مقدمة في أن الاسلام الحضاري للمغرب مرده إلى القرويين
أيها الأحبة المغرب حتى الآن في عدد من جهات العالم لا يعرف عند عدد من الشعوب إلا بفاس. ولقد فوجئت يوما وبالتحديد في سنة 1996 كنت في مؤتمر بمدينة اسطنبول فسألوني من أين ؟ قلت: من المغرب فما عرفوا المغرب قلت: من فاس قالوا من فاس؟! قلت نعم من فاس. الشعب التركي حتى الآن يسمى المغرب فاس والمغربي عندهم فاسي فقط.
فاس هذه هي العاصمة العلمية للمغرب تجدون ذلك في المدخل إلى فاس. وتجدونه في التلفزة والصحف وتجدونه لدى المنظمات الدولية كالإيسيسكو واليونسكو وما أشبههما.
فاس هي العاصمة العلمية للمغرب. من أين جاءتها هذه العاصمية؟ وكيف أصبحت فاس هي العاصمة العلمية وبأي شيء؟
الجواب في غاية الوضوح : إنّها القرويين نعم القرويين.
لقد أخذت فاس هذا الوسام واستحقته ولم يتصدق عليها به، بسبب شيء واحد أساسي، هو القرويين.
فما هي القرويين التي بها عرفت فاس، وبفاس عرف المغرب وكان هذا الإشعاع العلمي والحضاري شمالا وجنوبا وشرقا؟.
مفهوم القرويين.
للقرويين ثلاثة معان:
1- القرويين الجامع الذي بنته السيدة فاطمة الفهرية سنة 240 هـ رحمها الله تعالى وجزاها أفضل الجزاء والذي تطور بسرعة من جامع للصلاة إلى جامعة للعلوم، فكان أول جامعة في العالم ـ أي أن التدريس فيه للعلم الشرعي ثم لغيره من العلوم بدأ في وقت مبكر فصار بذلك جامعة للطلبة بل جامعة للأمة على غرار ما يقال اليوم عن الجامعة الشعبية التي يدخل إليها التجار والصناع وغيرهم. وقد كان العلم في جامع القرويين متاحا لكل الناس وبسبب ذلك صار يقال يوما (عامي فاس خير من عالم غير فاس) ذلك بأنه يتلقى العلم يوميا عن أكابر العلماء فلا يمضي زمن كبير حتى يصير عنده علم كثير غزير.
وإذا قورن بغيره في جهة أخرى تميّز تميزا كبيرا.
إذن القرويين تعني الجامع الذي بني. والذي مازال حتى الآن يتوسط المدينة مسجدا جامعا وجامعة لتدريس العلم وتدارس العلم ونشر العلم وهذا وأكثر منه معلوم مشهور عبر التاريخ. لا يحتاج إلى تفصيل ولذلك لم أضع الماضي في العنوان لأني أحسب أنه لا يكاد يوجد شخص في هذا البلد لا يعرف شيئا عن القرويين ولاسيما في الماضي، يعلم أنها كانت شيئا مهما حتى ولو لم يعرف التفاصيل ولو تصفح أي واحد ما في الشبكة (الأنترنيت) عن القرويين، أو استشار الشيخ العلامة “گوگل Google”! لوجد العجب العجاب عن هذه المؤسسة وما يقوله الناس عنها في مختلف بقاع العالم إذ يتصورونها معلمة حضارية ضخمة كبيرة ذات تأثير كبيرعظيم.
2- القرويين الجامعة: وهي حديثة النشأة جاءت مع أخواتها الجامعات في نهاية الاستعمار الفرنسي وبداية الاستقلال. وكان متوقعا أن تكون بحسب شهرتها التاريخية أضخم جامعة وأقواها وأعظمها في المغرب لكنها للأسف حتى الآن مبنى وحجما قد تكون في آخر السلم بين الجامعات.
3- القرويين التعليم الأصيل : هو هذا النوع من التعليم الذي سمي أولا بالتعليم الأصلي ثم سمي بالتعليم الأصيل وهو نوع من التعليم ما زال موجودا في (ثانوية القرويين) وفي عدد من المؤسسات بالمغرب، يمتاز بحضور العلم الشرعي فيه أكثر من حضوره في التعليم العمومي. وقد نما بقوة في بداية الاستقلال ثم أصابه بعد ذلك ما أصابه.
