روى الإمام مسلم : ((عن واصل بن حيان قال: قال أبو وائل: خَطَبنا عمار فأوْجَز وأبْلَغ، فلما نَزل قُلنا: يا أبا اليقظان لقد أبْلغتَ وأوْجزتَ فلو كنتَ تَنَفَّستَ. فقال: إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن طولَ صلاة الرجل وقِصَرَ خُطبته مَئِنَّةٌ مِن فِقهه، فأطيلوا الصلاةَ واقصُرُوا الخُطبة، وإن مِن البيان سِحرا))(1).
النص من قسمين:
نازلة، وهي خطبة عمار، وتعليق الناس عليها.
وحديث نبوي استدل به عمار على سُنية ما فعله.
أما خطبة عمار فقد ورد في النص أنها وجيزة بليغة، ومع ذلك قال له الناس بعد أن نزل: ((لو كنت تنفستَ))، أي: ((أطلت قليلا))(2)، و((أصله أن المتكلم إذا تنفس استأنف القول، وسهلت عليه الإطالة))(3).
وتدل مطالبة الناس عمارا بالتنفس على أن بلاغة الخطبة جعلتهم يشعرون بحاجتهم إلى المزيدمنها، ووجود الاستعداد النفسي لذلك، وذلك من علامات جودتها وتوفقها، فدل ذلك على أن الخطبة الجيدة لا يشبع منها الناس، كما دل على أن عيار نجاحها الإيجاز والبلاغة.
والملاحظ أن الناس استقصروا الخطبة وعلّقوا فقط على حجمها، ولم يعلقوا على بلاغتها؛ إذ النص دال على إعجابهم بها (فأوجز وأبلغ).
ولقد أظهر استدلال عمار بالحديث النبوي واقتداؤه بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة أنه قصد الإيجاز قصدا، وأن له في ذلك مستندا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن طول صلاة الرجل وقِصَر خُطبته مَئِنَّةٌ مِن فِقهه، فأطيلوا الصلاة واقصُرُوا الخُطبة، وإن من البيان سحرا)) ففيه أمور:
أولها علاقة الصلاة بالخطبة، وهي علاقة تفهم من التنبيه النبوي على ضرورة إطالة الصلاة وتقصير الخطبة، فحجم إحداهما مرتبط بحجم الأخرى.
وثانيها علاقة الصلاة والخطبة بالفقه (إن طول صلاة الرجل وقِصَر خُطبته مَئِنَّةٌ مِن فِقهه)، والمئنة: العلامة، ومنه يُستفاد أن مِن علامات الضعف في الفقه قِصرَ الصلاة، وطُولَ الخطبة، واستواءَهما… وأن الفقيهَ المفَقَّه مَن نَظَر إلى الخطبة بميزان الصلاة.
وثالثها علاقة كل ذلك بسحر البيان، وقد سبق حديث ((إن من البيان لسحرا))(4) والكلام عنه، ولذلك نكتفي ها هنا بما له علاقة بالسياق:
وأول ما يلاحظ ها هنا أن استدلال عمار بالحديث النبوي ورد في سياق تعليقه على إظهار الناس رغبتهم في أن يتنفس في الخطبة، مع علمهم أنه أوجز وأبلغ.
وتعليق عمار فيه رد على الناس من وجوه:
الأول أن ما فعله هو السنة.
والثاني أنه إن أطال الخطبة وجب أن يطيل الصلاة ليجعلها أطول منها.
والثالث أن المهم هو طول الصلاة لا طول الخطبة.
بقيت أمور تستفاد من جمع النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه بين قصر الخطبة وسحر البيان والفقه:
سبق أن من علامات فقه المرء قصر خطبته، فليس من الفقه في شيء إطالة الخطبة، فبان خطأ من يطيل.
وسبق أيضا أن النظر إلى مدة الخطبة مبني على نظر إلى مدة الصلاة، وأنه ليس من الفقه في شيء أن تكون الخطبة أطول من الصلاة.
وسبق كذلك أن أثر خطبة عمار جعل الناس يطلبون المزيد منها.
فما العلاقة بين كل ذلك وبين الحديث عن البيان، وأن منه سحرا؟
لا ريب أن الحديث عن سحر البيان يتجه مباشرة إلى الحث على قِصر الخطبة، وعلى كون ذلك مئنة من فقه المرء، وحينها يُفهم أن على الخطيب أن يبني خطبَته على القصد والإيجاز، وأن يطلب عناصر قوة خُطبته في سحر البيان، وأولُ مَدخل مِن مداخل هذا السحر الإيجازُ؛ لأن السحرَ ((كل ما لطف مأخذه))(5)، و((البيان في فطنة))(6)، واللطف والفطنة مرتبطان بالإيجاز لا بالإطناب، لأن الإطالة ثقل، وهي ليست من الفطنة في شيء، فأفاد هذا أن دبيب سحر البيان في النفوس سببه هذا اللطف في العبارة.
وإذ قد ظهرت طبيعة العلاقة بين قصر الخطبة والفقه وسحر البيان عُرف أن في استشهاد عمار بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ردا آخر على الناس هو أن السحرَ الذي مارسته خطبتُه فجعلتهم يستزيدونه سببُه بيانُه الذي سببُه قصرُها الذي سببه حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، فأفاد ذلك أن القصر في الخطبة مطلوب؛ لكونه مما ينبني عليه سحر بيانها.
———–
1- شرح صحيح مسلم، 6/131، حديث رقم 869، ك. الجمعة، ب. تخفيف الصلاة والخطبة.
2- شرح صحيح مسلم، 6/131.
3- النهاية في غريب الحديث والأثر، 5/94، مادة ((نفس)).
4- صحيح البخاري، 3/360، حديث رقم 5146، كتاب النكاح، باب الخطبة.
5- لسان العرب، 4/348، مادة +سحر؛.
6- م.س.