لما وشى بعض الحساد بابن تيمية رحمه الله تعالى إلى السلطان الناصر ملك مصر، وزعموا أنه يخطط للخروج عليه، وانتزاع الملك منه. أرسل إليه وأخبره بما انتهى إليه سمعه، فما كان من ابن تيمية إلا أن قال قولته المشهورة التي تستحق أن تكتب بماء الذهب. واسمع معي بقلبك إلى هذه الكلمات التي نطق بها لسان عبد مؤمن راغب فيما عند الله، زاهد فيما عند الناس من حطام الدنيا.
قال رحمه الله : “إن ملكك وملك كل ملوك الدنيا لا يساوي عندي شيئا، إني مذ عقلت وأنا أطلب جنة عرضها السماوات والأرض”.
كذاك كن أيها السالك، اجعل همك ما عند الله والدار الآخرة فقد قال سبحانه : {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون}(العنكبوت : 64).
وقد قال حبيبك صلى الله عليه وسلم : >من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعلالله فقره بين عينيه، وفرق شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له<(2).
فنصيبك من الدنيا آتيك لا محالة، فلم القلق والانشغال القبلي، بأمر قد فرغ منه >لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها<(1).
ابذل الأسباب، واضرب في الأرض، وليكن قلبك واثقا ونفسك مطمئنة، واجعل شعارك {وعجلت إليك ربي لترضى}(طه : 82) فما هي إلا أيام وتقف بين يدي سيدك ومولاك، فليت شعري ما أعددت، وكم من الصالحات قدمت.
خرج بشر الحافي مع أحدهم في سفر، فلما كانا ببعض الطريق مرا على بئر فقال الرجل لبشر : أنشرب من هذا البئر؟ فقال بشر رحمه الله تعالى : اصبر إلى البئر الأخرى. فمضينا حتى إذا بلغا بئرا أخرى ببلدة أخرى وقال الرجل : أنشرب من هذه؟ فقال بشر : اصبر إلى الأخرى فلما وصلا إليها إذا هي بالبلدة التي أرادا، فالتفت بشر إلى الرجل وقال : هكذا تقطع الدنيا(2)!! وقد قال الإمام أحمد رحمه الله إنما هو طعام دون طعام ولباس دون لباس وإنما هي أيام قلائل(3). فهي إذن أيام قلائل. فخذ نصيبك منها ما وافقك الشرع، وانقل قلبك من الدنيا إلى الآخرة فهي خير لك وأبقى.
فما هي إلا ساعة وتنتهي، ويَحْمَدُ غِبَّ السير من هو سائر.
—-
1- صحيح الجامع الصغير/ 2085 ـ ابن ماجة 2144
2- صفة الصفوة 2/202
3- سير أعلام النبلاء 7/478