبار. فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : “لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحِجْر(ديار ثمود، وذلك في غزوة تبوك)، قال صلى الله عليه وسلم : “لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم” ثم قَنَّعَ رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي“(7).
ورغم أنه صلى الله عليه وسلم أسرع العبور في وادي المعذبين -كما هي عادته صلى الله عليه وسلم كلما مر بآثار القوم المهلكين- إلا أنه مع ذلك اغتنم فرصة العبور، فألقى في أصحابه موعظة ميدانية بليغة، وهم كذلك على رحالهم سائرين، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : (لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحِجْر قال : “لا تسألوا الآيات وقد سألها قوم صالح فكانت (يعني الناقة) تَرِد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، فعقروها فكانت تشرب ماءهم يوما، ويشربون لبنها يوما، فعقروها، فأخذتهم صيحة أهمد الله عزوجل من تحت أديم السماء منهم، إلا رجلا واحدا، كان في حرم الله عز وجل”. قيل : مَن هو يا رسول الله؟ قال : “هو أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه“(8).
فريد الأنصاري رحمه الله تعالى
—–
1- متفق عليه.
2- رواه أحمد والترمذي، والبيهقي في الشعب. وحسنه الألباني في تحقيق سنن الترمذي، وفي صحيح الجامع، وصحيح الترغيب.
3- من تفسير الطبري للآية.
4- رواه أحمد والترمذي، والبيهقي في الشعب. وحسنه الألباني في تحقيق سنن الترمذي، وفي صحيح الجامع، وصحيح الترغيب.
5- رواه البخاري.
6- رواه مسلم. وتمام الآية قوله تعالى : {فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو مااستعجلتم به ريح فيها عذاب أليم}(الأحقاف : 24).
7- متفق عليه.
8- رواه أحمد، والحاكم، والطبراني في الأوسط، كما رواه الطبري في تفسير قوله تعالى : {وإلى ثمود أخاهم صالحا}(الأعراف : 73). وقد أورده ابن كثير في البداية والنهاية برواية أحمد، وقال : )(وهذا الحديث على شرط مسلم، وليس هو في شيء من الكتب الستة والله أعلم)، البداية والنهاية(1/137). ط مكتبة المعارف، بيروت. وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند “حديث قوي، وهذا إسناد على شرط مسلم”.