عبد الحميد الرازي
الخطبة الأولى
…عباد الله:
كلما حل العام الهجري الجديد،إلا واخترقت بنا الذكريات حواجزَ الزمان لنقفَ على مشارفِ مكة، وهي تشهدُ هجرةَ النبيِ صلى الله عليه وسلم مع أصحابهِ إلى المدينة، تلك الهجرة التي غيرتْ مسارَ التاريخ، وفاجأت العالم بأحداثِها ونتائجِها المُبهرة، ونستحضر ذلك الخطاب المؤلم الذي يحز في النفس حين قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم مخاطبا مكة المكرمة أعزها الله: ” والله إنك لأحب البقاع إلي ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت “. لقدْ كانت الهجرة بداية موفقة لقيامِ دولةِ الإسلامِ في المدينة، تلك الدولة التي لم تقفْ عند حدودٍ سياسيةٍ يصنعها المُحتلُ الأجنبي، ولكنَّها انتشرت وتوسعت، حتى أنجبت دولة الإسلامِ، التي أطلت على الدنيا بنورِها الفياض، وأزهقت الظلامَ الدامس الذي كفر بذرة الخير وغطاها، فقدمتْ للبلاد والعباد أسوة نادرة في بناء الدول وصناعة الحضارة، حتى توارت وتقهقرت كل النماذجِ الباطلة.
عباد الله: إننا اليومَ ـ وأُمتنا تُعاني من التمزق والضعف والتنافر بل والتقاتل والتناحر والكيد ـ في حاجة ماسة إلى قراءةِ تاريخِنا المجيد، لنأخذَ الدروسَ والعبر، ونقبس من نوره الساطع ما نصلح به أحوالنا، لأنه لن يصلحَ آخر هذه الأمةِ إلاّ بما صلحَ به أولُها.
عباد الله: الهجرةُ النبوية ليست رحلة سياحة ولا سفرا استكشافًيا لبلد آخر جديد، ولكنها خيار وحيد، بعد أنْ أصبح الناس غير الناس، وضاقتْ برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأتباعه أرضُ مكةَ، وأصبح طواف المؤمنين وصلاتهم عند البيت العتيق جريمةً يعاقب عليها قانون الغاب السائد آنذاك، وأصبح قارئ القُرآن رجعيا وإرهابيا ومتطرفًا، وأصبح المسلمون صابئين في نظر مشركي مكة، نزلَ الوحي من السماء مخاطبا رسول الله ومُؤْذِنا له بالصدع بالدعوة المباركة والجهر بها: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}(المدثر:4-1).
ويتوالى الوحي من رب العزة والجلال: {فَاصْدَعْ بِمَا تُومَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}(الحجر:94)، بلغ رسالة ربك ولا تلتفت للأعداء، لا يرعبنك أبو جهلٍ مهما طغى وتجبر، ولا حتى عمك أبا لهبٍ مهما قسا وتكبر، فهم ليسوا إلا بلاء يمتحن الله به عباده الصالحين.
فاستجاب الحبيب صلى الله عليه وسلم، فما تركَ شِعبًا إلا سلكَه ولا جبلاً إلا صعدَه، ولا واديًا إلا سار فيه وهو يردد: ” يا أيَّها الناسُ، قُولوا: لا إله إلا اللهُ تُفلحوا”، صدع بها ثلاثةَ عشرَ عامًا في كلِّ ملتقيات العرب وتجمعاتهم ومنتدياتِهم، لكن عباد الأصنام حاربوهُ بكلِّ قوة ووحشية، بل حاربه كل من ظن أن الإسلام فيه خطر على مصالحه، وقاوموا بشراسة لتشويه صورة هذا الرجل الذي كان يعرف فيهم بالصادق الأمين؛
قاومه رؤساءُ العشائرِ دفاعِا عن سُلطانهمِ، وحاربه الانتهازيون دفاعا عن مكاسبِهم بكلِّ وحشيةٍ وقسوة، وواجهه الكهنةُ والمشعوذون خوفا من انفضاض الناس من حولهم، حاربه دعاة القوميةِ والمتعصّبونَ لقومياتِهم وقبائلهم، دفاعا عن تقاليدهمُ البالية، وناوأه عُبَّادُ الشهوة والهوى، خوفا على مجونِهم وعربدتهم.
