التعليم الشرعي فريضة شرعية وضرورة تنموية
د. الشاهد البوشيخي
هذه المحاضرة ألقيت بمناسبة شهر رمضان المعظم (السنة الماضية 1426)
بسم الله الرحمان الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ولا حول وقوة إلا بالله العلي العظيم، ولا حول وقوة إلا بالله العلي العظيم، ولا حول وقوة إلا بالله العلي العظيم، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا. اللهم انفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا وزدنا علما، اللهم افتح لنا أبواب الرحمة وأنطقنا بالحكمة واجعلنا من الراشدين فضلا منك ونعمة، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، الحمد لله الذي من علينا بنعمة الإسلام وكفى بهانعمة، الحمد لله الذي من علينا بهذا الدين العظيم ومنّ علينا بهذا القرآن العظيم ومنّ علينا بهذا الشهر العظيم بارك الله لنا ولكم وللأمة جمعاء فيه وجعلنا نرقى فيه درجات ودرجات عنده في المهديين في هذا الشهر المبارك.
أيها الأحبة طلب إلي أن أتحدث في موضوع وطلبت أن يحدد لي فحمِّلت اختيار الموضوع وأحسب أن هذا الموضوع من المواضيع التي تستحقّ المعالجة وتستحق البيان في هذا الظرف التاريخي الذي تجتازه البلاد : التعليم الشرعي فريضة شرعية وضرورة تنموية.
واقع التعليم الشرعي في المغرب
ماذا نقصد بالتعليم الشرعي؟
نقصد بالتعليم الشرعي ذالك التعليم الذي موضوعه الشرع، فهو يعلم الشرع كتاباً وسنّة وعلوماً مستنبطة منهما أوعلوماً خادمة لهما، كل هذا إذا علِّم يدخل ضمن التعليم الشرعي.
هذا التعليم فيمَ يتمثل اليوم في بلادنا؟.
1) التعليم العتيق :
يتمثل التعليم الشرعي أول ما يتمثّل فيما يسمّى بالتعليم العتيق. ولفظ العتيق يعني القديم وهو التعليم الذي كان قبل مجيء الاستعمار الفرنسي إلى المغرب أي تعليم القرويّين وما شابه القرويين مثل كليّة ابن يوسف في مراكش ومثل ما كان في تطوان أيضا إلى غير ذلك. هذا التعليم هو الذي يُسمّى بالتعليم العتيق اليوم واللفظ في أصله كان سائداً في جنوب المغرب في بلاد سوس بالتحديد، فهذا النوع من التعليم كان مزدهراً في البوادي في سوس وكانت المدارس التي تُعنى به تُسمى المدارس العتيقة وكان مُزدهراً أيضاً في شمال المغرب في الجهة الغربية لسلسلة جبال الريف في تلك القبائل الكثيرة الممتدّة المترامية في شمال المغرب كان أيضاً يُوجد هذا النوع من التعليم وما زال ولكن بنسبة أقل.
والمراكز الكبرى التي كانت في داخل البلاد كانت المؤسسة الضخمة التي عُرفت عبر التاريخ وعُرف بها المغرب في التاريخ هي هذه المؤسسة التي تسمى بالقرويين. العلماء كانوا يَدْرُسون بشمال المغرب أو بجنوبه في المدارس العتيقة ثمّ يفِدون على القرويين ليزدادوا علما.
هذا النوع من التعليم يأخذ اليوم صورة جديدة تنتشر في البلاد بالتدريج عبر ما يسمى بدور القرآن التي تتحول الآن إلى مدارس عتيقة تابعة لهذا النظام التعليمي المُمَيّز الذي أصبحت تُشرف عليه وزارة متخصصة هي وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ولكنه مازال لم يَستقِم أمره حتى الساعة. خرج الظهير المُنظّم له منذ ثلاث سنوات أو أربع سنوات ولكن ما يُسمى في مجال القانون بالمراسيم التنظيمية لم تَصدُر بعد (علمت الجريدة أنها صدرت أخيراً في الجريدة الرسمية وستخصص لها ملفا بعد إن شاء الله) وهي في الطريق.