وإذن فالتعليم بالقرويين له ثلاثة معان : التعليم في الجامع والتعليم في الجامعة والتعليم في المدارس التي تحضر للجامعة في الابتدائي والإعدادي والثانوي.
القرويين في الحاضر
1- التعليم في الجامع :
التعليم في الجامع الآن موجود، وليس قديم الوجود، بل هو قريب الوجود، أحدث أولا بطريقة خاصة على استحياء دون أن يكون له قانون ولا أي شيء، لكنه استطاع أن يبقى ويستمر فيه طلاب من بدايته إلى نهاية التعليم فيه، وتخرج منه خريجون يمكن تسميتهم بالعلماء الجدد هؤلاء الذين درسوا على البقية الصالحة من علماء القرويين بارك الله فيهم. درسوا عليهم وأتموا الدراسة ثم جاء نظـــــام الدراسة بالتعليم العتيق(1)، الــــــذي صدر في الجريدة الرسمية بتــــــاريخ 2006/08/21 منظما هذا النوع من التعليم أطواراً ومستويات وشهادات وهو التعليم الموجود حاليا في جامع القرويين.
وبسبب فقرة موجودة في القانون المنظم كاد هذا التعليم يفقد خصوصيته. هذه الفقرة تقول: >يجب أن تتضمن البرامج الدراسية المطبقة بمؤسسات التعليم العتيق حصصا إلزامية من المواد المقررة بمؤسسات التعليم العمومي في حدود الثلثين من الحصص المخصصة لهذه المواد، بما في ذلك مواد اللغات والرياضيات والرياضة البدنية كلما أمكن ذلك< (الفقرة 2 من المادة 4 من القانون 13.01). وعبارة ؛كلما أمكن ذلك+ واضح منها أن المقصود بها هو أن أغلب مؤسسات التعليم العتيق القائمة إبان صدور القانون لن تستطيع أن تدخل تلك الحصص بنفس الدرجة التي هي موجودة عليها في التعليم العمومي، وخاصة المؤسسات الموجودة في المداشر والأرياف والجبال لعدم وجود المدرسين.
هذه الفقرة بسبب نصها على >في حدود الثلثين من الحصص المخصصة لهذه المواد…< فهم منها أن الحصص الشرعية في التعليم العتيق لا ينبغي أن تتجاوز الثلث أما الثلثان الباقيان فللمواد غير الشرعية.
لكن هل هذا هو ما ينبغي أن يفهم من تلك الفقرة؟
الفقرة تقول: >يجب أن تتضمن البرامج الدراسية المطبقة بمؤسسات التعليم العتيق حصصا إلزامية من المواد المقررة بمؤسسات التعليم العمومي<.
فالحصص التي يتكلم عنها القانون 13.01 هي حصص المواد المقررة في التعليم العمومي التي لا وجود لها في التعليم العتيق. أما المواد الشرعية الموجودة في التعليم العتيق من قبل، فلا كلام عنها ولا يمسها القانون.
وقد احترمها احتراما كليا. وإنما تدخّل فقط في نقطة بعينها، لتقريب التعليم العتيق من التعليم العمومي ليتحقق التواصل، ولإعطاء قدر من المعاصرة لهذا التعليم، حيث إن طالب هذا التعليم ينبغي أن يعرف أشياء أخرى كالرياضيات والفرنسية والمعلوميات وغيرها.
ولتحقيق ذلك ينبغي أن تكون حصصها بالتعليم العتيق بمقدار الثلثين في حصصها بالعمومي.
وقد نتج عن ذلك الفهم غير المناسب واقع جلاه القرار 873.06 الخاص بنظام الدراسات والامتحانات بمؤسسات التعليم العتيق الصادر (عن وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية) بتاريخ 3 ماي 2006، والذي لم تتجاوز حصص المواد الشرعية فيه ثلث الحصص المقررة في جميع الأطوار (الابتدائي(31/10–33) والاعدادي(36/11) والثانوي(36/12)) إلا النهائي(27/12).
على أنه مما يذكر في هذا الشأن للوزارة فيشكر، ذلكم الاستدراك المهم الذي تـــــم في الأيام الدراسية 17- 18- 7/19/2007، والذي أخذ بجله في المقررات الجديدة لهذه السنة، ولاسيما في غير النهائي.
