من وحي القلم لمصطفى صادق الرافعي
أما والله لو عمَّ هذا الصوم الإسلامي أهل الأرض جميعاً لآلَ معناه أن يكون إجماعاً من الإنسانية كلِّها على إعلان الثورة شهراً كاملاً في السنة؛ لتطهير العالم من رذائله وفساده، ومحق الأثرة والبخل فيه، وطرح المسألة النفسية؛ ليتدارسها أهل الأرض دراسة علميةً مدةَ هذا الشهر بطوله؛ فيهبط كلُّ رجل، وكلُّ امرأة إلى أعماق نفسه ومكامنها؛ ليختبر في مصنع فكره معنى الحاجة ومعنى الفقر، وليفهم في طبيعة جسمه لا في الكتب معاني الصبر والثبات والإرادة، وليبلغ من ذلك وذلك درجات الإنسانية والمواساة والإحسان؛ فيحقق بهذه وتلك معاني الإخاء، والحرية، والمساواة.
شهرٌ هو أيام قلبيَّة في الزمن، متى أشرفت على الدنيا قال الزمن لأهله: هذه أيام من أَنفسكم لا مِن أيامي، ومِن طبيعتكم لا مِن طبيعتي، فيقبل العالم كلُّه على حالة نفسية بالغةِ السمو، يَتَعهَّد فيها النفس برياضتها على معالي الأمور، ومكارم الأخلاق، ويفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح، ويراها كأنَّما أُجيعت من طعامها اليومي كما جاع هو، وكأنما أفرغت من خسائسها وشهواتها كما فرغ هو، وكأنما أُلزمت معاني التقوى كما ألزمها هو.
وما أجمل وأبدع أن تظهرَ الحياة في العالم كلِّه- ولو يوماً واحداً- حاملة في يدها السُّبحة! فكيف بها على ذلك شهراً من كلِّ سنة؟
إنها والله طريقة عملية لرسوخ فكرة الخير والحق في النفس، وتطهير الاجتماع من خسائس العقل المادي، ورد هذه الطبيعة الحيوانية المحكومة في ظاهرها بالقوانين، والمحررة من القوانين في باطنها إلى قانون من باطنها نفسه يُطهِّر مشاعرها، ويسمو بإحساسها، ويصْرِفُها إلى معاني إنسانيتها، ويهذب من زياداتها، ويحذف كثيراً من فضولها، حتى يرجع بها إلى نحو من براءة الطفولة، فيجعلها صافيةً مشرقةً بما يجتذب إليها من معاني الخير والصفاء والإشراق؛ إذ كان من عمل الفكرة الثابتة في النفس أن تدعوَ إليها ما يلائمها، ويتصل بطبيعتها من الفِكَرِ الأخرى…
ألا ما أعظمك يا شهر رمضان! لو عرفك العالم حقَّ معرفتك لسَمَّاكَ: مدرسة الثلاثين يوماً.