هذا النوع من التعليم يقوم أساساً على تعليم العلوم الشرعية التي عرفَتها الأمة بدءاً من كتاب الله تعالى فلا يدخل هذا التعليم إلا الذي يحفظ القرآن كله. فشرط الدخول إلى جامع القرويين الآن حِفظ كتاب الله تعالى كلِّه، ثم حفظ عدد من المنظومات في مختلِف العلوم : منظومات في الفقه، منظومات في النحو، منظومات في الصرف، منظومات في علم الحديث إلى غير ذلك. ثم بعد ذلك يبتدأ التدريس لتلك العلوم على طريقة القدماء انطلاقا من كتب مقرّرة يُدرّسها عالم من العلماء في ذلك الفن يُقرِّر المعلومات ثم يُعطي للسّارد من الطلبة فرصة السّرد ثمّ يستمِرّ الأمر هكذا في مختلف العلوم، هذا النوع الأول.
2) التعليم الأصيل :
النوع الثاني الموجود في المغرب أيضاً هو التعليم الأصيل وهو لفظٌ تطوّر عن التعليم الذي كان في القرويين. حين جاءت فرنسا، بعد التمكُّن من البلاد والأجساد والأشباح، حاولت التسلُّل إلى الأرواح وبدأت تتجه إلى الفكر فأسست المدرسة الفرنسية وسمّتها -على قاعدة الاستعمار في العبث بالألفاظ- المدرسة العصرية، بمعنى أنها المدرسة التي تمثل العصر، كأن المدرسة الأخرى المُمَثّلة في القرويين تمثل شيئا مضى وانتهى. في هذا الأمر إيحاءات كثيرة فيه إشارات يريدها الاستعمار أن تستقر في النفوس. فعلاَ أسس مدرسته وبدأ يقوّيها وإلى جانب ذلك يُضعف المدرسة الأخرى التي هي القرويين وما يُشبه القرويين. فأول ما فعل أدخلها فيما يسمى بالنظام. كان العلماء لا يتقاضون أجوراً ولم يكن لهم استعمال زمن كالمدارس ولم يكن لهم أشياء كثيرة فأصدر نظاماً صار فيه هذا النوع التعليمي منظما على طريقة التعليم الغربي فتطور الأمر قليلاً، ثم بعد مجيء الاستقلال ظهر لهذا التعليم اسم جديد اسمه التعليم الأصلي في مقابل التعليم الذي انتشر وتمكّن في البلاد الذي هو التعليم العصري. جاء هذا التعليم كأنه التعليم الذي كان في الأصل وهومتطور عن تعليم القرويين وهذا التعليم اعطي له نوع من الاهتمام في بداية الاستقلال ثم اضعف فأضعف فأضعف وظل يُضعّف حتى وصل إلى إنهاء وجوده من الناحية التصوّرية للتعليم في البلاد فيما يُسمى إن كُنتم تعرفون هذا الأمر بالكتاب الأبيض الذي ظهر بعد الميثاق الوطني للتربية والتكوين في سنة 2000 في عهد الوزير الأستاذ عبد الله ساعف.
هذا الكتاب الأبيض لا وجود فيه للتعليم الأصيل الذي يبتدئ من الابتدائي حتى الباكلوريا لاوجود لهذا النوع من التعليم فيه وإن كان احتفظ باللفظ في جُزء من التعليم العام في مرحلة التأهيلي أي في السنتين الأخيرتين من التعليم الثانوي وجد شيء يُسمّى بقطب التعليم الأصيل وهو جُزء من التعليم الذي يُسمّى بالتعليم العام الذي هو مُتطوِّر عن التعليم العصري الذي هو مُتطوِّرعن التعليم الفرنسي. إذن هناك خط يبتدئ من التعليم الفرنسي، فالتعليم العصري، فالتعليم العام، وهناك خط بجانبه يمثله تعليم القرويين الذي صار التعليم الأصلي فالأصيل الذي كاد يختفي نهائيا من الواقع بعد أن اختفى من الأوراق القانونية في سنة 2000، لكن الآن التعليم الأصيل يعود.