كل هؤلاء وغيرهم من عباد العجل عندما استيقنت قلوبهم بخطورةِ تعاليم الدين الجديد على امتيازاتهم ومطامعهم، عقدوا العزم على مقاومةِ ذلكَ الناصح الأمين، فأوذي عليه الصلاة والسلامُ واضطُهد، وعُذِّب، واتُّهِم بالجنون والسحرِ والكِهانةِ، ورُمي بالكذبِ وقولِ الزور، فتوحدوا جميعًا لحربِ هذا الصادق الأمين الذي بعثه الله تعالى ليخرج العباد من الظلمات إلى النور، ولقد صورهم الحق سبحانه ووصف جنونهم وكيدهم فقال عز من قائل: {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُم أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُم إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ}(ص:6،7)
ولما بلغَ الأذى مبلغه من رسول الله وأصحابه، وظهرت قسوة القلوبِ وسفهُ الرجالِ، أذنَ اللهُ تعالى بالهجرةِ إلى المدينةِ المنورة، فخرجَ المؤمنون فرارًا بدينهم تاركينَ أرضا فيها وُلدوا وفيها نشؤوا، تاركين المال والأهل والولد، وضحوا بذلك كله في سبيل الإيمان.
عباد الله:
إنَّ في الهجرةِ دروسًا لا تُنسى، ومآثرَ لا تُطوى، فما أحوجَنا إلى تدارس ذلك الميراث!!
أيها المؤمنون: الهجرة غيرت مجرى التاريخ، الهجرة حدث يحمل في طياته معاني الشجاعة والتضحية والإباء، والصبر والنصر والفداء، والتوكل والقوة والإخاء، والاعتزاز بالله وحده مهما بلغ كيد الأعداء، إنه حدث الهجرة النبوية الذي جعله الله سبحانه طريقًا للنصر والعزة، ورفع راية الإسلام، وتشييد دولته، وإقامة صرح حضارته، فما كان لنور الإسلام أن يشع في جميع الأرجاء لو بقي حبيسًا في مهده.
حدث الهجرة العظيم فيه من الآيات والآثار والدروس والعبر البالغة، ما لو استحضرته أمة الإسلام اليوم وعملت على ضوئه وهي تعيش على مفترق الطرق، لتحقق لها عزها وقوتها ومكانتها وهيبتها، ولعلمت علم اليقين أنه لا حل لمشكلاتها ولا صلاح لأحوالها إلا بالتمسك بإسلامها، والتزامها بإيمانها، فوالله ما قامت الدنيا إلا بقيام الدين، ولا نال المسلمون العزة والكرامة والنصر والتمكين إلا لما خضعوا لرب العالمين، وهيهات أن يحل أمن ورخاء وسلام إلا باتباع نهج الأنبياء والمرسلين.
من دروسِ الهجرةِ الشريفةِ أنَّ الغايةَ الكُبرى من الوجودِ الإنسانيِ هو عمارةُ الأرضِ بالإيمان، وإقامةُ شرع اللهِ يقولُ الله تعالى: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}(العنكبوت:56)
ولذلك فمتى تعذَّرَ تحقيقُ هذه الغايةِ فوقَ أرضٍ ما فلا بُدَّ من البحثِ عن غيرِها مهما كانتِ التضحيات، بحثا عن أرض صالحةٍ لنشرِ الإسلامِ، وعرضِ الإيمان الصافي على الناسِ من غير إجبار ولا إكراهٍ.
ولذلك لما رفض أهل مكة الإسلام والإيمانَ، وآثروا الكفرَ والتقليد، أصبحتْ مكةُ بلدَ كفرٍ ودارَ حربٍ، وحُرِّمَ البقاءُ فيها، وأصبحتْ مجاورتُها مع القدرةِ على مُغادرتِها واحدةً من كبائرِ الذنوب، { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْارْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ ارْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء:97).