التعليم في الجامعة:
لكي نعرف مكان هذه الجامعة وحجمها وحالها يحسن أن نقارنها بجامعة أخرى ناشئة مجاورة لها هي جامعة سيدي محمد بن عبد الله.
يوما ما ذهبت عند السيد عميد كلية الشريعة السابق بفاس وسألته كم عدد الأساتذة بالكلية؟ فأجابني 25 أستاذا. وكنت يومها أستاذا بشعبة اللغة العربية بظهر المهراز وكان عدد الأساتذة عندنا في الشعبة وليس في الكلية تسعة وستين أستاذا (شعبة واحدة إذن أكبر من كلية بكاملها نحو3 مرات) قد تكون الآن وصلت إلى مستوى شعبة كبيرة أو أكثر ولكنها لا تزال بعيدة عن نظائرها بغيرها.
هذه الجامعة ماذا يوجد منها في المغرب: توجد أربع كليات:
1- كلية الشريعة بفاس.
2- وكلية الشريعة بأكادير.
3- وكلية أصول الدين بتطوان.
4- وكلية اللغة العربية بمراكش.
تلقائيا من خلال هذا القدر من الكليات، ومن خلال الواقع الهزيل لها نستطيع أن ندرك بيسر أن هذه الجامعة ضعيفة ومنكمشة. إنها ضامرة وحجمَها صغير.
دراساتها العليا لم تبدأ يوم بدأ الناس، وما بدأت إلا بعد جهد جهيد، وهي تسير سيرا ضعيفا حتى الآن.
تلكم الجامعة هي أعرق من جامعة الأزهر من حيث التاريخ، ولكن الأزهر فيه كليات الطب والهندسة وفيه وفيه ناهيك عن باقي التخصصات الأخرى الشرعية والعربية.
التعليم في المدارس: من الابتدائي حتى الباكلوريا. أي التعليم الأصيل هذا التعليم بدأ قويا في أوائل الاستقلال وانتشر، لكن بعد ذلك ضعف بالتدريج : ضعفت روافده وتقلصت مسالكه وآفاقه، فصار الداخل إليه قليلا والذي يخرج منه لا يستطيع أن يذهب بعيدا.
وصار حجمه على شكل هرم منكوس : رأسه في الأسفل وقاعدته في الأعلى.
ذلك بأن عدد التلاميذ في التعليم الابتدائي الأصيل في المغرب كله حتى يونيو 2005 لا يصل إلى 1000. والمؤسسات التي فيها التعليم الابتدائي الأصيل بالمغرب كله ثلاث مؤسسات.
في الإعدادي يتحسن الحال، لكن كيف؟ يتحسن عن طريق من لم ينجحوا في نهاية التعليم الإبتدائي العمومي فيعطى لهم هذا الاختيار أي الذهاب إلى التعليم الأصيل بدل التكرار. ما هذا؟ المؤسسات التي فيها الشرع هو الأساس، لا تعطى للنخبة وإنما تعطى للعكس ومع ذلك لا يجاوز عدد تلاميذ الإعدادي 4000 تلميذ. إنه وضع شاذ. فإذا وصلنا إلى التعليم الثانوي وصل العدد إلى 14000 تلميذ.
وإذن الهرم هكذا : من 1000 في الابتدائي، إلى 4000 في الإعدادي، إلى 14000 في الثانوي.
هذا وضع غريب من كل الوجوه.
القرويين في المستقبل:
لدينا احتمالان:
الاحتمال الأول: الموت البطيء للقرويين ودلائله هي:
1- شكل الهرم الذي عليه نظام التعليم الأصيل.
2- الروافد الضيقة الرديئة.
3- ضعف نسبة التوجيه المحددة من مكاتب التصميم والخريطة المدرسية بالأكاديميات التعليمية.
4- المسالك الهامشية المحدودة للخريجين.
الاحتمال الثاني: البعث السريع للقرويين.
ومن أماراته خروج المذكرة رقم 92 (والمذكرة 128) التي تتحدث عن توسيع شبكة التعليم الابتدائي الأصيل والتي من أبرز بنودها :
1- إحداث ستة أقسام للأولى ابتدائي في مدرستين تعتبران رافدين للثانوية الإعدادية المتوفرة في الجهة.