ابتداءاً من هذه السنة 2005 خرجت مذكرة أخيرة بعد جُهدٍ جهيد من جمعيات العلماء في المغرب مع وزارة التعليم على مدى خمس سنوات كاملة خرجت مذكرة رقم 92 يوم19 غشت 2005 وزعت على مديري أكاديمات المغرب في جميع الجهات (16 جهة) بعنوان : توسيع شبكة التعليم الابتدائي الأصيل.
هذه المذكرة التي وقّعها الوزير الحالي للتعليم الأستاذ لحبيب المالكي تنصّ نصّاً على أنه يجب بموجب هذا القرار وهذه المذكرة إحداث ستة أقسام للسنة الأولى من الابتدائي الأصيل في كل جهة بالمغرب لا يوجد فيها التعليم الأصيل. وتوجد جهات لا وجود للتعليم الأصيل فيها منذ استقلال المغرب كجهة البيضاء وجهة الرباط وجهات أخرى تشبهها لم يكن فيها رائحة للتعليم الأصيل قط، الآن بموجب هذه المذكرة ستحدث في الجهة كلها مدرسة واحدة فيها ستة أقسام للتعليم الابتدائي الأصيل.
الأمرالثاني الذي تنص عليه المذكرة أنه حيثما وجدَت إعدادية موجودة الآن للتعليم الأصيل فيجب إحداث مدرستين بمثابة رافدين لها، بنفس المستوى أي ستة أقسام للسنة الأولى من التعليم الابتدائي الأصيل. ففي فاس على سبيل المثال إعداديتان إعدادية في ثانوية القرويين في اشراردة وإعدادية موجودة للبنات في الخنساء. معناه ينبغي احداث أربع مدارس ابتدائية هذا العام كل مدرسة فيها ستة أقسام للسنة الأولى من التعليم الإبتدائي معدل القسم ثلاثين طفلا أي ما مجموعه 720 طفل، هذا الأمر بالنسبة لجهات أخرى في المغرب كجهة تطوان وطنجة والشاون وعدة مدن فيها خمس إعداديات معناه سينشأ فيها بموجب هذا القانون عشرمدارس هذا العام.
الأمر الآخر الذي تنص عليه هذه المذكرة هو إحداث لجن جهوية مشتركة لمتابعة هذاالملف بين العلماء والأكادميات للتغلب على الصعوبات القائمة لإحداث هذه المدارس، لأن الدولة لم تكن قد فكرت في هذا الموضوع، ووزارة التربية لم تكن قد فكرت في هذا الموضوع ولم يكن يعنيها، فلذلك لم تعدّ له لا المدارس ولا الأطر ولا التلاميذ ولا خريطة مدرسية للدخول إليه ولا أي شيء، وجاءت به في آخر الوقت، إذ كانت الدراسة على الأبواب. مع ذلك جزاهم الله خيراً على صدور هذه المذكرة وإصدارها، بارك الله فيهم، هي فتح من الفتح الذي يعرفه المغرب الآن، لأنه بموجب هذه المذكرة حتى إذا لم نَنْجح في أن تُؤسس هذه المدارس هذا العام فستُحدث في العام القادم إن شاء الله عز وجل قطعاً، لأن الآن هناك تأخر في الوقت وصعوبات لكن بعد ستدخل ضمن التصميم العام في جميع الأمور إن شاء الله تعالى.
