نظرات في أزمة التربية في الأمة الإسلامية(3)


أزمة التربية الـمعدة لغد الأمة

تقدم في العدد الماضي ما تضمنته المحاضرة من حديث عن مظاهر الأزمة في نوعين من أنواع التربية، أولاهما: في التربية الموروثة من ماضي الأمة، وثانيهما: التربية المفروضة على حاضر الأمة. ونقدم في هذا العدد، الجزء الأخير من هذه المحاضرة، الذي يتضمن حديثا عن أزمة التربية المعدة لغد الأمة، أو تربية ما بعد التغريب، مع خاتمة في معالم التربية المنشودة لإخراج الأمة الموعودة.

إن الأزمة في هذا النوع من التربية تتجلى فيما يلي:

1 – عدم الانطلاق من الأصل الجامع، لأن الأمة أمة واحدة، الأمة ليست أمما، وليست شراذم، وليست أجزاء، وليست طوائف، الأمة أمة منذ كانت، وينبغي أن تبقى كذلك حتى بالنسبة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال لهم الله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}، أي حتى في التاريخ من عهد آدم، أمة الإسلام أمة واحدة، وبذلك ينبغي أن تحافظ على هذه الوحدة.

إذن من أسباب الأزمة في هذا النوع من التربية، عدم الانطلاق من الأصل الجامع الذي هو الوحي أساسا، القرآن والسنة والسيرة، وعدم الانطلاق من المتفق عليه لا المختلف فيه، كما هو الحال، وفي غاية الوضوح، في جميع أنحاء العالم الإسلامي للأسف، وذلك بحكم عنصرين اثنين، أولهما تاريخي متسرب من التربية الموروثة، وثانيهما عصري متسرب الآن من أوروبا، من الغرب الحديث. فإذا أردنا جمع الكلمة في الأمة ينبغي أن ننطلق من المتفق عليه، لا من المختلف فيه، وكل ترسيخ للاختلاف والخلاف هو ترسيخ للفرقة في الأمة، ومحاولة وضع العوائق في طريق اجتماع كلمتها في المستقيل، وللأسف لا نقرأ التاريخ جيدا لنأخذ العبر والدروس: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}.

2 – عدم اعتماد المنهاج الجامع، وأكبر مثال له السيرة النبوية الذي يجد فيه كلٌّ مكانَه، ويتسع لاجتهاد كلٍّ في مكانه، أقصد بهذه العبارة أننا إذا أردنا جمع الناس ينبغي أن نجمعهم على منهاج جامع، لا منهاج يجمع الطائفة بعينها، فلذلك لابد أن يتسع المنهاج كما كان أول مرة لجميع النماذج البشرية، والطبائع البشرية؛ يتسع للذي فيه زيادة، وللذي فيه نقصان بشكل، ولكن من فيه نقصان يدفعه لتسريع للسرعة قليلا، ومن فيه زيادة يردعه ليخفف من السير الأكثر من اللازم. لجمع كلمة الأمة لابد من بناء المسلم الجامع، وألخصه في عبارة سهلة: مسلم الأمة لا مسلم الطائفة، أو المسلم فقط، نحن بحاجة إلى المسلم، ومعذرة إن قلت: “لا إلى الإسلامي”، هذه اللفظة للأسف هاجمتها منذ سنة 1973م سمعتها في ندوة ولم تُذَق لي، وحاولت استيعابها فعرضتها على القرآن الكريم فرفضها رفضا باتا، لأن فيه: {هو سماكم المسلمين}، ولم يسمكم الإسلاميين، ولم يسمكم بأي اسم طائفة، الاسم الذي يسعنا جميعا هو المسلمون، هو سماكم، “هو”، الضمير لا يعود على إبراهيم عليه السلام، كما يفهمه بعض المفسرين، هذا خطأ محض، الضمير يعود على الله جل جلاله، {وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم}…{هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس}، سماكم المسلمين، لا ينبغي أن نتسمى باسم آخر كائنا ما كان، لأنه يفرق ولا يجمع، والذي يجمعنا جميعا هو هذا الذي اختاره الله لنا ورضيه لنا. فهذا المسلم الجامع هو المسلم الذي – وإن انطلق من ذاته، أو انطلق من مجموعة، أو جمعية أو حزب أو أي شيء – يبقى مسلما، لأن ذلك شبح، ذلك كيان مادي بمثابة الشبح للروح، أما روحه ومعناه فيتسع للجميع، ويلتقي مع الجميع ويحكمه نظام الجميع في الأمة. هذا المقصود؛ الحفاظ على هذه الأطر التي هي أطر معنوية، أما الأطر المادية فلا إشكال فيها، ولكن الأطر المعنوية فيها إشكال عظيم، ولقد فعلت لنا الأفاعيل في تاريخنا؛ الطرقيات والطوائف وكل الأشكال الأخرى لأننا مررنا في تاريخنا بأشكال من الفُرقة المذهبية، وأشكال من الفُرقة الطائفية، وأشكال من الفُرقة الطرقية، إلى غير ذلك، وما كان ينبغي لنا ذلك.