2- إحداث ستة أقسام للأولى ابتدائي في مدرسة واحدة في الجهة التي لا تتوفر على ثانوية إعدادية للتعليم الأصيل.
3- إضافة ستة أقسام جديدة للأولى ابتدائي في كل موسم دراسي وأقسام في الثانية والثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة إلى أن تستكمل هذه المدارس المستويات الستة للتعليم الابتدائي.
4- تشكيل لجنة مشتركة على مستوى كل جهة من أطر الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين وأطر التعليم الأصيل للقيام بحملات إعلامية حول أهمية التعليم الأصيل في المنظومة التربوية بتنسيق مع أطر التوجيه التربوي ودراسة القضايا التربوية التي من شأنها أن تساعد على تيسير إرساء التعليم الأصيل بالتعليم الابتدائي. والمساهمة في تأطير دورات التكوين المستمر لفائدة الأساتذة.
كان هذا في 19 غشت 2005، واستجابة لهذه المذكرة بدأت بعض الأقسام في التدريس على مستوى الابتدائي، وبدأ ظهور الكتب المدرسية للتعليم الابتدائي الأصيل في ثوبه الجديد. ووصل عدد التلاميذ في السنة الأولى ابتدائي سنة 2006- 2007 إلى حوالي 4000 تلميذ.
فهذه أمارة من الأمارات التي تدل على أن بعثا جديدا للتعليم الأصيل يمكن أن يكون بقدرة الله تعالى وفضله.
وهذا التوجه الجديد قائم على الاحتفاظ بكل مواد التعليم العمومي مع إضافة المواد الشرعية إليه ولذلك يتوقع منه أن يذهب طلبته إلى كل المسالك، حسب ما هو متفق عليه حتى الساعة في التوجهات والاختيارات التي أصدرتها وزارة التربية والتعليم نفسها للتعليم الأصيل في صورته الجديدة.
ومن أماراته ما حصل من إحياء للتعليم بجامع القرويين والمبادرات العامة والخاصة المماثلة بجهات أخرى كل ذلك يجعل هذا النوع من التعليم الشرعي مرجواً أن يتحسن حاله في المستقبل بإذن الله تعالى.
فإذا أضيف إلى هذا المشروع السريع اللازم في تطوير جامعة القرويين في اتجاه أن تكون جامعة لكل التخصصات في العلوم الشرعية والعلوم الانسانية والعلوم المادية وجامعة لا يدخلها إلا النوابغ ذوو المعدلات العالية، فإن المياه ستعود إلى مجاريها والقرويين ستصل مستقبلها بماضيها :
- {اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها}(الحديد : 17).
- {ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا}(الإسراء : 51).
لوازم إحياء القرويين :
- الإرادة السياسية والرغبة الشعبية.
- الأداة القانونية.
- الدعم المالي : المحلي والدولي.
خاتمة في المستعجلات:
- تأسيس جمعية (أو جمعيات) لدعم التعليم الأصيل وذلك لتقوية الروافد وتصحيح وضع الهرم.
- تكوين لجنة متابعة للمحافظة على عتاقة التعليم العتيق.
- تكوين خلية لوضع تصور لتطوير جامعة القرويين في اتجاه أن تكون جامعة للنخبة في كل التخصصات.
د. الشاهد البوشيخي
————–
1- هذا اللفظ آت من الجهة الجنوبية للمغرب من أهل سوس هم الذين انتشرت عندهم المدارس العتيقة, المدارس التي تدرس العلوم الشرعية في الجبال والمداشر وغير ذلك, هذه المدارس تسمى عندهم بالمدارس العتيقة ولكونهم احتفظوا حتى الساعة بأكبر نسبة من هذه المدارس بالمغرب فغلب مصطلحهم على ما سواه وسمي هذا التعليم بكامله بالتعليم العتيق ومضمونه: التعليم الذي يدرس العلوم الشرعية والعلوم العربية انطلاقا من المتون وشروحها وكتب العلماء القدماء في مختلف العلوم الإسلامية والعربية ولذلك خريجه مفترض فيه ومتوقع منه أن يكون قويا في العلوم الشرعية والعربية.