فهذا النوع الثاني من التعليم الشرعي لماذا أدخلناه لأنه يشتمل على تعليم المواد الشرعية وليس متخلصاً لها. وحتى التعليم الذي يسمى التعليم العتيق ما وافقت عليه الدولة في صورته الجديدة إلا بعد تعهد وزير الأوقاف السابق بأن نسبة ثلاثين في المائة من مواد هذا التعليم تُصبح مُشابهة للتعليم العام أي الذي أصله فرنسي، 70% هي التي بقيت للعلوم الشرعية (هذا الوضع للأسف لم يبق من النظام الجديد للتعليم العتيق). بالنسبة للتعليم الأصيل في وضعه الجديد العلوم الشرعية فيه أقل. هي موجودة من الابتدائي : يوجد القرآن الكريم ويوجد الحديث الشريف ويوجد الفقه وتوجد السيرة النبوية وتوجد جميع العلوم الشرعية كذلك في الاعدادي، لكن يتميز بأن جميع محتويات التعليم العام توجد فيه. وهذا يعني أن هذا التعليم في وضعه الجديد مترشح لأن ينسخ التعليم العام والتعليم الفرنسي مع الزّمن، لماذا؟ لأنه يحتوي على خير ما فيه من علوم عصرية مادية كالرياضيات والفيزياء والكيمياء وغيرها وما فيه من لغات عصرية للتواصل مع العالم كالفرنسية والانجليزية وغيرها وما فيه من علوم مساعدة للتعرف على المجال الإنساني كالتاريخ والجغرافية إلى غير ذلك، كل هذا موجود فيه، كل حسنات التعليم العام موجودة وتوجد حسنات أخرى إضافية أساسية لاوجود لها في التعليم العام وهي العلم الشرعي بأسماء مواده الأصلية، يعني علم التفسير وعلم الحديث وعلم الفقه وعلم السيرة وعلم الفرائض وعلم التوقيت وغير ذلك كل ذلك موجود فيه فلهذا هو يأتي في الرتبة الثانية من حيث الاهتمام بالعلوم الشرعية بعد التعليم العتيق.
3) التعليم العام :
النوع الثالث هو التعليم العام هذا الذي قلنا إنه متطور على التعليم الفرنسي في أصله. أين يوجد التعليم الشرعي داخل التعليم العام؟ يوجد في مادة واحدة إسمها التربية الاسلامية. واقعها الحالي المطبّق هو أنها مُستمرّة الوجود من السنة الأولى ابتدائي حتى الباكلوريا، لكن على مدى عشر سنوات (ست سنوات في الابتدائي وأربع سنوات في التعليم الاعدادي والثانوي) موجودة بنسبة ساعتين في الأسبوع، أما في السنتين الأخيرتين من التعليم الثانوي أي التأهيلي الآن فهي موجودة بنسبة ساعة فقط في الأسبوع. وبما أن التعليم العام هو التعليم الغالب بمعنى أنه يشتمل على استيعاب أكثر من 99% من أبنائنا ويبقى 1% يتنازعه التعليم الأصيل والتعليم العتيق بما أن الأمر كذلك فإن حظّ التعليم الشرعي داخل التعليم العام هزيل هزيل هزيل هزيل. فالتعليم الشرعي إذن يتمثل في بلادنا في التعليم العتيق أولا ثم في التعليم الأصيل ثانيا ثم في التعليم العام ثالثا في مادة التربية الإسلامية.
أهمية التعليم الشرعي وضرورته
هل التعليم الشرعي نافلة من النوافل، يمكن أن نقوم به أو لا نقوم؟ ومن لم يقم به فلا إشكال؟ هل هو نافلة هل هو مستحب أم سنة؟ أم…؟ أبداً، هو فرض بالمعنيين في الفرضية : فرض عين في الأمور الضرورية التي لابد منها لكل مسلم ليمثّل الإسلام وليكون مسلماً، وهو فرض كفاية في أجزائه الأخرى التي ليست فرض عين. لابد للأمة أن تتعلّم هذا العلم الشرعي بما يحفظ كيان الدين، لابد. لمَ ذلك؟ لأننا نعلم جميعاً أنه لا يقبل منا غير الإسلام {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه}(آل عمران : 84) والبشر لابد من أن يتديّنُوا، حين خلقنا الله خلقنا كائناتٍ عابدة، تعبد اللّه أو تعبد غير الله، الذي لا يعبد غير موجود ولو قال ما قال، لأنه حين لا يعبد شيئاً لا حجراً ولا شجراً ولا وحشاً ولا أي شيء، يعبد هواه، {أفرايت من اتّخذ إلهه هواه}(الجاثية : 22) نحن كائنات عابدة، إمّا أن تعبد الله أو تعبد غير الله. أما الفراغ في القلب فلا وجود له كما لا فراغ في الكون. هل يوجد فراغ في الكون؟ لا وجود للفراغ، الكل مملوء بنوع من أنواع المادة السائلة أو الغازية أو الجامدة. الكون لا فراغ فيه والقلب البشري لا فراغ فيه، فإما أن يمتلئ بالله أو يمتلئ بغير الله.