عباد الله:
لقد أكدت الهجرة النبوية أن عزة الأمة تكمن في تحقيق الإيمان بالله تعالى، وتوحيد الصف عليه، وأن أي تفريط في أمر الإيمان أو تقصير في الأخوة الإيمانية مآله ضعف الأفراد وتفكك المجتمع وهزيمة الأمة، وإن المتأمل في هزائم الأمم وانتكاسات الشعوب عبر التاريخ، يجد أن مردّ ذلك إلى التفريط في أمر الإيمان، ذلكم أن قوة الإيمان تفعل الأعاجيب وتجعل المؤمن صادقًا في ثقته بالله والاطمئنان إليه والاتكال عليه، لا سيما في الشدائد، لنتأمل أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو ينظر إلى مواضع أقدام المشركين في باب الغار فيقول: يا رسول الله: لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا، فيجيبه صلى الله عليه وسلم جواب الواثق بنصر الله: “يا أبا بكر: ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!”.
الله أكبر، ما أعظم لطف الله بعباده ونصره لأوليائه، وفي هذا درس بليغ لدعاة الحق وأهل الإصلاح في الأمة أنه مهما طغت الظلمة فوعد الله آتٍ لا محالة: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْـئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا}(يوسف:110).
عباد الله:
علمتنا الهجرة النبوية أن الإيمان رابطة يتضاءل أمامها الانتماء القومي، والتمايز القبلي، والعلاقات الحزبية.
علمتنا الهجرة أنَّ هذا الدينِ لا يَقومُ إلا بالتضحيةِ والبذلِ والعطاء، لأن الإسلام دينٌ لا يُعلِّقُ كبيرَ أملٍ على الكُسالى والخانعين، ولا يمنحُ شرفَ حملهِ ونُصرتهِ للمتراجعينَ والمتثاقلين، إنَّه الدين الذي لا يقبل البيع ولا الشراء، إنَّما هو جهدٌ، وبذلٌ، وتضحيةٌ.
إن الناظرَ في تاريخِ الأمة المجيد؛ يجد أرواحا قد أزهقت ودماء قد سالت وأطرافا قد بترت وأموالا قد أنفقت ونفوسا قد بذلت…
قال تعالى: { من المومنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا } ( الأحزاب :23)
ولله ذر القائل:
وهدِّم فراشكَ رمزَ الْخمول
وقمْ للجهـادِ ولا تقعـدِ
وقم للنضالِ وخوض القتال
وشمِّر عن الساقِ والساعدِ
عباد الله:
لقد باع الشهداء والمجاهدون أنفسهم وأموالهم إلى ربهم، فماذا قدَّمنا نحن لدينِنا وأُمتِنا الممزقة؟! ما مقدارُ الهمِّ الذي نحملهُ في قلوبِنا تجاه قضايا أمتنا وديننا؟!
باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيم، ونفعني وإيَّاكم بالذكر الحكيم، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
….عباد الله:
إن شهر الله المحرم، من أعظم شهور الله جل وعلا، وهو من أشهر الله الحرم، فيه نصَرَ الله موسى وقومه على فرعون وملئه، ومن فضائله أن الأعمال الصالحة فيه لها فضل عظيم، لا سيما الصيام، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل”.
وأفضل أيام هذا الشهر يا عباد الله يوم عاشوراء، في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء، فقال لهم: “ما هذا اليوم الذي تصومونه؟!”، قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا فنحن نصومه، فقال: “نحن أحق بموسى منهم”، فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه.
وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: “أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله”
فيا له من فضل عظيم لا يفوِّته إلا محروم.
وقد عزم على أن يصوم يومًا قبله مخالفة لأهل الكتاب فقال صلى الله عليه وسلم: “لئن بقيت إلى قابل لأصومنَّ التاسع” خرجه مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.