3 – التأثر الكبير بالتجارب الفرعية التاريخية أو التجارب المعاصرة. وإذا كان التأثر بما هو معاصر واضحا في مسارات هذه التربية، فإن التأثر بالتجارب الفرعية التاريخية التي مرت بها الأمة يتجلى في أنها ليست لها علاقة بالتجربة الأم، وليست هي التجربة الأصل، لأنها لم تكن في علاقة مباشرة مع القران الكريم، بينما الأمر ينبغي أن يكون على خلاف ذلك. ولتوضيح الأمر نأخذ مثالا على ذلك: القمر في علاقته بنا، فالقمر أينما كنت في الكرة الأرضية تحس بأنه فوقك، وليس من الطبيعي ألا يكون القمر أو الشمس فوق ابن آدم وهو فوق الأرض، كما أنه ليس من الطبيعي أن ينظر الإنسان إلى هذا القمر بواسطة أخرى، لأنه لن يراه على طبيعته. أعني أنه خلال التاريخ مرت الأمة بتجارب لم تستنر فيها بنور القرآن مباشرة، ومن ثم حدث نوع من التشوه في ممارسات هذه التجارب. بينما الذي ينبغي أن يكون هو أنه في كل مرحلة من المراحل التاريخية يمكن أن يتفاعل ناسها مع القرآن الكريم مباشرة ويجدون جديدا بحسب زمنهم. فالآن على سبيل المثال لو وقفنا عند قوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء}، هل هذه عبارة يمكن أن يفهمها الأسلاف فهما دقيقا؟ لا يمكن، لأنه لا يوجد صِعاد في السماء حتى تُذاق هذه العبارة بشكل إعجازي، {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا}، أما اليوم فنعرف هذا الأمر بوضوح، كلما تم الصعود قل الأوكسجين، وكلما قل الأوكسجين صار الإنسان عرضة للاختناق. وهناك أمثلة كثيرة في هذا المعنى… فلكل زمن خطابه، ولكل زمن فهمه ما دام قومه مقتبسين من مشكاة النبوة؛ {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} (سنري)، التعبير مستقبلي يشمل جميع العصور القادمة حتى تقوم الساعة، (حتى يتبن لهم أنه الحق) وعندما يتبين أنه الحق {يوم يأتي لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت قبل}، لأن الإيمان ينفع مع وجود الغيب، الإيمان لا يكون إلا بمغيب، لا يأتي أحد يقول أنا أومن بأن الناس موجودون الآن في القاعة، هذا كلام فارغ لا إيمان بالشهادة، موضوع الإيمان هو الغيب، الإيمان بالغيب من خصوصيات آدم وبنيه، ليست كبقية البهائم، لا ترى غيبا ولا تؤمن بالمغيبات، تؤمن بالمحسوسات، لكن الإنسان يستطيع أن يستدل بالشاهد على الغائب، على كل حال.

4 – الدخن بمصدريه القديم والحديث، بدل التخفيف منه، و(الدخن) في العربية من جملة ما نصت عليه المعاجم: يقال مثلا: هذا على دخن أي على فساد باطن، وبينهما دخن، أي: حقد وهو خفي بمعنى أنه نوع من الفساد، يتسرب من مصادر متعددة. والدخن في التربية له مصدران كبيران مصدر تاريخي ومصدر معاصر من الغرب، هذان هما المصدران اللذان بهما يكثر هذا الدخن.

وأخيرا خاتمة مختصرة في معالم التربية المنشودة لإخراج الأمة الموعودة:

أولا: تُؤخذ الحسنات الموجودة وتُتجنب سيئاتها.

ثانيا: تربية لا تتلقى إلا من الأصل الذي هو القرآن، وسنة البيان، تربية لا تتلقى من غير الأصل إلا بميزان الأصل، إذا أرادت أن تتلقى من الغرب مثلا أو من غيره لا يُتلقى شيء إلا إذا عُرض على ميزان القرآن فقبله، أما إذا لم يقبله فلا.

ثالثا: تربية تنطلق من الأصل الجامع والمنهاج الجامع لبناء المسلم الجامع، والأمة الجامعة.

رابعا: تقديم الدين على الطين، والأصول على الفروع، المصالح الكبرى على الصغرى، والآخرة على الدنيا.

خامسا: تربية تبعث الهمة لكشف الغمة عن الأمة والصعود بها حضاريا إلى القمة. أَيُّ تربية تُبْقِي الناس في حالة برود وفي حالة سكون هي تربية غير مُخصِبة لابن آدم. ابن آدم مُخْصِبهُ أساسا هو الوحي، لا مُخصِب لمعدنه ولا لعنصره كالوحي النازل من عند الله عز وجل. فلذلك لابد من رسالة وأهداف واضحة، أساسها عودةُ الأمة إلى التاريخ سائدةً قائدةً لتكون شاهدةً، عودتُها بالعمل لشرع الله الحنيف لتستريح البشرية وتتحرر من طغيان الطواغيت كيف ما كان نوعهم.

وبالله التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أ.د. الشاهد البوشيخي

————-

(*) الموضوع في أصله محاضرة ألقيت في ندوة افتتاح الموسم السنوي لجمعية النبراس الثقافية بوجدة بتاريخ 29 أكتوبر 2011م، وقد أعدها للنشر الدكتور عبد الرحميم الرحموني

 

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>