إذن بما أننا مسلمون واجب علينا لنعرف كيف نكون مسلمين أن نعلم الإسلام، ما هو هذا الإسلام؟ وكيف هو هذا الإسلام، فرض عين على كل واحد منا أن يعلم ما به يكون مسلماً. يجب عليه أن يعرف كيف يشهد، كيف يعتقد، كيف يصلي، كيف يزكي ، كيف يصوم، ويجب عليه أن يعرف كيف يعيش عيشة إسلامية لأنه مسلم. الأمر ليس أمر اختيار وليس أمر استحباب أو ندب إنه أمر فرض وأمر وجوب، لابد أن نتعلّم الشرع.
والأمة بإحساسها السليم حين أحسّت أن الاستعمار يُضْعِف التعليم الشرعي في المستوى الذي تحدثنا عنه وأن هذا الاضعاف لم يتوقف بعد الاستعمار، بِحسِّها السلِيم -أقول- بدأت تُنشئ دُوراً ومعاهد ومؤسسات للتعليم الشرعي على حسب فهمها ودرجة وعيها. فبدأت هذه المدارس ودور القرآن والمعاهد تنتشر في البلاد حتى أزعجت من أزعجت فجيء بهذا التنظيم العام لها عن طريق قانون التعليم العتيق، وفي ذلك خير إن شاء الله.
فهذه المبادرة من الناس، هذه المبادرة الشعبية في إنشاء المدارس الشرعية ماذا تعني؟ تعني أن هناك حاجة ضاغطة ضغطت على الناس وما وجدوا تلبية لهذه الحاجة في المدرسة الموجودة، المدرسة الموجودة لا تسد الحاجة. المدرسة الموجودة الآن في التعليم العام لا يمكن أن تُخرج الإمام، ولا يُمكن أن تُخرج الخطيب العالم بالشّرع أو الواعظ أو المُفْتي أو الذي يستطيع تدبير الشأن الخاص وتدبير الشأن العام بالشرع. لا يستطيع التعليم العام بوضعه الحالي أن يُخرّجه أبداً. لذلك يجب أن يُحلّ العلم الشّرعي محلّه اللائق به. ما أحسن أن يكون لنا تعليمٌ واحد. شيء رائع أن نتوحّد على نظام تعليميٍّ واحد غير متعدِّد بشرط أن ينطلق هذا التعليم الواحد غير المتعدد من اعتماد المقومات الأساسية للأمة ومراعاتها في البرمجة والمنهجة (في البرامج والمناهج) لابد أن يُراعي ذلك كلّه ويُحلّه محلّه اللائق به.
نحن أولاً مُسلمون {هو سماكم المُسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس}(الحج : 76) الصفة التي تجمعنا جميعاً صفة واحدة هي صفة الإسلام. كل ما سوى ذلك لا يَجمعنا، لا تَجمعنا قبيلة لا تجمعنا لهجة، لا يجمعنا اقليم، لا يجمعنا أي شيء على الحقيقة، الذي يجمعنا حقيقةً هو الإسلام. أينما كنا فنحن نشترك في شيء واحد هو الإسلام. فإذن هذا المُشترك العام هو المقدّم وهو الذي يجب أن يُحلّ في التعليم الذي يصنع إنسان الغد، يجب أن يُحلّ محلّه اللائق به، فتعليم العلم الشرعي كما قلتُ ليس نافلة، ليس سنة، ليس مستحبّا، ليس أمراً اختيارياً، بل هو فرض، واجب على الجميع، أفراداً وهيآتٍ ودولةً ووزارة وكل شيء، لابد أن نتعلم العلم الشرعي الذي به نكون مُسلمين ونُمارس الإسلام على بصيرة، على علم، هذه النقطة الثالثة.
