محمد حماني
شب شيخنا الدكتور عبد السلام الهراس في مسقط رأسه شفشاون في كنف أسرته ذات الأصول الأندلسية، والبلاد حينئذ ترزح تحت نير الاستعمار الإسباني، حيث تلقى العلم من علمائها الأجلاء :
- الشيخ تقي الدين الهلالي
- الفقيه بن خجو
- الفقيه محمد اليمني مهدي
- الفقيه عبد القادر الخزاني
- الشيخ عبد الله دراز
- الفقيه محمد حداد
ثم انتقل إلى فاس حيث “جامع القرويين”، إذ درس بهذا الصرح العلمي ست سنوات، حيث حصل على الشهادة الابتدائية بها سنة (1946/1947)، كما درس بها أيضا أربع سنوات بالمستوى الثانوي. ثم تابع دراسته بلبنان حيث حصل على شهادة البكالوريا هناك، ثم نال شهادة الإجازة في اللغة العربية والدراسات الإسلامية من مصر، ثم بعد ذلك حصل على الإجازة في الحقوق والقانون الخاص من الرباط، ودكتوراة الدولة من جامعة مدريد في موضوع أندلسي تحت إشراف المستشرق : “إلياس تيرس صادَبا”.
والأستاذ الدكتور عبد السلام الهراس شيخ الأجيال في تراث الأندلس، بل في تاريخ هذه الأمة، وأدبها وحضارتها، الحامل لهم المسلمين، أحد أعلام الفكر(*).
ومن الشيوخ الذين نال منهم الشيخ عبد السلام الهراس علما وافرا بجامع القرويين :
- الشيخ علال الجامعي
- الشيخ محمد مكوار
- الشيخ أحمد الحبابي
ثم إلى جانب هؤلاء الشيوخ درس على يد الشيخ عبد الكريم العراقي النصوص الأدبية القديمة والأندلسية، أما الجغرافية فقد درسها على يد الأستاذ بوزيان حيث يذكر الأستاذ الهراس أنه كان أستاذا ناجحا في هذه المادة، وأنه كان يرسم لهم الخرائط بالطباشير الملونة في الحائط، أما أستاذ الحساب فهو : الشيخ الشرفي الذي أصبح من رجال القضاء المختارين بوزارة العدل المغربية.
والواقع أن الأستاذ عبد السلام يوم كان طالبا بجامع القرويين، لم يكن يتصور آفاق التخرج حيث يقول : “الكثير من أصحابي الطلبة، وأنا معهم لم نكن نتصور الآفاق بعد التخرج في القرويين فكنا نطلب العلم لنصبح علماء، أدباء، كتابا، شعراء، شيئا ذا قيمة لوطننا(1).
تعد جامعة القرويين إذا إلى جانب أخوات لها كالزيتونة، والأزهر.. منارات إشعاع ديني وثقافي عبر التاريخ. فما طبيعة الدور الذي تضطلع به هذه المؤسسة ومثيلاتها في العالم العربي والإسهام بين الماضي والحاضر.
يقولون : لولا النيل ما كانت مصر، أو أن مصر هي هبة النيل، والواقع أن المغرب وتونس، ومصر هي هبة هذه المراكز الثقافية العلمية، وهذه المنارات العظمى، فلولا القرويين ما كان المغرب، لا في الماضي، ولا في الحاضر، ولا في المستقبل(2).
فإذا كانت الأمم الأخرى قد انطلقت من الكنيسة، ومن الأسماء العلمية كالدكتوراه وغيرها. “فإنه كان يجب أن ننطلق نحن أيضا من القرويين، ومن الزيتونة، ومن الأزهر، ومثيلاتها وأن نعمم هذا التعليم بفروعه المختلفة، على بلادنا، وأن يكون هو الأساس، وأن يشمل المهن وغيرها، لنستطيع أن نخرج أمثال ابن سينا، وابن رشد وأمثالهما من الرجال العظام الذين كانوا علماء في الشرق والغرب”(3).
والجدير بالذكر أن الشيخ عبد السلام الهراس ظل يشيد بالدور الذي يلعبه جامع القرويين حيث كان قبلة لطلاب العلم والمتعطشين إلى حياض المعرفة، ويرى أستاذنا الهراس : “أن المغرب لم تكن له مكانة في التاريخ، ولن تكون له مكانة في المستقبل إلا إذا أعاد للقرويين الحياة السابقة، واستطاع أن يطورها كما تتطور الحياة ليمتد إشعاع القرويين مثلما كان في الماضي إلى إفريقيا، لما ساهم بفعالية في النهضة الإسلامية الكبرى التي يشهدها العالم الإسلامي الآن، بفضل هذه الصحوة العظيمة التي تنتظم العالم الإسلامي كله”(4).