أثر التعليم الشرعي في تحقيق الطفرة التنموية
إن هذا العلم الشرعي لا ينفعُنا في أمر الدّين فقط. هذا العلم الشرعي أيضاً ضروري لنا لندخل فيما يُسمى اليوم بالدّول المتقدمة، ليُصبح معدلنا في التنمية عالياً، لنُصبح مُستعملين لجميع طاقاتنا بكفاءة عالية؛ ليُصبح معدّل الدّخل الفردي مرتفعاً، ليُصبح التشغيل للطاقات البشرية والتفعيل للبشر في أعلى مستوياته. إن كل إنتاج وكل نُموّ وكلّ رُقيّ أو تقدّم الأساس فيه هو الإنسان. فالثروة رقم واحد ليست هي الثروة السمكِية ولا الثروة المعدنية ولا الثروة البترولية ولاثروة الذهب… الثروة الحقيقية هي الثروة البشرية، لأن البشر هو الذي يُسخِّر الذهب ويُسخّر التراب ويُسخّر المعادن، ويُسخّر البحر ويُسخر الجو ويسخر الصحراء ويسخر الشمس، ويُسخّر كل شيء لمصلحة هذا الإنسان ولعبادة الله عز وجل.
هاهنا إشكال عندما نُهمِل الطاقة البشرية، نُهمل هذه الثروة، تمرّ حول المقاهي فتجد الإنسان يذْبُل، يتناقص، تجد كائنات مسترخية تتّجه إلى التعفّن. هذه الكائنات هي طاقات في أصلها لو وجدت من يُحسن تشغيلها وتفعيلهاو تفجير طاقاتها في الاتجاه الصحيح، وذلك ممكن في كل لحظة بشروطه وأوّل شروطه في الأمة الإسلامية : العلم الشّرعي، لمَ؟ لأنه يُعطي للإنسان الأساسيات التي تُمثّل الحافز الحقيقي لانطلاقه؛ يُعطيه الحرّية الكاملة، ويُعطيه الرّسالية الهادفة، ويُعطيه الجهادية العالية، كل ذلك عن طريق العلم الشرعي، لتقع الطفرة في التنيمة، لا أقول الصعود في النمو ولكن الطفرة، القفزة.
1) العلم الشرعي يُعطي الحرية الكاملة :
ليحدث ذلك نحتاج إلى تحرير البشر من غير الله، ولا يكون ذلك بغير العلم النازل من عند الله ولا يكون ذلك بغير وحي الله، إنما يتحرر الإنسان إذا صار عبداً كاملاً لله وحْده فإنّه يتحرر من جميع ما سواه ولا يَبْقى عليه لغير الله سلطان. ذلك إنما يتم بالعلم الشرعي. إذا عرف العبد ربّه ما بقي لغير الله عليه سلطان. هذه الحرّية هي أساس الإبداع والابتكار. فالإنسان المسلوب الحرية لا يستطيع الابتكار -كما يقال-. طاقاته تكون معطّلة يكون مسلوب الإرادة مُستلب الفكر لا يستطيع أن يفعل شيئا، يُوجّه كالبهيمة تُستخرج منه الطاقة كما تُستخرج من الأرض أو من الحيوانات، لكن إذا كان حرّاً فإنه لا تُستخرج منه الطاقة بل تخرج منه الطاقة بحرّية، هو يُنتجها بنفسه ويُنتجها بدرجة عالية وبمُبادرة ذاتية. ما يُسمى اليوم بـالإبداع والابتكار مستحيل بغير الحرّية.
2) العلم الشرعي يعطي الــرسالية الهادفة :
الأمر الثاني هو هذه الرسالية الهادفة في الحياة. عندما لا تكون للإنسان رسالة، يعيش بلا قضية، عملياً يضيع، يدخل ضمن دائرة الضّياع لا تكون له وِجهة محددة لا تكون له رسالة، لا تكون له قضية يعيش من أجلها ويُدافع ويبذُل ويُضحّي ويفعل كل شيء من أجلها. إن الشخص الذي له رسالة يكون شخْصاً واعياً هادفاً مُمَنْهجاً متّجها إلى هدفه مُنطلقاً شاعراً بنفسه وبمعناه. قبل أن تكون له رسالة يكون مُنْعدم المعنى، من هو؟ هو حيوان يأكل ويشرب وينام؟ ليس هذا هو ابن آدم.
هذه الرسالية إنما تكون بهذا العلم الشرعي لِمَ؟ لأن الله عز وجل حين جعلنا من أمة سيدنا محمد لم يجعلنا مسلمين فقط، بل جعلنا شُهداء على النّاس، أي جعل لنا نَفْس وظيفة المُرسلين من الأنبياء لأنه لا نبي بعد محمد ، فمن يُبعث إلى هؤلاء الأقوام منذ محمد حتى تقوم الساعة؟ من يُبلّغهم الدين؟ من يُعلّمهم الدين؟ من ينقل لهم الدين؟ من يَشهد عليهم؟ هو شَهِد على الأولين ومن يشهد على الآخرين؟ من يُبلّغ الدين إلى المناطق التي لم يبلغها نهائيا؟ محمد مات {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرّسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم}(آل عمران : 144) >من كان يعبد محمداً فإن محمّداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت<.
فهذه الرسالية أتت من هذه النّقطة. هذه الأمّة ليست أمّة مُسلمة عادية في درجة الأمم الإسلامية التي سبقت محمداً . جميع أمم الأنبياء السابقين هُم أمم إسلامية وجميع أتباعهم مسلمون، لكن هذا النوع من المُسلمين الذين جاؤوا في الأخير والذين هم أتباع محمد هؤلاء مُكلّفون تكليفاً خاصّاً لم يُكلّفه المسلمون السابقوم قبل، هو حمل هذا الدين وتبليغه إلى من لم يبلغه، تمثيله أولا، يجب أن يكونوا وسطا {وكذلك جعلناكم أمّة وسطا}(البقرة : 142) أي خياراً عُدُولا، يُمثِّلون الدين حقيقة، الدين لباس {ولباس التقوى ذلك خير}(الأعراف : 25)، الدين ليس كلاما في الكتب وليس نوايا في القلب هو مُمارسة عمليّة تظهر في اللسان وفي الجوارح >ليس الإيمان بالتمنّى ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل<.
المطلوب إذن من كل مسلم كغيره من المسلمين السابقين أن يُمثّل الدين، وأن يُبيّن الدين لمن لم يُبيّن له، أن يُبلّغ الدين لمن لم يُبلّغ له، هذا التكليف جديد في استمراريته. قبل كان في صورة المندوب إليه من فعله فقد فعله ومن لم يفعله لم يفعله لأنه سيأتي نبيّ آخر يُجَدّد الدّين. الآن لا، لا وجود لنبيّ ولا وجود لكتاب جديد قادم. الكتاب حُفظ من قِبل الله جل جلاله، والأمة مُلزَمة بتمثيله أولاً، وبيانِه ثانيا، والدّفاع عنه ثالثا، >يحمل هذا الدين من كل خلف عُدُوله ينفون عنه تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المُبطلين<. من يريد تفسيره بشكل أعوج لأنه جاهل (تأويل الجاهلين)، هذا يجب على الأمة أن تردّه إلى الصراط المستقيم وتعلّمه كيف يفهم الدين. وكذلك بالنسبة لمن أراد أن يزيد في الدين كما زادت بنو اسرائيل فيما أعطي لها {يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحق}(النساء : 170) الدين كمُل {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا}(المائدة : 4). وإذا ادّعى مُدّعٍ بنية الإبطال لهذا الدين ادعى أنه هذا هو الدين (هو مبطل وينتحل الاسلام كحال المستشرقين وأشباههم والمستغربين يعني الذين يُروّجون للمستشرقين) هذا كذلك ينبغي للأمة أن تُصون الدّين من انتحاله، كما تصونه من غٌلوّ الغالي ومن تأويل الجاهل.