ويقول شيخنا الهراس في موضع آخر عن القرويين : “هي عنوان مجدنا، وأي مساس بها هو مساس بهذا المجد، وأي تخريب لها هو تخريب للإسلام، وإرضاء للمنظمات التنصيرية في العالم، وإعانة لهم على تنصير المغرب، وتخريب أسسه، وتمزيق نسيجه الاجتماعي…”(5).
كما أشاد الدكتور عبد السلام الهراس بخزانة القرويين وما تحتويه من مخطوطات علمية نادرة، ونبه إلى أن خزانة القرويين تحتاج إلى ميزانية مناسبة لتزويدها بالكتب، والأبحاث والدراسات الجامعية، في أهم المجالات بفاس، كما أنها تحتاج – في رأيه – إلى عناية خاصة بالخُروم التي تتناثر أجزاؤها، وتتحول بعض صفحاتها إلى رماد.
ومهما يكن من أمر فإن شيخنا الهراس يعتبر من الغيورين على وطننا الحبيب في ماضيه، وحاضره، ومستقبله، وهو أحد ضمائر هذه الأمة ممن يستحق أن يبقى حيا في ضمائر الناس!!
ولقد زار عالمنا الهراس جامع القرويين ذات يوم بصحبة الدكتور الأديب والطبيب المهدي بن عبود -رحمه الله- فوجداه خاليا إلا من أجساد نائمة هنا وهناك، وتألما كثيرا للمصير المحزن لهذا الصرح العلمي العالمي، وإثر وفاة علماء أجلاء في محرم، وصفر من عام 1398 هـ، فنظم قصيدة باذخة، ماتعة، جيدة، أضفى عليها شاعرنا الهراس من فيوض الوجدان، حيث يقول في مطلعها(6) :
تفجر نور هنا وانتشر
يُبَرِّدُ ليْلا وخِيم الأَثَرْ
فمَشْرِقها من هُنا شَمْسُه
مُذْ آمَنَ مَغْربُنا وادَّكَرْ
وفي فاسِنا بوركَتْ مسجدا
أناَخَتْ شُموسُ العلا والزَّهر
فليس لنا غيره جامعا
وليس لنا سواه مُفتَخَرْ
إلى أن يخاطب شاعرنا الهراس “جامع القرويين” متسائلا عن سبب فقدان ريادته :
أجامعَنا ما دهاك فقد
أطَلْتَ الوجُوم فهل مِنْ كَدَرْ؟!
أجامِعَنا إن دَهَتْكَ خُطوبٌ
فلا شمس في أفقنا أو قمر!
فيجيب الشاعر على لسان الجامع:
لقد هجروني وما أفلحوا
فهَدْمُ الجوامع إحدى الكُبَر
وقد يغفر الله سفك دماء
وسَفْكُ المنابر لا يُغتَفَر
وصفوة القول : إن وقوق شاعرنا الهراس على “جامع القرويين”، لم يكن وقوفا في ذاته، وإنما من فضائل شيخنا الهراس : “الانتقال من سكب العَبرة إلى كسب العِبرة”، وما قاله في هذه القصيدة يكفي لإيقاظ النائمين، وتنبيه الغافلين إلى الدور
الطلائعي الذي كان للقرويين، والتنبيه إلى مصيره المحزن الذي آل إليه.
وصدق شاعرنا الهراس إذ قال في آخر قصيدته :
فهلاَّ إلى الدِّين من عَوْدة
تعيد لنا مجدنا المُنْتَظر
فبالدِّين كنا نقود الوَرَى
وبالعلم كنا شُموسَ العُصُرْ.
———
(*) موقع مجالس الفصحى، الأستاذ : عبد الرحمن بودرع.
1- جريدة التجديد، بتاريخ 2003-12-25.
2- مجلة الفيصل، العدد 145، ص 44 (في حوار مع الدكتور عبد السلام الهراس، أجراه الأستاذ : علي الغزيوي رحمه الله تعالى).
3- نفس المرجع.
4- نفس المرجع.
5- جريدة المحجة، عدد 276 (بارقة : “من المساجد سطعت أنوار حضارتنا”).
6- نفس المرجع، ص 19 (قصيدة للدكتور الهراس بعنوان : “القرويين يُحتضر”).