الأمة مطلوب منها أن تَعْلَم العلم الشرعي ولا تستطيع أن تفعل أي وظيفة من هذه الوظائف وهي جاهلة بالعلم الشرعي. لابد أن يفشو العلم الشرعي ويشيع في الأمة وذلك لا يكون إلا عن طريق التعليم، فهذا العلم الشرعي هو الذي يمنح للعبد الحرّية الحقيقة التي بها يُنتج بذاتية ويبتكر ويُبدع في مختلف المجالات، والذي يعطيه الرسالية والهدفيّة في الحياة ويعطيه قضية يعيش من أجلها هي وحمل هذه الأمانة التي حملها الأنبياء حملها محمد .
3) العلم الشــرعي يعطي الجهادية العالية :
وهذا العلم الشرعي هو الذي يعطي للعبد كذلك قُدرة جهادية عالية لأنه يبذل لله بتوكّلٍ على الله ابتغاء مرضاة الله لا يرجو من المخلوقين جزاءاً ولا شكوراً وجزاؤه الجنة عند الله سبحانه وتعالى، فالبذل يكون في أعلى الدرجات ولا يمكن أن يكون نمو بدون بذل، بدون تضحية بدون جهاد لا يمكن. فإذن هذه التنمية التي نتحدّث عنها أو نريد أن ننطلق فيها لابد لها من أساس من الأسس هو هذا العلم الشرعي الذي يجب أن يمكّن له في التعليم ويمكّن له في العقول وفي السلوك.
خــــلاصـــة
إن هذا الواقع الموجود عليه التعليم الشرعي الآن هو واقع غير سليم، والحاجة الآن إلى أن يُقوّى التعليم العتيق ويُقوّى التعليم الأصيل، وتُقوّى المادة الشرعية في التعليم العام ليُمكن سد بعض النقص، ونتّجه جهة المطلوب ليتحرّر الإنسان وتنطَلق طاقاته في الاتجاه الصحيح وتتحسّن الأحوال.
إننا لو حاولنا نحن المُسلمين في أي نقطة من الأرض أن ننطلق في التنمية بغير الإسلام، بغير العلم الشرعي، بغير الوحي، لو حاولنا لن ننجح لماذا؟ لأن غيرنا من الكفّار ليسوا مُكلّفين بحمل الشرع وتبليغه ليسوا أمناء على الشرع، أما نحن فأمناء . وحين نُريد أن نَكون كالكفار فإننا نعاقب. نحن شُغْلُنا لا يُبْنى إلا على الحلال لا يمكن أن يُبْنى على الحرام، إذا بُني شغل ألمانيا وشغل ابريطانيا على الحرام، فقد جاءت على أصلها. الأمة الإسلامية لا سواها هي المُكلّفة بحراسة العالم. إننا يا أيّها الأحبة نأخذ آثاماً عظيمة من فساد الأمم الأخرى. الأمم الأخرى فسادها يرجع علينا نحن منه الإثم لأنه كان المفروض أن نكون صالحين ونُصلح أولئك، نحن حُرّاس العالم في الحقيقة نحن الأمناء على دين الله في الأرض وعلى القسط في الأرض وعلى العدل في الأرض، بهذا جاء الدين {لقد أرسلنا رُسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}(الحديد : 24).
فالله نسأل أن يتوب علينا في هذا الشهر المبارك توبة نصوحاً فيرحمنا ويغفِر لنا ويُعتقنا من النار وبارك الله لنا ولكم في هذا الشهر.